هل يندرج فيلم "تايتانيك" أو "البؤساء" ضمن قائمة أفلامك المفضلة؟ أو تستهويك رؤية البطل يموت أو يتعرض للصدمات القوية في فيلمك المحبب؟
لطالما أثار استغرابي وجود ذوق خاص عند البعض لمشاهدة أفلام حزينة أو تراجيدية للاستمتاع "بليلة هادئة" وممتعة أمام التلفاز، مع أنه لا يمكنك مشاهدة تلك الأعمال من دون عبوة مناديل؛ لكي تمسح دموعك جيداً من فرط البكاء!
حتى إن الناس قد يدفعون المال ليشاهدوا أشخاصاً آخرين يعانون من مأساة بعد مأساة على الشاشة الكبيرة؛ إذن الأمر أكثر من مجرد استسلام لرواية فيلم حزينة أمام التلفزيون، ويصل الأمر إلى الرغبة المباشرة في البحث عن أفلام حزينة تثير المشاعر السلبية، حتى وإن كان ذلك مقابل مبلغ من المال.
علم النفس والأعصاب يكشفان سبب مشاهدة أفلام حزينة لها نهايات مؤسفة
اتّضح أن مُدمني التراجيديا ليسوا غريبين إلى هذا الحد في نهاية المطاف.
في الواقع، قد يكون لديهم سبب وجيه للوقوف في طوابير للاحتفال بالبكاء بعد مشاهدة فيلم "شاق وحزين ومؤسف"، وكل ذلك يعود إلى علم الأعصاب، وعلم النفس بالطبع.
إذ يحدث الكثير في أدمغتنا عندما نشاهد أية أفلام حزينة أو عاطفية أو مأساوية، والمثير للدهشة هو أن الكثير من نشاط الدماغ خلال مشاهدة هذا الفيلم يعزز مشاعر السعادة، والتعاطف والتقارب في العلاقات، بل وحتى الشعور بالانتماء للمجتمع.
نشعر بالإلهام وأننا لسنا وحدنا
تقترح ورقة بحثية نشرها موقع Cinema Therapy للأفلام والصحة النفسية، أن مشاهدة الأفلام الحزينة "تسمح لنا بمواجهة مشاعر حزينة وحقيقية للغاية في بيئة آمنة ومحمية".
بمعنى أنها تسمح لنا بمواجهة المشكلات الحقيقية من خلال تجربة "الواقع" من مسافة آمنة على الشاشة؛ لأن استجاباتنا العاطفية لها "تبدو حقيقية".
إذ تُقدم الأفلام الحزينة للمشاهدين منظوراً خارجياً، ما قد يُساعد في التغلب على الصدمات والمشاكل والمِحَن التي لم يتم حلها في حياتك الواقعية.
وبالتالي يمكن أن تُعزز استراتيجيات المواجهة والنجاة التي تتبعها الشخصيات في الفيلم التراجيدي قوتك الشخصية، وأسلوبك في التعامل مع الأمور.
تطوير مهاراتنا في التعامل مع "تراجيديا" حياتنا الشخصية
عندما نجلس لمشاهدة فيلم نقوم بتنشيط أجزاء من دماغنا، تعالج المدخلات البصرية والحسية في نصفي الدماغ.
ووجدت أبحاث في علم الأعصاب السينمائي، أو "Neurocinematic" (مصطلح جديد نسبياً)، أن أدمغتنا قادرة على معالجة الحبكة الأساسية وقصة الفيلم بطرق مماثلة لتعاملنا مع مشكلات حياتنا الواقعية.
بعد ذلك، تصبح الطرق التي تعالج بها أدمغتنا المعلومات المتعلقة بالجوانب العاطفية للفيلم فردية جداً، ومنطبقة على أسلوبنا في الحياة، بحسب دراسة نشرها موقع Plos One للأبحاث العلمية في 2011.
وجدت دراسة أخرى أن النساء أكثر عرضة من الرجال للاستجابة للمحفزات العاطفية السلبية في الأفلام (مثل مشاعر البطل بالحسرة واليأس، أو مواجهته للموت أو موت أحد أحبته).
في حين أن الرجال هم أكثر عرضة للاستجابة للمنبهات العاطفية الإيجابية (مثل ضبط الرجل السيئ أخيراً، أو إيقاع العقاب على المجرمين وخلافه)، وفقاً لدراسة منشورة بموقع Annals of General Psychiatry لعلم النفس.
كيمياء الدماغ تجعلنا أكثر تعاطفاً مع الآخرين، حتى وإن كانوا أبطال الفيلم
هناك أيضاً بعض العوامل كالمشاركة الكيميائية العصبية التي تؤثر على مشاعرنا السعيدة لما بعد مشاهدة المأساة والتعاطف معها.
يوضح بول زاك، الخبير في دراسات الاقتصاد العصبي لموقع Greatist للمنوعات، أن الأفلام الحزينة تجعلنا نشعر بالتعاطف مع الآخرين من خلال إطلاق هرمون الأوكسيتوسين.
وعندما نتعاطف مع أشخاص آخرين (حتى الأشخاص الخياليين على الشاشة عند مشاهدة أي أفلام حزينة)، فإن دماغنا يطلق الأوكسيتوسين، الذي يشرك دوائر الدماغ التي تدفعنا إلى الاهتمام بالآخرين.
ويقول زاك إن ممارسة التعاطف تجعلنا أكثر قدرة على التواصل مع الأشخاص الحقيقيين من حولنا، سواء مباشرة بعد مشاهدة فيلم حزين (في شكل عناق ودموع مشتركة)، وبعد ذلك، من خلال تدريب نظام الأوكسيتوسين لدينا.
قد تفسر مشاعر الاتصال هذه سبب عدم قدرتنا على التوقف عن مشاهدة الأفلام التي تنتهي بمأساة أو حزن، حتى مع معرفتنا لبعض نهايات تلك الأفلام المأساوية.
الدماغ يعوض عن مشاعر الحزن بمشاعر من "التآزر الاجتماعي"
من الواضح أن أدمغتنا لديها عادة، في جعلنا نشعر بدفعات من السعادة في أوقات الحزن والتأثُّر العاطفي الشديد.
وتُظهِر بيانات الاستطلاع وفقاً لمجلة Science العلمية، أن نسبة عالية من الرجال والنساء أفادوا بأنهم يشعرون بتحسن نتيجة حصولهم على فوائد البكاء بعد مشاهدة أي أعمال أو أفلام حزينة.
لكن الأمر لا يتعلق فقط بالتنفيس لسهولة الانخراط في البكاء أثناء مشاهدة فيلم حزين. وجدت الأبحاث أيضاً أنه عندما يشاهد الأشخاص مشاهد عاطفية مع أحبتهم أو أفراد أسرتهم، فإن أدمغتهم أحياناً "تدق" بشكل جماعي.
بمعنى آخر: "تتزامن" انفعالات أدمغتنا مع أدمغة المشاهدين الآخرين.
هذا الاندماج الدماغي يثير فينا مشاعر التقارب والتآزر مع المجتمع، ما يزيد من تأثير "الشعور بالرضا والتعاطف والحُب" للأفلام الحزينة التي تؤلم القلب.
وسيلة للشعور بقيمة "نصف الكوب الملآن" في حياتنا الشخصية
التأثيرات الإيجابية لمشاهدة أفلام حزينة في إحدى ليلات العطلة لا تتوقف عند ما سبق وأسلفنا فحسب، إذ تقول أخصائية علم النفس سيلفيا نوبلوخ لمجلة PsychCentral لعلوم النفس والأعصاب: "يبدو أن الناس يستخدمون المآسي كوسيلة للتفكير في العلاقات المهمة في حياتهم، ولحساب النعم التي يتمتعون بها".
وفي دراسة عام 2007، شاهد المشاركون فيلماً حزيناً، ثم أجابوا عن أسئلة حول مزاجهم، ومدى واقعية تصورهم للفيلم، ومدى انخراطهم مع قصة الفيلم، ومدى استمتاعهم بالعمل.
وفي النتائج اتّضح أن الناس يستمتعون بالأفلام الحزينة من خلال عاملين رئيسيين، وهما: الواقعية والمشاركة، الأولى لأنهم يؤمنهم أن الواقع مليء بالقصص المأساوية، والثانية لأنهم ليسوا وحدهم في الشعور بكل تلك الاضطرابات المشاعرية والحزن الدفين.
بعد تحقيق هذين العاملين يتبقّى لدى المشاهد أمر واحد، وهو الشعور بالامتنان لما لديه بالفعل؛ إذ تساعد النهايات المؤسفة والصادمة في الشعور بقيمة أن كل هذا العناء انتهى مع نزول التتر، وأن الشخص قادر على العودة لحياته البسيطة.
وبحسب الدراسة، فإن "الحزن يعزز الحقيقة المتصورة للعمل، ويزيد من الشعور بالمشاركة والترابط، ما يدفع المشاهدين للاستمتاع بالفيلم الحزين، والشعور بالامتنان بعد نهايته".
هذا التناقض بين المأساة والمتعة حيّر العلماء لفترة طويلة، لذلك ستستمر الأبحاث الحالية والدراسات المستقبلية في تسليط الضوء على هذه الظاهرة الغامضة، وتساعد في فهمنا للمشاعر والسلوك البشري.
لذلك في المرة القادمة التي تكون فيها في مزاج يرغب في البكاء وتفريغ الشحنات، حدِّد فيلمك الحزين المفضل، واستعدّ بعبوة المناديل قبل صحن الفيشار.