في سنة 1984 نشر الفيلسوف وعالم النفس الأمريكي جيمس فلين ورقته البحثية الرائدة عن ذكاء البشر، والتي تلخص نتائج اختبار الذكاء في عدة دول على مدى 46 عاماً، ليكشف البحث عن ظاهرة مثيرة للاهتمام.
كانت نقاط نتائج اختبار الذكاء في جميع أنحاء العالم تتزايد بمرور الوقت، وتؤدي الأجيال الشابة أداءً أفضل من الأجيال الأكبر سناً. وفي كل جيل يزيد متوسط درجات اختبار الذكاء بمقدار 10 نقاط، وأُطلق على هذه الظاهرة تأثير فلين. فما أهمية تأثير فلين، وما أسباب زيادة ذكاء البشر؟
ما أهمية تأثير فلين وزيادة ذكاء البشر؟
تكمن أهمية تأثير فلين في تسليط الضوء على تطور ذكاء البشر، في مواضيع المهارات المهمة في مجتمعنا اليوم، وخاصة التفكير المنطقي. ويعتبر تأثير فلين مقياساً أحياناً يمكن مقارنته، ومتابعة تقدم أو تدهور معدل ذكاء البشر.
كما يشير تأثير فلين إلى كون التعليم الحديث فعالاً أم لا، وبالتالي قد يشجع على طرق تدريس أكثر تطوراً، وتغيير وتعديل المناهج التعليمية إذا لزم الأمر، ومع أن نتائج اختبار الذكاء لا تعتبر تمثيلاً دقيقاً، أو مقياساً على ذكاء البشر؛ لأنه لا يوجد تعريف واحد له، لكن ارتفاعها يشير إلى أن أساليب التعليم الحديثة قد تكون أكثر فاعلية من الأساليب السابقة.
التعليم والصحة والتغذية من أسباب زيادة ذكاء البشر
في القرن الماضي تطور مجتمعنا من كونه زراعياً إلى مجتمع صناعي، وهو الآن قائم على المعلومات؛ ما يجعل الدماغ يعالج تلك المعلومات بطريقة مختلفة، بالإضافة إلى عدة أسباب أخرى:
1- يعتبر التعليم وتطوير الطريقة التعليمية والمناهج في العقود الماضية أحد أهم الأسباب التي ترجع إليها زيادة مستوى ذكاء البشر، بالإضافة إلى توفير تعليم عالي الجودة، وزيادة أعداد الأطفال والتحاقهم بالمدارس في العصر الحديث.
بينما على العكس، في بعض الأجيال السابقة كان التعليم يعتبر رفاهية لا يمكن توفيرها لجميع الأطفال، بينما اليوم أصبح بإمكان المزيد من الناس، بمختلف أعمارهم، الوصول إلى التعليم أكثر مما كانوا عليه في الماضي، ما قد يُسهم في تأثير فلين.
2- البيئة المحفزة، وسهولة الوصول إلى المعلومات أيضاً يعتبران من الأسباب الأخرى، وزيادة التعرض لأنواع عديدة من الوسائط المرئية، من الصور على الحائط، إلى الأفلام، إلى ،التلفزيون إلى ألعاب الفيديو، إلى أجهزة الكمبيوتر والجوّالات.
وتتعرض الأجيال الحالية لشاشات بصرية، توفر تجربة مختلفة وأفضل من السابق؛ ما جعل الأجيال الحالية أكثر مهارةً في التحليل المرئي، وهذا من شأنه أن يفسر لماذا أظهرت "الاختبارات البصرية للذكاء" أكبر الزيادات في تحقيق النتائج.
وفي عام 2001، قدم ويليام ديكنز وجيمس فلين ورقة بحثية، تفيد بأن أولئك الذين لديهم معدل ذكاء أعلى يميلون إلى البحث عن "بيئات محفزة"، تزيد من معدل الذكاء، ويمكن أن يكون للمحفز البيئي تأثير كبير جداً، حتى للبالغين، ولكن هذا التأثير يتلاشى أيضاً بمرور الوقت ما لم يستمر التحفيز.
3- ظهور المهام المتعددة والمعقّدة، بسبب ظهور اختراعات جديدة جعلت من العالم أكثر تعقيداً، وتتطلب عقلاً مرناً للتعامل معها، وهو ما يمكن أن يكون له أثر على زيادة ذكاء البشر، ومن الأمثلة على ذلك ألعاب الفيديو، التي يمكن أن تُحسّن من مهارات حل المشكلات وتقوية الذاكرة، إذا تمت ممارستها باعتدال.
4- الصحة، والتغذية الجيدة وزيادة الوعي بأهميتها، كان لهما دور مهم في تأثير فلين، فقد كان لتحسين التغذية أثر على زيادة في متوسط حجم الدماغ مقارنةً بالأجيال السابقة.
وبحسب دراسة على موقع "science direct"، فإن البيانات تدعم فرضية التغذية الصحيحة وتأثيرها على زيادة ذكاء البشر، ويمكن أن تكون عواقب سوء التغذية لا رجعة فيها، وأن تشمل ضعف التنمية المعرفية والتعليم في المستقبل.
وعلى مدى القرن الماضي، كان هناك وعي أفضل بالصحة، مثل انخفاض عدد الأشخاص الذين يدخنون، والتوقف عن استخدام الطلاء الضار المحتوي على الرصاص، كما حدثت تحسينات في الوقاية والعلاج من الأمراض المعدية وتحسين التغذية.
ويمكن أن يعني وجود أشخاص يتمتعون بصحة جيدة أن المزيد من الأفراد يمكنهم الوصول إلى إمكاناتهم الكاملة، وأن يصبحوا أكثر ذكاءً وأكثر إنتاجية.
5- مقاومة الأمراض وظهور اللقاحات أسهما في زيادة ذكاء البشر أيضاً بشكل مباشر، فقد توصّل الباحثون في دراسة صدرت سنة 2011، إلى أن تقليل شدة الأمراض المعدية، ومواجهتها باللقاحات والعلاج الجيد، قد يكون له تأثير على معدل الذكاء.
وجد البحث في ولايات أمريكية مختلفة، ذات الانتشار العالي للأمراض المعدية، أن لديها متوسط معدل ذكاء أقل.
وهناك دراسة أخرى صدرت عام 2010، منشورة في المكتبة الأمريكية الوطنية للدواء، درست تأثير الملاريا على معدل الذكاء، فارتبط نجاح علاج الملاريا بزيادة معدل الذكاء، كما أنه زاد من احتمالية العمل في مهنة تتطلب مهارةً عقليةً مستقبلاً.
ويقترح المؤلف أن هذا قد يكون أحد التفسيرات لتأثير فلين، وثبت أن الوقاية من الملاريا تعمل على تحسين الوظيفة الإدراكية والأداء المدرسي.