تشعر كثير من الأمهات بأن أطفالهن لا يزالون جزءاً منهن مهما تقدموا في العمر.. في الواقع هذه المشاعر أكثر من مجرد مجاز يعبر عن حب الأمهات لأطفالهن وتعلقهن بهم، فقد أثبت العلم أنها صحيحة حرفياً. أثناء الحمل تعبر خلايا الجنين المشيمة لتدخل إلى جسم الأم ويمكن أن تصبح فيما بعد جزءاً من أنسجتها، وبذلك فإن أجزاء من الجنين لا تزال تعيش داخل جسد الأم حتى بعد ولادته، ويمكن أن تبقى هذه الخلايا في جسد الأم لعقود.
الخلايا الكيميرية الدقيقة
يعني هذا "الغزو الخلوي" أن الأمهات يحملن مادة وراثية فريدة من أجساد أطفالهن، مما يخلق ما يسميه علماء الأحياء بـ"الخلايا الكيميرية الدقيقة"، في إشارة إلى الخلايا الجنينية التي تسافر عبر المشيمة من جسد الجنين إلى مجرى الدم لدى الأم ثم إلى أنسجتها.
استلهم هذا الاسم من الأساطير اليونانية، فقد كان الكيميرا وحشاً مخيفاً بثلاث رؤوس، يمتلك رأس وجسد أسد من ناحية، ورأس وضرع ماعز من ناحية أخرى، أما ذيله فكان عبارة عن رأس ثعبان.
وفي الحالات الطبيعية نحمل في أجسادنا نوعاً معيناً واحداً من الحمض النووي، لكن في حالات "الكيميرا" قد يحمل الشخص في أنسجته نوعين مختلفين من الحمض النووي.
لكن كيف يؤثر هذا الغزو الخلوي على الأم؟
يجادل فريق من علماء الأحياء بأنه لكي نفهم حقاً ما تفعله الخلايا الكيميرية الدقيقة للأمهات، نحتاج إلى معرفة سبب تطورها في المقام الأول.
منذ ملايين السنين وحتى الآن تطورت الأجنة لدى الثدييات المشيمية إجمالاً، وباتت قادرة على التلاعب بفسيولوجيا الأم وزيادة نقل الموارد مثل التغذية والحرارة إلى الطفل النامي. وقد طور جسد الأم بدوره تدابير مضادة لمنع التدفق المفرط للموارد.
لكن الجزء الأكثر إثارة للاهتمام هو أن الخلايا الجنينية أصبحت قادرة على عبور المشيمة لتدخل في مجرى دم الأم، والاندماج كذلك مع أنسجتها.
تعتبر الخلايا الجنينية خلايا متعددة القدرات مثلها في ذلك مثل الخلايا الجذعية، مما يعني أنها يمكن أن تنمو لتشكل أنواعاً عديدة من الأنسجة. بمجرد دخول الخلايا الجنينية إلى مجرى دم الأم، تدور هذه الخلايا في الجسم ثم تستقر في الأنسجة.
تقول عالِمة الوراثة بجامعة ولاية أريزونا، إيمي بودي، إن هذه الخلايا تستخدم بعد ذلك إشارات كيميائية من الخلايا المجاورة لتنمو بحيث تصبح شبيهة بالخلايا المجاورة لها، فتشكل معها ما يشبه النسيج الواحد.
ماذا عن رد فعل الجهاز المناعي؟
نعلم أن الجهاز المناعي عادة يقوم بالتصدي لأي أجسام غريبة عن جسمنا، لكن في حالة الأم الحامل، فإن جهازها المناعي لا يبدأ بمهمة إزالة الخلايا الجنينية إلا بعد الحمل، لكن في ذاك الوقت يقوم الجهاز المناعي بقتل الخلايا الجنينية التي لم تندمج بعد مع أنسجة الأم، أما الخلايا الجنينية التي سبق أن اندمجت بأنسجة الأم تفلت من قبضة الجهاز المناعي، وتبقى في جسد الأم لتشكل جزءاً لا يتجزأ منها، وفقاً لما ورد في موقع smithsonianmag.
ماذا عن الأمهات اللواتي أنجبن عدة أطفال؟
عندما تنجب الأم عدة مرات، يقوم جسدها بتجميع الخلايا من كل طفل، ومن المحتمل أن يعمل كخزان، ينقل الخلايا من الأخ الأكبر إلى الأصغر ويشكل كيميرات دقيقة أكثر تعقيداً.
كذلك يعتقد العلماء أن وجود خلايا جنينية في جسم الأم، قد يحدد متى يمكن أن تحمل مرة أخرى.
يقول ديفيد هيج، عالم الأحياء التطوري بجامعة هارفارد: "أعتقد أن أحد المجالات الواعدة لإجراء مزيد من الأبحاث يتعلق بفقدان الحمل غير المبرر، وما إذا كان الأشقاء الأكبر سناً، يمكن أن يلعبوا دوراً في تأخير ولادة الأشقاء الأصغر سناً".
نظراً إلى كل هذا التعقيد، كان من الصعب دراسة الخلايا الكيميرية الدقيقة حتى وقت قريب.
كيف تؤثر هذه الظاهرة على الأم؟
تم اكتشاف هذه الظاهرة منذ عدة عقود، عندما تم اكتشاف الحمض النووي للذكور في مجرى دم المرأة. لكن تقنيات علم الوراثة في ذلك الوقت لم تستطع الحصول على صورة تفصيلية كافية لتفكيك الوضع الخلوي الدقيق.
الآن، تتيح تقنيات التسلسل العميق للباحثين تحديد أصل الحمض النووي في أنسجة الأم بشكل أكثر شمولاً عن طريق أخذ عينات من العديد من المناطق في الجينوم، وضمن ذلك الجينات التي تساهم في المناعة. هذه الجينات فريدة بالنسبة للفرد، وبالتالي يمكن أن تساعد في تمييز الحمض النووي للأم عن الحمض النووي لأطفالها بدقة أكبر.
ومع ذلك، فإنّ فهم كيفية تفاعل الخلايا الجنينية مع خلايا الأم سيكون صعباً، كما تقول بودي. إذ لا نزال بحاجة إلى مزيد من الدراسات لفهم الإشارات الخلوية التي تجعل الخلايا الجنينية تنظم فسيولوجيا الأم.
تقول بودي: "من المحتمل أن يكون ذلك بمثابة مفاوضات بين جسم الأم وخلايا الجنين، حيث يتوقع جسم الأم دخول مستوى معين من الخلايا الكيميرية الدقيقة التي يحتاجها جسم الأم للعمل بشكل صحيح".
على سبيل المثال، أظهرت التجارب السابقة أنه عندما تتعرض الخلايا الجنينية للفأر لهرمونات الرضاعة في المختبر، فإنها تأخذ سمات مماثلة لتلك الموجودة في الخلايا الثديية، مما يشير إلى أن أنسجة الثدي قد تكون نقطة ساخنة للكيميرية الدقيقة.
تقول الباحثة ميليسا ويلسون سايرس: "قد يكون الإرضاع الطبيعي والصحي نتيجة لإشارات من الخلايا الجنينية لجسم الأم لحثها على إنتاج الحليب".
لكن أشارت الدراسات أيضاً إلى أن السمات نفسها التي تسمح لخلايا الجنين بالاندماج في أنسجة الأم- مثل التهرب من جهازها المناعي- تجعلها أيضاً شبيهة بالخلايا السرطانية، مما قد يؤدي إلى زيادة تعرض الأم للإصابة بالسرطان.
ويتوقع العلماء أن الخلايا الجنينية يجب أن توجد بشكل أساسي في الأنسجة التي تلعب دوراً في نقل الموارد إلى الجنين. ويشمل ذلك الثدي، حيث قد تؤثر على إنتاج الحليب؛ كذلك في الغدة الدرقية، حيث يمكن أن تؤثر على التمثيل الغذائي ونقل الحرارة إلى الطفل؛ وفي الدماغ، حيث قد تؤثر على الدوائر العصبية وتعلّق الأم بالطفل.