لم تصل شركة سيارات "بي واي دي" الصينية إلى القمة من فراغ، فخلف قصة نجاحها شركة صغيرة بدأت رحلتها برؤيةٍ جريئة، هدفت إلى تحويل صناعة السيارات في الصين إلى قطاعٍ حيوي قادر على تحقيق الاكتفاء الذاتي، ومن ثم غزو الأسواق العالمية.
وبعد سنوات من العمل الشاق، رافقته مثابرة بلا حدود، إلى جانب مغالبة التحديات، تحولت "بي واي دي" من شركة صغيرة إلى عملاقة توظف أكثر من 220 ألف شخص في 50 دولة حول العالم.
فكيف بدأت، ومتى استطاعت "سيارات بي واي دي" أن تزاحم الشركات الكبرى، ومن هو مؤسّسها؟
حلم وانغ شوان فو الذي بناه بصبر ومهارة
في سبتمبر/أيلول 1966 وُلد وانغ شوان فو بمقاطعة آنهوي الصينية، وسرعان ما توفي والده في سنٍّ مبكرة، فتولى أخوه الأكبر تربيته.
أبدى الفتى نبوغاً منذ الصغر، فالتحق بمعهد التعدين (وهو اليوم جامعة)، حيث درس الهندسة المعدنية، وتركز تدريبه على تكنولوجيا البطاريات والشحن. وفي عام 1995، أسّس شركة "بي واي دي" (BYD)، وهي اختصار لعبارة Build Your dreams أي "ابن أحلامك".
تركَّز نشاط الشركة في البداية على مجال البطاريات القابلة لإعادة الشحن، التي يتم استخدامها في الهواتف المحمولة، وقد واجهت تحديات كبيرة، لوجود منافسة شرسة بين المصنّعين الصينيين المحليين والموردين اليابانيين.
ولكن عقلية وانغ شوان فو الفذة، واستثماره في البحث والتطوير، إضافةً إلى تركيزه على الابتكار والجودة ورضا العملاء؛ كلها أسباب أسهمت في العبور بالشركة إلى برّ الأمان، فصارت واحدةً من أولى الشركات التي طوّرت بطاريات "الليثيوم أيون" للاستخدام التجاري، ما منحها مكانةً متميزة في السوق.
هذا النجاح اللافت أغرى شوان فو عام 2002 لدخول تحدٍّ من نوعٍ جديد، هو عالم صناعة السيارات، في العام نفسه الذي سُجّلت فيه شركة "بي واي دي" في بورصة هونغ كونغ.
حينها، قرّر شوان فو انتهاز فرصة قيام شركة تصنيع سيارات صينية صغيرة- واسمها "كينشوان أوتو موبايل كومباني"- بعرض نفسها للبيع، وقرر التقدّم بعرضٍ لشراء الشركة التي كانت تكافح من أجل المنافسة في السوق.
كان وانغ شوان فو يفتقر إلى أي خبرة عملية في مجال تصنيع السيارات، لكنه في المقابل كان يدرك إلى أي مدى تتفرد "بي واي دي" في مجال تصنيع البطاريات. فرأى في السوق فرصة لاستخدام خبرته بتكنولوجيا البطاريات حتى يتميّز عن الشركات الأخرى المصنّعة للسيارات.
وضع نصب عينيه البدء في مشروعٍ ضخم لإنتاج سيارات بي واي دي المسيّرة بالبطاريات، والتي تُعرف بالسيارات الكهربائية (تعمل على البطاريات فقط)، أو السيارات الهجينة (مزودة بمحرّكٍ يعمل على الوقود إلى جانب البطارية).
"بي واي دي".. المارد الصيني الذي أبهر العالم
الخطوة الأولى تمثلت بـ"كسر الجليد" مع تكنولوجيا صناعة السيارات، باستخدام تقنية "الهندسة العكسية".
فقد أمضى مهندسو "بي واي دي" شهورهم الأولى في تفكيك وفهم آلية العمل، ومن ثم إعادة تركيب سيارات "تويوتا كورولا"، وهكذا نجحوا في إخراج النموذج الأول لسيارات بي واي دي؛ سيارة "بي واي دي أف 3" (BYD f3)، وهي سيارة تقليدية تعمل على الوقود.
ورغم أن الغرض الرئيسي لـ"بي واي دي إف 3″ كان تجريبياً بالأساس، فقد حققت هذه السيارة نجاحاً تجارياً كبيراً، وصارت أكثر السيارات مبيعاً في الصين خلال سنوات قليلة، قبل أن تُصدّرها الشركة إلى الأسواق الأوروبية والعالمية، وتلقى رواجاً كبيراً، لاسيما أنها كانت سيارة عملية تحاكي "تويوتا كورولا" اليابانية، وبنصف سعرها تقريباً.
سرعان ما عملت الشركة بعد ذلك على مشروعها "الحقيقي"، فقامت بتعديل سيارتها الأولى لتُنتج "BYD F3DM"، أول سيارة تعمل على البطاريات، وهي عبارة عن سيارة هجينة تعمل بالكهرباء أو البنزين.
كان ذلك أول محرك من هذا النوع يتم إنتاجه بأعدادٍ كبيرة وتصديره إلى الأسواق العالمية، بعد أن لاقى رواجاً جيداً من قِبل المستهلكين في الصين.
بعد ذلك بشهور قليلة، قدّمت "بي واي دي" سيارة "إي 6" (e6)، وهي سيارة دفع رباعي كهربائية بالكامل. كان مداها يصل إلى 186 ميلاً بشحنةٍ واحدة، ما جعلها واحدة من أكثر المركبات الكهربائية كفاءة في السوق وقتئذ.
نجح هذا النموذج في الأسواق الصينية والدول المجاورة، وتم استخدامه على نطاقٍ واسع كسيارة أجرة.
فكثفت الشركة استثمارها وأبحاثها في تكنولوجيا السيارات الكهربائية، وأطلقت عام 2015 "بي واي دي تشين" الهجينة، التي يمكنها السفر لمسافةٍ تصل إلى 44 ميلاً بشحنة واحدة. تبعتها بنماذج عديدة لسياراتٍ من أنواع مختلفة.
"سيارات بي واي دي" الكهربائية.. إدمان النجاح
العقبات الأولى التي واجهتها "بي واي دي" في مجال تصنيع السيارات كانت دافعاً قوياً جعل الشركة تتقدم بسرعة الصاروخ، وتحتل مرتبة متقدمة في الأسواق المحلية الصينية والأسواق العالمية على حد سواء.
في عام 2021، باعت الشركة نحو 190 ألف سيارة جديدة (هجينة وكهربائية)، مع زيادة سنوية بنسبة 193%.
وخلال عام 2022 تضاعف الإنتاج بشكلٍ مهول، حتى وصل إلى زيادة قدرها 300%، لتتمكن "بي واي دي" من تجاوز شركة "تسلا" الأمريكية الشهيرة، وتصبح أكبر بائعٍ للسيارات الكهربائية في العالم.
تُعتبر الشركة أيضاً لاعباً رئيسياً في سوق الحافلات الكهربائية، بحيث بلغت حصتها السوقية العالمية 14% في العام 2020.
وقد باعت أكثر من 60 ألف حافلة كهربائية حول العالم، ما جعلها أكبر شركة مصنعة للحافلات الكهربائية في العالم، بعدما صدّرتها إلى أوروبا واليابان والهند. وهي تتخذ خطوات لإطلاق أنواع سيارات أخرى في أوروبا، وأستراليا، وأمريكا اللاتينية، والفلبين.
نجاحات الشركة الصينية لفتت أنظار عمالقة صناعة السيارات، فأقامت "بي واي دي" شراكات متعددة مع أهم الشركات العالمية وأكبرها، من بينها "تويوتا".
اتفقت الشركتان في العام 2019 على شراكة في مجال السيارات الكهربائية والبطاريات، تنصّ على تطوير سيارات السيدان والدفع الرباعي بشكلٍ مشترك، على أن يتم بيعها تحت علامة تويوتا التجارية في الأسواق الصينية.
بدورها مدّت شركة "ديملر" الألمانية لصناعة السيارات يدها للتعاون مع "بي واي دي"، وهي المالكة للعلامة التجارية الشهيرة "ميرسيدس بينز". وتعاونت الشركتان على إطلاق علامة تجارية للسيارات الكهربائية خصيصاً، أُطلق عليها اسم "دينزا"، وتتميز بمدى طويل يصل إلى 500 كيلومتر (310 أميال) بالشحنة الواحدة.
وتتضمن ميزات متقدمة، مثل: شاشة تعمل باللمس، ومساعد افتراضي يتم التحكم به صوتياً. وقد أتاحت الشراكة بين العملاقين فرصة الاستفادة من نقاط قوتهما في تكنولوجيا السيارات الكهربائية، وتصميم السيارات لإنشاء منتجٍ تنافسي يزاحم في الأسواق الصينية.
ترتبط "بي واي دي" كذلك بشراكة استراتيجية مع شركة الاتصالات الفنلدنية "نوكيا"، وتتعاون الشركتان على تطوير مركبات كهربائية متصلة جديدة، وبنية تحتية للشحن تدمج تقنية "الجيل الخامس" (5G) والذكاء الاصطناعي بـ"إنترنت الأشياء" (IoT).
بموجب هذه الشراكة، ستوفر "نوكيا" تقنية الجيل الخامس والحوسبة السحابية وحلول إنترنت الأشياء لـ"بي واي دي"، التي ستقدم بدورها خبرتها في صناعة السيارات. نشاط الشركة الطموح تجاوز صناعة السيارات والبطاريات إلى مجالات أخرى، فـ"بي واي دي" صارت واحدة من أكبر الشركات المصنعة للألواح الشمسية في العالم، بالإضافة إلى مصابيح الإضاءة (LED) التي تشتهر بكفاءتها العالية وعمرها الطويل، كما تصنع مجموعة من الهواتف المحمولة تحت اسم BYD Mobile، وغيرها من المنتجات.