يُعتبر الأمريكي وارن بافيت من أشهر المستثمرين العالميين في العصر الحالي، مع خبرته الاستثمارية الضخمة التي تمتد عقوداً طويلة. فهو مؤسّس إمبراطورية "بيركشاير هاثاواي" (Berkshire Hathaway) التي تضمّ تحت مظلتها أكثر من 60 شركة.
يتربع الملياردير الأمريكي على عرش المركز الخامس ضمن قائمة أثرى أثرياء العالم، مع ثروةٍ إجمالية تقارب 115 مليار دولار؛ بدأ في تكوينها منذ كان ابن 11 عاماً، حين اشترى أول سهمٍ في حياته، ثم تقدّم لدفع الضرائب عن عمر 13 عاماً.
بنى ثروته اعتماداً على قدرةٍ نادرة في اختيار الأسهم الرابحة، والتقاط فرص الاستثمار الذكية. لكنه فوق كل ذلك رجلٌ متمرّس في الأعمال الخيرية، وشخصية متواضعة، ومتحدث مؤثر على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة. فمن هو وارن بافيت؟
نبوغ منذ الطفولة.. كيف كانت بدايات وارن بافيت؟
وُلد وارن بافيت عام 1930 في مدينة أوماها بولاية نبراسكا، وسط الولايات المتحدة، وكان الثاني بين إخوته الثلاثة. والده هوارد بافيت كان "سمساراً" للأوراق المالية، وعضواً في الكونغرس عن ولاية نبراسكا، ما أثر على اهتمامات وارن.
فمنذ سنوات طفولته الأولى وحتى شبابه، أبدى وارن بافيت اهتماماً لافتاً بعالم المال والأعمال، وأظهر نبوغاً في الاستثمار والتنبؤ المالي. فقد كان يطوف منازل مدينته ليبيع العلكة، ثم قرر بيع زجاجات الكوكاكولا في ملعب الجولف المحلي.
أثبت بافيت جدارته التجارية منذ سن المراهقة، حين اشترى مع صديقه ماكينة "بينبول" ووضعاها في محل حلاقة، ليجنيا أرباحاً هائلة في وقتٍ قصير قبل أن يبيعاها لاحقاً مقابل 1200 دولار، رغم أنهما اشترياها بـ25 دولاراً فقط.
عندما أصبح عمره 11 عاماً، كان الفتي المغامر -المُغرم بعالم الأسهم والأوراق المالية، أسوةً بوالده- يجري أول عملية تداول عملات ناجحة له.
اشترى 3 أسهم لنفسه، و3 أخرى لأخته، في شركة غاز محلية، قبل أن تتعرض لانتكاسات وينصحه الجميع ببيع الأسهم التي انخفضت قيمتها. لكن الفتى آثر الصبر، حتى تعافت الشركة وارتفعت قيمة الأسهم، ليتمكن من بيعها في النهاية مع ربحٍ معقول.
بعد أن أنهى دراسته الأولية في مدرسة أوماها، انتقل وارن بافيت إلى نيويورك لدراسة الأعمال في جامعة كولومبيا، حيث حصل على درجة الماجستير في الأعمال عام 1951، وعمل لفترةٍ قصيرة كـ"سمسار" للأوراق المالية، قبل أن يقرر العودة إلى أوهاما لافتتاح عمله الخاص.
"بيركشاير هاثاواي".. إمبراطورية متعددة الأذرع
عاد وارن بافيت إلى مسقط رأسه ليطبّق ما تعلّمه في كولومبيا من مبادئ الاستثمار، وبدأ التركيز على استثمار الأسهم والشركات. وبعد عدة تجارب صغيرة ناجحة، لفتت شركة نسيج في نبراسكا تُدعى "بيركشاير هاثاواي" اهتمام بافيت.
كانت الشركة تغلق مصنعاً تلو الآخر، لكن وارن بافيت لاحظ نمطاً معيناً في اتجاه سعر الأسهم جعله يرى فيه فرصةً سانحة، رغم أنه رأى أن النسيج عموماً صناعة آخذة في الاضمحلال.
ووفقاً لموقع Investors، توسع بافيت في شراء أسهم الشركة، وبحلول منتصف الستينيات، كانت له السيطرة على غالبية الأسهم فيها، قبل أن تصير "بيركشاير هاثاواي" نقطة انطلاق قوية في مسيرة وارن بافيت الاستثمارية الناجحة.
فقد أصبح مديرها ورئيسها التنفيذي، وعمل على توسيع وتنويع قاعدة استثماراتها، لتشمل قطاعات عديدة غير مقتصرة على صناعة المنسوجات. تعددت نشاطات الشركة، وصارت تتضمن التأمين، والخدمات المالية، والصناعات الكيميائية، إضافةً إلى النسيجية، والخدمات اللوجستية، وغيرها.
في عام 2016، اشترى وارن بافيت حصة من شركة "أبل" (وزاد حجم حصته عدة مرات)، كما يُعتبر من المستثمرين الكبار في شركة "كوكاكولا"، بالإضافة إلى شركة "أميريكان إكسبريس" التي تعمل في مجال بطاقات الائتمان والخدمات المالية.
إلى جانب استثماره في شركة "فيزا" للمدفوعات الإلكترونية وتحويل الأموال، وشركة "جنرال إلكتريك" العاملة في مجال الطاقة والتكنولوجيا، كما يملك حصة في بنك "ويلز فارجو" أحد أكبر البنوك في الولايات المتحدة.
التركيز على القيمة.. "روشتة" بافيت للاستثمار الناجح
يوصف وارن بافيت بأنه "المستثمر الأكثر نجاحاً في التاريخ"، نتيجة لخبرته ومعرفته العميقة بسوق الأسهم والشركات. فهو لا يقذف بأمواله في صناديق الشركات اعتباطاً، بل له مبادئ عملية راسخة، تميزّه عن باقي المستثمرين.
يفضل الاستثمار مثلاً في الشركات "ذات القيمة"، أي التي تقدم قيمة حقيقية تجعلها تتمتع بمكانة صلبة وأساسية، وتُعتبر مستقرة ومربحة على المدى الطويل.
يحرص بافيت كذلك على الاستثمار في الشركات التي تتمتع بمزايا تنافسية وتتميز بحصة سوقية كبيرة، كما يركز على الشركات التي توفر عوائد جيدة للمساهمين، ويفضل الشركات التي توزع أرباحها بانتظام وتحرص على تحسين قيمة الأسهم.
يهتم كذلك بالكيانات التي تبتعد عن الديون، وتعمل على الاحتفاظ برأس المال وتحسين بنيتها المالية، بدلاً من التركيز على الربح السريع قصير الأجل.
في شبابه، تأثر بافيت بالمستثمر الأمريكي الشهير بنجامين جراهام، صاحب الكتاب الأشهر في مجال الاستثمار "المستثمر الذكي"؛ وهو أبرز من نادى بـ"الاستثمار المبني على القيمة"، أي إن "على المستثمر أن ينظر إلى الشركة التي أصدرت السهم على أنها تمثل القيمة الحقيقية وليس إلى قيمة السهم، سواء كان سعره مرتفعاً أم منخفضاً".
باستثناء ذلك، كان وارن بافيت يتحفظ في الاستثمار، ويحجم عن الدخول في مخاطرات، إلا في الشركات التي تتمتع بقيمة وأساسٍ مالي صلب. وقبل أن يقدم على أي خطوة، كان حريصاً على تحليل الشركات المُراد الاستثمار فيها بشكلٍ دقيق.
فيأخذ وقته الكامل في درس التقارير المالية والاقتصادية، ويحلل البيانات الجارية والسابقة للشركات، قبل أن يتمكن من اتخاذ القرارات الاستثمارية بشكلٍ سليم.
رغم تأثير جائحة كوفيد-19 على معظم الاستثمارات في العالم، إلا أن ثورة وارن بافيت تضاعفت خلال عام 2022 فقط، لتصل إلى 101.1 مليار دولار.
فقفز سعر سهم "بيركشاير هاثاواي" من الفئة "ب" بنسبة 41.6% خلال عامٍ واحد، ليصل إلى 278.1 دولار، كما زاد سعر السهم من الفئة "أ" بأكثر من 40% أيضاً، ليصل إلى 418.8 ألف دولار.
"المال وسيلة وليس غاية"
إلى جانب نجاحه الاستثنائي في مجال الأعمال، يُعتبر وارن بافيت من أكثر رجال الأعمال الذين يتبرعون بجزءٍ كبير من أموالهم للأعمال الخيرية.
وتشير التقديرات إلى أن قيمة تبرعاته الخيرية حتى الآن تزيد عن 46 مليار دولار أمريكي، فهو يقدم تبرعات دورية كبيرة للعديد من المؤسسات الخيرية، مثل مؤسسة "بيل وميليندا جيتس"، ومؤسسة "سوزان كومن لأبحاث السرطان"، إلى جانب مؤسسة "تيد شتيفينس" لمكافحة الفقر، وغيرها.
دعم بافيت أيضاً الجمعيات الخيرية المحلية في ولايته نبراسكا، حيث يتبرع بملايين الدولارات للمستشفيات والمدارس وغيرها من المؤسسات المحلية.
وفي عام 2006 أسّس "مؤسسة بافيت الخيرية"، التي تعهد من خلالها بأن يكرس أكثر من 80% من ثروته للأعمال الخيرية. وتدير مؤسّسته مجموعة من المشاريع الخيرية المختلفة في مجالات عدة، مثل: التعليم، والصحة، ومكافحة الفقر، والقضاء على الجوع.
ورغم ثروته الهائلة، إلا أن وارن بافيت يشتهر بأنه يعيش نمط حياةٍ بسيطاً بعيداً عن البذخ والإسراف، وهو يعتبر هذه الحياة عنصراً أساسياً في نجاحه.
فهو لا يزال يسكن في منزله القديم في أوماها، الذي اشتراه في عام 1958 بـ31 ألف دولار، كما يتجنب شراء السيارات الفاخرة، ويفضل استخدام سيارة واحدة لفتراتٍ طويلة. يتجنب بافيت الذهاب إلى المطاعم الفاخرة، بل يفضل تناول أغلب وجباته في "ماكدونالدز"، كما يرتدي الأزياء البسيطة ولا يهتم كثيراً بالموضة.