في عالمٍ تغزوه صيحات الموضة بشكلٍ- يمكن القول- إنه هستيري، لا تستغربي يا عزيزتي أنكِ قد تسقطين فريسةً بريئةً لجعل نساءٍ أخريات "سلعةً"، تُباع وتُشترى في عالم تجارة الشعر البشري الكبير.
ويحق لكِ أن تتعجّبي من ذلك لأن ما يجري خلف ستار تجارة الشعر ليس أمراً معروفاً بالنسبة إلى الجميع.
ولعلّ كل استغرابٍ قد يزول حين تعلمين أن كلّ باروكة تشتريها، أو كل خصلة شعر تركبينها، فأنتِ تربطين نفسك بعلاقةٍ غير مرئية مع كبرى الشركات التي توظف خبراء تسويق على أعلى المستويات، وتضخّ ملايين الدولارات من أجل الترويج لتجارة الشعر المستعار.
تدرك الشركات الكبرى أنه يمكنها بكل سهولة تغذية الحاجة البشرية إلى التزيّن والتجمّل، في عالمٍ يعتبر طول شعر المرأة ونعومته- ولونه طبعاً- علامة بارزة على الجمال "المطلوب" منها الالتزام بمعاييره.
يقع الجميع تقريباً ضحيةً لتلك النزعة الاستهلاكية؛ ففي الوقت الذي يجد فيه الأغنياء أنفسهم مدفوعين إلى استنفاد أموالهم للحصول على منتجٍ تجميلي هنا أو هناك، فإن الكثير من نساء الطبقة الفقيرة يجدن أنفسهن "سلعة" لإرضاء رغبات الطبقات الأكثر ثراء.
وبالطبع كل حديثٍ عن تسخير ملايين النساء من حول العالم لصناعة الباروكة، وتعزيز مكانة تجارة الشعر في عالم البيزنس قد يكون مملاً. فغالباً ما نعتبر أنها طبيعة الحياة، وكل الأمور تمضي هكذا، قم نسأل أنفسنا: أيُّ شيءٍ جميل في العالم لم يكن وراءه تاريخٌ رهيب؟
تاريخ تجارة الشعر الطبيعي
ثمة إشارات على أن تجارة الشعر الطبيعي لها جذور مستقرة في التاريخ؛ ففي مصر القديمة كانت الباروكة الطبيعية رمزاً يُشير إلى مكانة صاحبها الاجتماعية، وعادةً ما كان يتم استيراد الباروكات من البلدان البعيدة، أبرزها الهند والصين.
وفي أوروبا خلال القرن 19 أصبح استخدام الشعر المستعار أمراً مالوفاً بين الأثرياء، حتى صارت عواصم- مثل لندن وباريس- مراكز معتمدة يتم فيها جمع وصناعة ومن ثم تجارة الشعر البشري.
ما يعني أنه، وبحلول القرن 19، كانت تجارة الشعر قد انتشرت بشكلٍ واسع، حتى صارت تُقام لها مزادات علنية، نعم قرأتم جيداً: مزادات علنية.
تجلس الفتاة على منصة في منتصف السوق، حيث ينادي البائع مادحاً "بضاعته"، فيتسابق الحاضرون ليعرض كل منهم سعراً أعلى من الآخر، ومن ثم يتم قصّ شعر الفتاة على الفور. وفي بعض الأحيان كان أهل الفتاة يساومون الشاري على زجاجة نبيذ إضافية لإتمام الصفقة.
في سان فرانسيسكو أيضاً تمّ تخصيص سوق لبيع الشعر يُقام كل يوم جمعة.
مع تزايُد الطلب على الشعر الطويل، وميل أبناء الطبقة البرجوازية إلى القبعات الفخمة التي تتطلب شعراً فضفاضاً، صارت عادة إزالة شعر النزلاء في السجون والمستشفيات مفيدة لتجارة الشعر، قبل أن تصبح الأديرة مصدراً مهماً للشعر المستعار.
فعادةً ما يقصّ الرهبان والراهبات شعرهم كجزءٍ من طقوس نبذ ملذات الدنيا، وتكريس أنفسهم للصلاة والعبادة، حتى قيل إن أحد الأديرة باع أكثر من طن "شعر الكنيسة" مقابل 4000 جنيه إسترليني في تسعينيات القرن الـ19.
اليوم، لا تزال تجارة الشعر تلقى الرواج نفسه، وإن اتخذت صوراً أكثر تستراً. ووفقاً لإحصاءات التجارة الدولية لـ52 دولة عام 2021، تجاوزت الصادرات العالمية من الشعر البشري نحو 206 ملايين دولار، في نمو سريع جداً، مقارنة بالعام الماضي (77 مليون دولار).
وقد احتلت الدول الآسيوية، مثل الهند (مثلت وحدها 80% من الصادرات)، وميانمار، وهونغ كونغ، وباكستان، إضافة إلى البرازيل، قائمة المصدّرين. وإن كانت التقديرات الأخرى تشير إلى أن قيمة صناعة الشعر تتجاوز تلك الأرقام بكثير، لتصل إلى نحو مليار دولار!
رأسٌ أصلع خير من جيب خاوٍ
رغم أنها عمل قانوني فإن تجارة الشعر دائماً ما تدور في أجواءٍ سرية، لا يرشح عنها وعن العاملين فيها سوى القليل من المعلومات. ولعلّ السبب في ذلك أنها تجارة بالفقر والفقراء.
تعتمد تجارة الشعر على قصّ شعر الفتيات الفقيرات لتزيين رؤوس الأغنياء. وعادةً ما يقوم الوكلاء الصغار بجولاتٍ في القرى الفقيرة- ببلادٍ مثل الهند، والصين، وميانمار، وحتى أوروبا الشرقية- ليعرضوا على الصغيرات مبالغ قليلة، لكنها كافية لإقناعهن بالتخلي عن شعرهن.
قبل بضع سنوات ذكرت تقارير صحفية أن بعض الأزواج في الهند كانوا يُجبِرون زوجاتهم على بيع شعرهن، في الوقت الذي يتم فيه خداع أطفال الأحياء الفقيرة لحلق رؤوسهم، مقابل بعض الألعاب.
في بعض المناطق الهندية المُعدمة، تقوم نساء الأسر الفقيرة بقصّ شعورهن بانتظام، وجمعه والاحتفاظ به حتى يأتي البائعون. كرة الشعر التي تزن 500 غرام قد يصل سعرها إلى 500 روبية (7 دولارات أمريكية)، وهو ما يمكّن الأسرة من شراء الحليب، أو الخضراوات، أو بعض الأدوات المنزلية الأساسية، مثل الأطباق والملاعق.
دول أوروبا الشرقية الفقيرة أيضاً تلعب دوراً محورياً في تجارة الشعر. كانت أوكرانيا في بعض الأحيان مركزاً رئيسياً لجذب الشعر المستعار، عبر لافتاتٍ دعائية في الأحياء الفقيرة من العاصمة كييف، تقول: "نشتري الشعر بأعلى سعر، قصة الشعر مجانية". فللشعر الأشقر سعره الخاص، ويُباع بضعف الثمن.
لم يخلُ الأمر من أعمال العنف في بعض الأحيان، ففي عام 2006 مثلاً سرقت عصابة هندية شعر امرأة، بعد الإمساك بها وقصّه عنوةً، وعام 2013 طاردت الشرطة الفنزويلية عصابة من اللصوص كانوا يستهدفون امرأة بسبب شعرها الطويل، فقد كانت العصابات تقص شعر النساء بالقوة، عبر استخدام الأسلحة في معظم المرات.
عام 2003 واجهت صالونات التجميل في لندن نقصاً في وصلات الشعر (Hair Extensions)، فصارت تشتري الشعر من مصادر غير متوقعة، بما في ذلك السجون الروسية ودور الرعاية، وفقاً لتقرير نشرته صحيفة The Sydney Morning Herald.
وكانت فيكتوريا بيكهام قد اعترفت بتجارة الشعر، مع تعليقٍ فاضح عام 2004 لصحيفة The Times، جاء فيه: "تمديداتي تأتي من سجناء روس، لذلك لدي زنزانة روسية على رأسي". وهو ما لم ينفه "مركز موسكو لتأهيل السجون".
في معابد جنوب الهند كذلك يُسافر المخلصون البوذيون لمئات الأميال، وقد يقفون في طوابير طويلة لحلق رؤوسهم لأسباب دينية؛ ما يوفر مورداً مالياً لرجال معبد فينكاتيشوارا، وهو معبد هندي، وثاني أغنى مؤسسة دينية بعد الفاتيكان.
يجري المعبد مزاداً إلكترونياً لبيع الشعر كل بضعة أشهر، وخلال أحد مزادات عام 2019، كسب المعبد ما قيمته أكثر من مليون دولار أمريكي من خلال بيع 4300 كلغ من الشعر.
ظروف عمل سيئة لصناعة باروكة واحدة
إلى جانب "البُعد اللاإنساني" في تجارة الشعر فإن صناعة الشعر موصومة أيضاً باستغلال الأيدي العاملة الرخيصة، ودفعها إلى العمل بظروفٍ غير آدمية.
تتم عملية تنظيف الشعر الطبيعي ومعالجته، وتصفيفه، وتعقيمه، قبل تعبئته، وجميعها مراحل تحتاج إلى العمل اليدوي، ما يعني الاعتماد على عددٍ كبير من العمال الذين يعملون أكثر من 12 ساعة يومياً، مقابل أجرٍ ضئيل جداً لا يعادل ربع أجر عمال البناء أو النظافة.
وحتى في أقسى ظروف الفقر والحاجة، ثمة تحيّز على أساس الجنس في الوظائف المرتبطة بتجارة الشعر الطبيعي ومعالجته.
ففي معظم الأحيان تتولى النساء والأطفال العمليات المكثفة والطويلة، مثل فرز وتنظيف الخيوط، في عملٍ رتيب يؤثر على صحة الظهر أو الرئتين وسلامة العيون، في حين يحتفظ الرجال بالوظائف الأسهل نسبياً، مثل: التعبئة، والتغليف، أو التسويق.
في النهاية، تصل حزم الشعر المقصوصة إلى نساء الغرب الميسورات اللواتي يستخدمنها على شكل باروكة، أو وصلات لإطالة وتكثيف شعرهن.
ولسنا بحاجة إلى القول إن الصالونات تبيع هذه المنتجات بأضعاف أضعاف ما دفعته لشرائها. فقد تحدث تقرير صحفي نُشر عام 2022، كيف أن صالوناً في لندن كان يتقاضى رسوماً تصل إلى 500 دولار مقابل حزم من الشعر الطبيعي طولها 20 بوصة، في الوقت الذي لم يتكلف هذا الصالون أكثر من 100 دولار لشراء المنتج.
لا تهتم السيدات عادة بمصدر الشعر الأصلي، ولا بالظروف التي تم فيها سلب الشعر من صاحبته، وفي كثير من الأحيان لا تعكس الملصقات الموجودة على العبوة، والتي تؤكد أن هذا الشعر "هندي" أو "لاتيني" أو "روسي"، مصدَرها الحقيقي.