إذا قمت بتشغيل الأخبار هذه الأيام لأنك تريد متابعة ما يجري، فقد تبدأ في الاعتقاد بأن العالم على وشك الانتهاء. فبداية من السياسة إلى تغير المناخ إلى الاقتصاد، تحيط بنا الأخبار السلبية والسيئة في كل مكان نذهب إليه.
المشكلة ليست فقط أن هناك أشياء مروعة تحدث في جميع أنحاء العالم. ولكن أيضاً أن أدمغتنا مصممة ببساطة لكي تولي مزيداً من الاهتمام للأخبار المأساوية والمؤسفة، حيث يسمي علماء النفس هذا السلوك "التحيز السلبي" أو (Negative Bias).
وعلى الرغم من أن هذا التحيز قد ساعد الإنسان الأول قبل آلاف السنين على الانتباه إلى المواقف التي قد تهدد حياته، إلا أنه يقف اليوم في طريق سلامتنا النفسية ورفاهيتنا وإنتاجيتنا.
تأثير متابعة الأخبار المأساوية كل صباح
وجدت دراسة علمية نُشرت بمجلة Harvard Business Review للأبحاث أن التعرُّض لثلاث دقائق فقط من الأخبار السلبية في الصباح الباكر وعند الاستيقاظ يمكن أن تدمر الصحة النفسية العامة للشخص لبقية يومه.
إضافة لذلك، فإن هناك مشكلة استهلاك الأخبار المأساوية نفسها. إذ ينتهي الأمر بمستهلك الأخبار الثقيلة والمأساوية إلى سوء التقدير وغير العقلانية بسبب التحيز السلبي، ما يعني أن الناس يقدرون احتمالية وقوع حدث أو تكرار كارثة أكثر من الواقع بكثير.
هذا هو السبب في أن المواطنين في أمريكا مثلاً، يصنفون الأعاصير التي تقتل حوالي 50 شخصاً سنوياً، باعتبارها سبباً أكثر شيوعاً للوفاة من الربو الذي في الواقع يودي بحياة ما يقرب من 4000 شخص سنوياً.
إدمان الأخبار السيئة.. معضلة "التصفّح المميت" والشعور بالذنب
كثيراً ما يجد البعض أنفسهم يتصفحون القصص والمقالات والمشاركات، خاصة فيما يتعلق بالكوارث والأحداث المأساوية في العالم، مثلما هو الوضع مع محتوى زلزال تركيا وسوريا حالياً، وذلك من منطلق الشعور بالذنب والإحساس بعقدة الناجين.
إذا كانت الأخبار المأساوية تتضمن مشاهد قاسية وتجعلك تشعر بالقلق والحزن والاكتئاب، فقد يكون الوقت قد حان لفصل هاتفك وتلفازك لفترة من الوقت.
يُعرف "التصفح المميت" أو (Doom Scrolling) عندما تفعل بالضبط ما وصفناه بالأعلى: الجلوس على جهازك لفترات طويلة من الوقت، واستهلاك الأخبار السيئة دون جدوى أو هدف محدد.
اكتسب المصطلح شعبية في السنوات الأخيرة فيما يتعلق بأحداث مهمة مثل جائحة COVID-19 والكوارث الطبيعية والصراعات في الشرق الأوسط وأوروبا، وخاصة بعد اندلاع الزلزال المدمر في تركيا وسوريا هذا الشهر.
وبالطبع نظراً إلى أن الأنظمة الأساسية للشبكات الاجتماعية تقدم المحتوى باستخدام الخوارزميات، فمن المرجح أن ترى محتوى مشابهًا للمحتوى الذي تفاعلت معه من قبل، أو الأشخاص الذين يشاركونك الاهتمامات أو الموقع الذي تتفاعل معه.
وهذا يعني أنه من الأرجح أنك إذا نظرت إلى محتوى "الأخبار السيئة" من قبل وقضيت وقتًا في نشره والكتابة عنه، فسوف تبدأ في رؤية كل ما يتعلق بنفس الأخبار المأساوية.
في الواقع، يحصل المحتوى السلبي، مثل مقاطع الفيديو التي تصور الانهيارات الأرضية وانتشال الموتى وصراخ الأطفال وغيرها، على ضعف التفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي من المحتوى الإيجابي الباعث للأمل والذي يصور عمليات الإنقاذ الناجحة والاحتفاء بلمّ الشمل وغيرها.
التبعات الصحية لاستهلاك المحتوى المأساوي
يمكن أن تكون الآثار النفسية للاستهلاك المفرط للمحتوى السلبي خطيرة ومهددة للسلامة النفسية، خاصةً إذا كانت لديك مخاوف تتعلق بالصحة العقلية مثل الاكتئاب أو القلق أو تعاني بالفعل من التوتر في حياتك اليومية.
ترتبط مشاعر الخوف واليأس والحزن والعزلة بحركة الموت وقلق الأخبار، وفي الحالات القصوى، يمكن أن يبدأ الشخص الذي يتابع الكثير من الأخبار المأساوية في المعاناة من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة مثله مثل الناجين من الكوارث أنفسهم.
من ناحية أخرى، يمكن أن يؤدي استهلاك المحتوى السعيد أو المهدئ إلى تحسين نظرة الشخص وزيادة احتمالية إدراكه لتحديات الحياة بطريقة أكثر إيجابية.
كيف يمكن التوقف عن إدمان المحتوى المأساوي؟
يُعد أفضل طريق لتقليل القلق من الأخبار المأساوية وتأثيرها على الصحة النفسية سهلاً وصعباً في نفس الوقت، ويتمثل ببساطة في التوقف!
1- إعادة شحن الطاقة النفسية
نعتمد أكثر من أي وقت مضى اليوم على هواتفنا لتوفير معلومات حول كل جانب من جوانب الحياة ومتابعة الأخبار. وبالتالي من المهم سؤال نفسك التالي: هل تعتمد على هاتفك للاتصال المستمر والحصول على المعلومات وتجد نفسك تشعر بالقلق والتوتر إذا لم تكن قادراً على ذلك؟ هل تتحقق من هاتفك دورياً، ولا تستطيع التوقف حتى لمدة 15 دقيقة؟
يعد إدمان الهواتف الذكية مشكلة حقيقية في مجتمع اليوم، وكجزء من استعادة صحتك النفسية والعقلية، قد يكون "عدم الاتصال" مفيداً لك.
أظهرت دراسة أجرتها جامعة ولاية كينت أن ارتفاع استخدام الهاتف المحمول يرتبط بارتفاع مستويات القلق، وذلك بالتبعية بسبب استهلاك المحتوى المأساوي.
بصرف النظر عن فوائد الإنتاجية الواضحة، هناك أيضاً فوائد صحية: بدون هاتفك الذكي لتوفير ساعات من الإلهاء، قد تجد نفسك تتجه للخارج أو تقوم ببعض التمارين أو تلعب مع أطفالك أو حيواناتك الأليفة أو تقوم فقط بنشاط آخر نسيته.
2- الصيام التقني لمدة 24 ساعة
كذلك فإن قضاء يوم واحد فقط بعيداً عن وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن يكون أحد أفضل الأشياء التي يمكنك القيام بها من أجل صحتك العقلية وحتى في طريقة دعمك للقضايا الإنسانية المأساوية التي تشغل بالك.
إذا كانت 24 ساعة تمثل تحدياً كبيراً بالنسبة لك، فابدأ على الأقل بتحدٍّ لمدة ساعتين، ثم زد عليه تدريجياً وشق طريقك كل يوم لمدة ساعة أو نحو ذلك.
ستندهش مما يمكنك تحقيقه عندما لا تقع في حفرة الاكتئاب بسبب محتوى وسائل التواصل الاجتماعي المأساوي والمثير للحزن.
3- اتخذ إجراءات إيجابية
في مواجهة الأخبار المأساوية من السهل أن تشعر بالإرهاق بسبب الشعور بالعجز، وهي ما يُعرف باضطراب عقدة الناجين.
تقترح أوليفيا جيمس، خبيرة الصدمات لموقع Positive News للصحة النفسية، التركيز على الإجراءات الإيجابية التي يمكنك اتخاذها للخروج من هذه الدوامة النفسية المسببة للاكتئاب.
وبالتالي، إذا كانت هناك جهود إغاثية مثل جمع التبرعات أو التطوع أو حتى ترتيب حملات التوعية، فقم وافعل شيئاً بدلاً من مجرد تلقي كل الأخبار السيئة والشعور بالشلل أكثر فأكثر للحفاظ على سلامتك النفسية.
4- التنفُّس بعمق
يُعد أخذ نفس عميق جزءاً كلاسيكياً آخر للوقاية من تأثير الأخبار السيئة والمأساوية على السلامة النفسية.
يقول آندي كولي، مدرب البرمجة اللغوية العصبية لذات الموقع، إن استجابة الهروب أو القتال في المواقف العصيبة أمر رائع للاستجابة السريعة لحالات الطوارئ، ولكنه ليس كذلك بالنسبة لسلسلة متواصلة من الأخبار المأساوية التي نطلع عليها يومياً.
لذا يُعد التنفس العميق والبطيء من البطن قادراً على تحفيز جزء من الجهاز العصبي، ما يقلل من إفراز كيماويات القلق في الجسم مثل الكورتيزول والأدرينالين، وفي المقابل يزيد الأوكسيتوسين والدوبامين.
الأوكسيتوسين هو "مادة كيميائية للحب" تغمر الجسم بالمشاعر الطيبة.
بهذه الطريقة، يمكنك الحفاظ على سلامتك وإنتاجيتك اليومية دون الغرق في دوامة من الحزن السلبي الذي لن يجدي نفعاً، وبهذه الطريقة تستطيع تقديم المساعدة الحقيقية لكل من حولك.