لطالما سعى البشر إلى إيجاد نقاط تلاقٍ بين الإنسان والقرود، خاصة مع نظريات التطور التي تكاد تتبناها جميع مدارس علم النفس الحديث.
لكن في واحدة من أولى دراسات علم النفس السلوكي وأكثرها إثارة للجدل والصدمة في آنٍ واحد، حاول العلماء البحث في أوجه التشابه بين الحيوان والإنسان في الثلاثينيات من القرن الماضي، عندما قاموا بتربية قردة شمبانزي حديثة الولادة بين البشر لمعرفة ما ستؤول إليه الأمور.
وبشكل مثير للصدمة، لم تكن تبعات تلك الدراسات جيدة على الإطلاق!
الدراسة الأولى: تربية رضيع مع "صغير" الشمبانزي
إذ قام عالم بتربية طفل حديث الولادة مع شمبانزي حديث الولادة في السبعينيات، بحثاً عن أوجه التشابه في التربية والسلوكيات فيما بينهما، لكن هذه لم تكن المرة الأولى التي يتم فيها إجراء مثل هذه التجربة.
ففي عام 1931، أنجب وينثروب نايلز كيلوج وزوجته ابناً أسمياه دونالد، وقاما بتربيته مع "شمبانزي صغيرة" مُتبناه تُدعى غوا.
كان دونالد يبلغ من العمر 10 أشهر في بداية التجربة؛ وكانت غوا تبلغ من العمر 7 أشهر، تمكنا من تبنيها من مركز محلي في الولايات المتحدة الأمريكية للحيوانات.
وبالفعل، قام العالم وزوجته بتربية "الصغيرين" في نفس المنزل بنفس الطريقة. فتم إطعام كليهما وتغيير حفاضاتهما وتعليمهما بطريقة عرضية بالطريقة التي يحاول بها جميع الآباء تعليم أطفالهم اللغة الأساسية والمهارات الحركية.
ومن خلال هذه العملية، حاول الطبيب النفسي كيلوغ دراسة كيفية تطور كلا الطفلين، وتأثير هذه البيئة على السلوك، وأعطاهما المهام بشكل دوري لإكمالها.
دراسة صادمة في تاريخ علم النفس
الدراسة الشاملة المُسمَّاة (The Ape and the Child) أو "الطفل والشمبانزي" لها أهمية تاريخية أكثر من أهميتها العلمية المتخصصة.
فقد تطورت القردة جسدياً، بشكل أسرع بكثير من الطفل دونالد.
وقلدت غوا سلوكيات البالغين، وتمكنت من ارتداء الأحذية، وفتح الأبواب باستخدام مقبض الباب، وإطعام نفسها بزجاجة الأطفال، ولاحقاً بالملعقة.
كما تفوق الشمبانزي على الإنسان عندما يتعلق الأمر بالاختبارات الجسدية والقدرة البدنية. كان كيلوغ، على سبيل المثال، يحبس كلاً من الطفل والشمبانزي في غرفة مع شريحة من البسكويت معلقة في سلسلة متدلية من السقف، وتابع الوقت الذي يستغرقه كل منهما في الاستيلاء على قطعة الحلوى، وقدرتهم على التفكير في سحبها من السلسلة.
طفل ينبح ويعوي مثل الحيوانات!
ما أثار قلق كيلوغ حقاً هو أن طفله دونالد لم يكن يبدو مهتماً بالتفوق على غوا في التطورات اللفظية والقدرة اللغوية.
فعلى الرغم من أن أداء الرضيع كان أفضل، فإنه تخلف عن الأطفال من عمره فيما يتعلق بالقدرة على النطق والكلام.
في النهاية، بدأ في تقليد نباح الجوع الغريزي الذي كانت تردده الشمبانزي غوا، بحسب موقع All That's Interesting.
لم يعد الوالدان مهتمين باستخدام طفلهما كعنصر تحكم وقياس في تلك الدراسة عند هذه المرحلة، وشعرا بالذعر.
لتتوقف التجربة بعد 9 أشهر، وأعيدت غوا إلى مركز الحيوانات مجدداً.
الدراسة الثاني: "نيم" وتجربة "أنسَنَة" الشمبانزي
بدأ "مشروع نيم" في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1973 مع ولادة الشمبانزي نيم في مركز لأبحاث القردة في أوكلاهوما الأمريكية.
حيث أمضى القرد بضعة أيام فقط بين ذراعي والدته الحقيقية، قبل أن يُفصل عنها بحقنة مهدئة، وتم تسليمه مباشرة إلى والدته البشرية الجديدة.
تم اختيار نيم للتبني والتجربة من قبل هيرب تيراس، خبير علم النفس الطموح في جامعة كولومبيا بنيويورك، لإثبات فرضية تقول إن "الشمبانزي الذي ينشأ كإنسان ويتعلم لغة الإشارة يمكن أن يتعلم التواصل من خلال العبارات اللغوية الصحيحة".
وكانت تلك محاولة لكي يفهم الإنسان ما كانت تفكر فيه الحيوانات – وربما العكس أيضاً.
وفي كتاب وثَّق التجربة بالكامل، بعنوان "الشمبانزي الذي كاد يصبح إنساناً"، قام تيراس باختيار ستيفاني لافارج لمساعدته في تلك التجربة، التي كانت الطالبة والحبيبة السابقة له، لتقوم بتربية نيم في منزلها مع زوجها، وأطفالهما السبعة.
لكنه كان قراراً كارثياً – لم تهتم ستيفاني أبداً بمحاولة تأديب نيم. لم تدون أي ملاحظات على التجربة، ولم تحتفظ بسجل لتطور نيم السلوكي والعقلي، لكنها أرضعته وحاولت دمجه في روتين أطفالها اليومي.
حياة مشوشة وتجربة باءت بالفشل
ولأن حناجر الشمبانزي لا تستطيع من الأساس إنتاج الكلام البشري، كانت الفكرة هي تعليمه لغة الإشارة. وبالفعل، تعلم القرد كلمات إشارة مثل "شراب" و"طعام" و"أنا" و"عناق" وإشارة لاسمه "نيم".
وبحسب السيدة التي ربت الشمبانزي مع أطفالها، فقد كان نيم أليفاً وودوداً، ويحب التواصل والعناق والجلوس وسط "والديه" البشريين. لكن هذه اللطافة لم تدم طويلاً.
تقول لورا آن بيتيتو، الباحثة بجامعة كولومبيا، التي تم توظيفها في المشروع، في تصريحات صحفية، إنها وجدت الوضع قد تحول في منزل نيم إلى "فوضى مطلقة"، وأن القرد بات يؤذي نفسه كلما تقدم في السن، ويؤذي من حوله بصورة تتفاقم كل يوم.
وبعد أن أدرك تيراس أن الأمور خرجت عن السيطرة، نُقل نيم إلى منزل فارغ كبير في الضواحي، حيث أصبحت لورا آن "والدته" الجديدة وتضخم فريق المساعدين لها في العناية بالقرد.
استغلال الشمبانزي لصنع الشهرة والمال!
في ذلك الوقت، أصبح الشمبانزي مشهوراً. حتى أن مجلة نيويورك وضعته على غلافها الرئيسي عام 1975 تحت عنوان "الرسالة الأولى من كوكب القردة".
كما تم تصويره في إحدى حلقات برنامج الأطفال التلفزيوني "شارع سمسم".
ابتهج التراس المتعطش للشهرة والدعاية بما آلت إليه الأمور، بالرغم من أنه عملياً لم يتمكن حتى الآن من تحقيق أكثر من مجرد تعليم القرد بضع كلمات إضافية في لغة الإشارة.
في ذلك الوقت كان نيم أيضاَ يزداد حجماً وقوة ويُصبح أكثر عدوانية.
فكان الشمبانزي كلما شعر بأدنى إشارة تدفعه للارتباك، مثل التفاتة سريعة لأي من "الرعاة" من العلماء الذين يعتنون به، كان يتأهب ويهجم عليهم مصيباً بعضهم بجروح عميقة ونزيف.
حتى أن لورا، "والدة" الشمبانزي الثانية، عندما دخلت في علاقة عاطفية مع تيراس، قام القرد بهاجمتها بعنف كأنها خانته، وواصل رطم رأسها في الأرض إلى أن تدخل أربع رجال أقوياء لفصله عنها.
عودة مرتبكة إلى بيئة الحيوانات
بعد تكرار وقائع الاعتداء، أعاد عالم النفس تيراس الشمبانزي نيم إلى مركز أبحاث أوكلاهوما، حيث كان قد تبناه منهم قبل أقل من أربع سنوات، ليشارك في تجارب علمية أخرى.
وبحسب موقع ABC News، وصف مقدمو الرعاية اللحظة التي رأى فيها نيم منزله الجديد، الذي كان قفصاً مليئاً بالشمبانزي، بالمرعبة. إذ لم ير نيم قرداً قط من قبل، وكان خائفاً للغاية.
وعندما ابتعدت "عائلته" وتركته في حيرة من أمره محاطاً بالشمبانزي الخائفين بدورهم منه، قام نيم بإشارة تعني "عانقني".
بالطبع، قد يبدو هذا في حد ذاته دليلاً على نجاح تجربة تيراس في "تعليم القردة" اللغة مثل البشر.
ومع ذلك، بعد تحليل بيانات تجربة تيراس تقرر أنه كان مخطئاً. إذ لم يكن بإمكان الشمبانزي استخدام اللغة في نهاية المطاف. إذ تعلم نيم تقليد الإشارات التي حددها معلموه فقط من أجل الحصول على الأشياء.
ولم تتجاوز رغبة الشمبانزي في التعبير أكثر من الحصول على الطعام والشراب والتواصل الجسدي، ولا شيء أكثر من ذلك.