بدأ تاريخ مضادات الاكتئاب كمعظم العقاقير المؤثرة تقريباً، عن طريق الصدفة وحسن الحظ، وبدأت عمليات تطويرها لأول مرة في الخمسينيات من القرن الماضي.
إذ قام الكيميائيون الذين عملوا حينها على تطوير علاج جديد للسل باختبار عقار إبرونيازيد على المرضى في مستشفى سيفيو في جزيرة ستاتين بولاية نيويورك.
وكانت تلك خطوة حاسمة في تاريخ علاج الاكتئاب، حيث شهد هؤلاء المرضى تغيراً جذرياً في مستوى التعامل مع أمراضهم واضطراباتهم التي لم تلاقِ خيارات علاجية عديدة في ذلك الوقت.
المرضى الذي كانوا يعانون من الخمول والحزن الشديد ورفض القيام بأي نشاطات حياتية يومية أبلغوا بعد تناول العقار الجديد عن تحسُّن ملحوظ في مزاجهم العام، وتحسنت شهيتهم وقدرتهم على النوم بشكل ثابت كل ليلة.
كيف عمل تركيب الدواء على تحسين حالات مرضى الاكتئاب؟
ويمنع إبرونيازيد إنزيماً يسمى MAO، والذي يقوم بدوره بتفكيك الإشارات الكيميائية مثل السيروتونين والنورأدرينالين والدوبامين في الدماغ.
واتضح أن حظر إنزيم MAO يعيد هذه الرسائل الكيميائية لوتيرتها الطبيعية.
وساعد العقار بالفعل في تأكيد أهمية نظام MAO في علاج الاكتئاب لأول مرة في ذلك الوقت، معلناً عن فئة جديدة من أدوية الاكتئاب تُسمى بمثبطات MAO، بحسب موقع Green Brook ومع ذلك، فإن استخدام العقار على نطاق واسع كان محدوداً للغاية بسبب الآثار الجانبية الخطيرة التي شملت حالات صحية مزمنة مثل ارتفاع ضغط الدم وتلف الكبد.
تطوير الدواء للحد من آثاره الجانبية الخطيرة
في الخمسينيات من القرن الماضي، ظهرت مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقات. وتم اختبار دواء يسمى "إيميبرامين" لأول مرة على الأشخاص المصابين بالفصام وثبت أنه غير فعال، إذ أظهر نتائج أفضل على المصابين بالاكتئاب.
وبالفعل تمت الموافقة عليه كعقار للاكتئاب في عام 1959.
ثم في أوائل السبعينيات، كانت الأدلة على دور السيروتونين في الاكتئاب تزداد وفقاً للباحثين، وتزامن ذلك في الوقت الذي كانت تتزايد فيه المخاوف بشأن الآثار الجانبية لمثبطات MOA ومضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقات التي لم تختلف كثيراً حتى بعد التطوير.
وهكذا حول العلماء انتباههم إلى مركبات SSRIs، أو مثبطات امتصاص السيروتونين الانتقائية؛ إذ عززت هذه الأدوية نشاط السيروتونين، واتضح أنها تضمنت آثاراً جانبية أقل من مضادات الاكتئاب الأخرى.
وفي تطور جذري في تاريخ مضادات الاكتئاب، تمت الموافقة على عقار يستخدم تلك التقنية يُدعى فلوكستين من قِبَل إدارة الغذاء والدواء الأمريكية في عام 1987، ووصل إلى السوق في العام التالي باسم بروزاك – Prozac.
بعد عام من ذلك التاريخ، تم صرف ما يقرب من 2.5 مليون وصفة طبية لعقار بروزاك المشهور حتى اليوم لعلاج الاكتئاب.
وتشمل مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية الأخرى منذ ذلك الحين الباروكستين، سيرترالين، سيتالوبرام، إسيتالوبرام، وفلوفوكسامين، وهي مثبطات انتقائية للسيروتونين.
ولاحقاً في الثمانينيات والتسعينيات، ظهرت مضادات اكتئاب جديدة استهدفت نظام الناقل العصبي أحادي الأمين، مثل البوبروبيون (مثبط امتصاص الدوبامين والنوربينفرين) والفينلافاكسين (مثبط امتصاص السيروتونين والنوربينفرين).
تطوير غير كافٍ وضعف التأثير على العديد من المرضى
على الرغم من هذه التطورات، يتضمن أي تاريخ من علاج الاكتئاب العديد من السلبيات المتعلقة بهذه الأدوية وتأثيراتها الجانبية على الصحة والجسم.
إذ تحمل جميع مضادات الاكتئاب إلى يومنا هذا آثاراً جانبية عديدة قد تكون غير محتملة بالنسبة للبعض، بما في ذلك الغثيان والدوخة والأرق والضعف الجنسي.
كما أنها عادة ما تستغرق عدة أسابيع حتى تصبح سارية المفعول. إضافة إلى أن ما يصل إلى ثلث المصابين بالاكتئاب لا يستجيبون لهذه الأدوية.
كانت هذه العيوب تعني الحاجة إلى عصر جديد من علاج الاكتئاب.
وقد كان يُنظر إلى الاكتئاب على مر العقود الماضية على أنه خلل كيميائي في الدماغ: ويُعتقد أن نقصاً في مرسال كيميائي واحد بين الخلايا العصبية يعطل الاتصال بين هذه الخلايا، بحسب موقع جامعة Cambridge البريطانية.
مع ذلك، وجدت الدراسات العلمية التي أُجريت في الثمانينيات وما بعدها أن بعض المرضى المصابين بالاكتئاب لديهم ارتفاع في مستويات هذه الناقلات الكيميائية (أو الناقلات العصبية) وليس انخفاضاً.
بالإضافة إلى ذلك، فإن بعض الأدوية الفعالة للاكتئاب تقلل من مستوى الناقل الكيميائي بدلاً من زيادته. أخيراً، لم يُظهر الكثير ممن عولجوا بالأدوية التي تعزز السيروتونين أي تحسن في الحالة المزاجية لاحقاً.
لذلك كان من الواضح أن الاكتئاب لا يرتبط بنقص كيميائي بسيط واحد.
بدلاً من ذلك، بدأ العلماء الذين يصممون علاجات جديدة في الأعوام الأخيرة في فهم أن الأشخاص المصابين بالاكتئاب لديهم تغيرات واسعة النطاق في وظيفة الناقلات العصبية، وتغيرات هيكلية في مناطق الدماغ التي تنظم مزاجهم وعواطفهم، وتغيرات في توصيلات الدماغ أو الاتصال، بحسب الموسوعة البريطانية Britannica.
تطوير دواء الكيتامين ونقلة نوعية في مضادات الاكتئاب الطبية
كانت الخطوة التالية من هذه المرحلة هي العثور على عقار يعمل على الدوائر والوصلات الأوسع للدماغ دون أن يكون محدود التأثير مثل العقاقير السابقة. وتبين أن هناك عقاراً بمثل هذا التأثير يُستخدم بالفعل في غرف العمليات وفي ساحات القتال لعقود لعلاج الجرحى.
إذ كان عقار الكيتامين يستخدم كمخدر منذ الستينيات. وهو يستهدف نظام الغلوتامات الذي يتعطل في حالة الإصابة بحالات الاكتئاب. ويُشار إلى أن مسار الغلوتامات هو مسار محوري يعمل على زيادة عمليات الدماغ.
في دراسة أثبتت نقلة نوعية في المفاهيم حول مضادات الاكتئاب، تم إجراؤها في عام 2000، أعطت حقنة واحدة من الكيتامين تأثيراً سريعاً مضاداً للاكتئاب في غضون 72 ساعة فقط، واستمر هذا التأثير لعدة أسابيع عند الشخص.
وبالرغم من أن تلك الأبحاث تمت قبل عقدين تقريباً، فإن عقار بخاخ أنفي للكيتامين يُدعى إسكيتامين، لم يتم اعتماده من قِبَل إدارة الأغذية والعقاقير (FDA) الأمريكية، ومن بعدها مؤسسات الصحة العالمية، إلا في عام 2019. وأُقِرّ كعلاج إضافي للاكتئاب المقاوم للعلاجات الأخرى.
وقد أبرزت قصة الكيتامين الحاجة إلى التفكير فيما وراء مرسال كيميائي واحد عند تطوير مضادات الاكتئاب الحديثة؛ إذ يتسبب عقار الإسكيتامين البخاخ مثلاً في إحداث تغييرات إيجابية في وظائف دوائر الدماغ ويحفز إعادة نمو نقاط الاشتباك العصبي، ويعيد الروابط بين خلايا الدماغ.
ومع ذلك، هناك بعض الآثار الجانبية الخطيرة، وتشمل أعراض الفصام الشيزوفرينيا (وهي تجارب الخروج من الجسم والهلوسة)، وهي تنطوي على مخاطر الإدمان وسوء الاستخدام.
كما قد تكون معدلات الاستجابة للدواء أقل عند المرضى الأكبر سناً.
التأثير العالمي لأمراض الاكتئاب وكيف غيَّرت العقاقير تلك المعادلة
الاضطراب الاكتئابي الرئيسي له عواقب اقتصادية واجتماعية كبيرة في جميع أنحاء العالم، إذ تؤثر على معدلات البطالة العالمية والعلاج الطبي وغيرها.
على سبيل المثال، كان هناك 36.7% من الأمريكيين الذين يعانون من اضطراب الاكتئاب الرئيسي في 2003.
وفي عام 2000 وحده، بلغ التأثير الاقتصادي الكلي لمرضى الاكتئاب نحو 83.1 مليار دولار أمريكي للولايات المتحدة. وبلغ إجمالي تكاليف العلاج الطبي المباشر (التي تشمل تكاليف المرضى الداخليين والخارجيين والأدوية) و26.1 مليار دولار، وتجاوزت التكاليف المرتبطة بالانتحار (أي الأرباح المقدرة المفقودة مدى الحياة) 5.4 مليار دولار.
ومن المثير للاهتمام أن التكاليف المتعلقة بمكان العمل (مثل أيام العمل الضائعة، وانخفاض الإنتاجية، ونفقات الرعاية الصحية) بلغت 51.5 مليار دولار، بحسب دراسة منشورة عام 2003 بمجلة PubMed العلمية.
وبالرغم من تلك الإحصائيات الفادحة التي تم توثيقها من الولايات المتحدة فقط، ويُعتقد أن الواقع العالمي يحمل أضعافاً مضاعفة لها، تظهر البيانات أن معدل الانتحار في الولايات المتحدة ظل ثابتاً إلى حد ما لمدة 15 عاماً قبل تطوير عقارات الاكتئاب، ثم انخفضت بثبات على مدى 14 عاماً مع ارتفاع مبيعات مضادات الاكتئاب.
إذ تشير معدلات الانتحار المحتملة من عام 1988 إلى عام 2002، بناءً على بيانات ما قبل عام 1988، إلى انخفاض تراكمي في معدل وفيات الانتحار المتوقع عند 33600 شخص منذ تطوير وبيع مضادات الاكتئاب في الأسواق، بحسب دراسة منشورة بمجلة Science daily.
كما فحصت الدراسة بيانات معدل الانتحار المصححة بالعمر من مراكز السيطرة على الأمراض ومكتب الإحصاء الأمريكي من أوائل الستينيات حتى عام 2002.
ومن 1988، انخفضت معدلات الانتحار تدريجياً، حيث بلغ أدنى معدل وهو 10.4 أشخاص من كل 100 ألف شخص في عام 2000.
ويرتبط هذا الانخفاض بشكل كبير مع زيادة أعداد وصفات مضادات الاكتئاب التي تم صرفها في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، بخسائر مادية من 2.47 مليون في عام 1988 إلى 33.32 مليون في عام 2002.
بالرغم من تلك المعدلات الإيجابية لتأثير استخدام مضادات الاكتئاب، فإن الخطوة التالية الآن هي العثور على عقار يعمل على الدوائر والوصلات الأوسع للدماغ بأقل آثار جانبية محتملة.
يؤكد فريق “عربي بوست” على أهمّية مراجعة الطبيب أو المستشفى فيما يتعلّق بتناول أي عقاقير أو أدوية أو مُكمِّلات غذائية أو فيتامينات، أو بعض أنواع الأطعمة في حال كنت تعاني من حالة صحية خاصة.
إذ إنّ الاختلافات الجسدية والصحيّة بين الأشخاص عامل حاسم في التشخيصات الطبية، كما أن الدراسات المُعتَمَدَة في التقارير تركز أحياناً على جوانب معينة من الأعراض وطرق علاجها، دون الأخذ في الاعتبار بقية الجوانب والعوامل، وقد أُجريت الدراسات في ظروف معملية صارمة لا تراعي أحياناً كثيراً من الاختلافات، لذلك ننصح دائماً بالمراجعة الدقيقة من الطبيب المختص.