بعد صدور آخر أفلام جيمس بوند من بطولة الممثل دانييل كريغ، بعنوان "لا وقت للموت – No Time To Die" في بريطانيا ودول العالم أواخر عام 2021، هل تعلم أن الإلهام وراء كتابة شخصية "مستر إم" الرئيسية يرجع إلى ضابطة بريطانية حقيقية أظهرت مهارات استثنائية خلال الحرب العالمية الثانية؟
دور فيرا أتكينز الاستثنائي خلال الحرب العالمية الثانية
خلال الحرب العالمية الثانية، قامت شابة إنجليزية رومانية الأصل تُدعى فيرا أتكينز، بتجنيد وتدريب ومراقبة العملاء السريين البريطانيين الأسطوريين الذين هبطوا بالمظلات إلى فرنسا للإيقاع بالنازيين خلال سنوات تلك الحرب الضروس.
وقد اشتهرت فيرا، ضابطة المخابرات البريطانية، بنُدرة تعبيرها عن مشاعرها أو إبداء عواطفها، وكانت معروفة أيضاً بكونها قاسية وجادة في عملها وشديدة الاهتمام بمجنديها، ما صنع حالة من "الهالة" حول شخصيتها ودورها خلال ذلك الوقت الحساس من تاريخ العالم.
قامت الضابطة الجادة بالعديد من الأدوار والمهام كجاسوسة، بما في ذلك التجنيد والتدريب والتخطيط لعمليات سرية في فرنسا، وتمكنت من فك رموز الرسائل الألمانية المشفرة التي لم يستطع أي شخص آخر القيام بها في ذلك الوقت.
بعد الحرب، عندما تبين أن عدد العملاء البريطانيين المفقودين أكثر قليلاً من 1 من كل 4 عملاء على الأرض، قامت أتكينز بالتحقيق في كل حالة من الحالات الـ 118 الإجمالية لعملائها.
وبعد أن تعقبت 117 شخصاً مقتولاً، وقدمت قتلتهم أحياء إلى محاكمات جرائم الحرب. كان العميل رقم 118، مقامر قهري اختفى على مقربة من مونت كارلو وهو بحوزته 3 ملايين فرانك من أموال المخابرات.
يأتي ذلك بالإضافة إلى عمل الضابطة البريطانية على الأرض كمساعد رئيسي للعقيد موريس باكماستر، مدير العمليات الخاصة التنفيذية في الجانب الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية.
مآثرها جعلتها مصدر إلهام لكاتب روايات جيمس بوند
في الواقع، كانت مآثر فيرا أتكينز تلك مثيرة للإعجاب، لدرجة أنها ألهمت لاحقاً الكاتب إيان فليمنج، بابتكار الشخصية الخيالية "إم" أو "M" في رواياته للعميل "جيمس بوند"، بحسب موقع History التاريخي.
وعلى الرغم من أن المؤلف إيان فليمنغ لم يتعرف على الضابطة بشكل مباشر قط فإنه يُعتقد على نطاق واسع أن فيرا هي الشخصية الحقيقية لشخصية "إم" في سلسلة جيمس بوند التي أداها ممثلون رجال ونساء على حدٍّ سواء.
و"إم" في سلسلة روايات جيمس بوند هو اسم رمزي يحمله عدد من الشخصيات الخيالية، وهي ترمز لشخصيات الرؤساء الحاليين أو السابقين لجهاز المخابرات السرية البريطاني، المعروف أيضاً باسم MI6.
وقد اعتمد فليمينغ في بناء الشخصية على عدد من الأشخاص الذين عرفهم والذين قادوا أقساماً من المخابرات البريطانية، على رأسهم فيرا أتكينز.
نشأتها وبداية انخراطها في العمل الاستخباراتي
ولدت السيدة فيرا أتكينز في بوخارست، برومانيا. ثم انتقلت إلى لندن مع والديها في عام 1933، حيث تبنت اسم عائلة والدتها هناك.
وقد درست فيرا اللغات الحديثة في جامعة السوربون، وذهبت إلى إنهاء المدرسة في لوزان الفرنسية، حيث أصبحت لغتها الفرنسية المثالية مفيدة لمهنتها العسكرية في وقت لاحق.
عند اندلاع الحرب العالمية الثانية، انضمت فيرا إلى إدارة العمليات الخاصة، التي أسسها ونستون تشرشل "لإشعال النار في أوروبا" من خلال العمليات السرية.
وقد ترأس باكماستر فريقاً من خبراء التجسس في فرنسا. وبدأوا بمقابلة المرشحين في غرفة فندق بها مكتب وكرسيان ومصباح كهربائي.
بعد الاستجواب الأولي مع المرشحين، وكانت فيرا من بينهم، أجروا محادثة عامة معهم باللغة الفرنسية لمعرفة ما إذا كان بإمكان العملاء أن يبدوا كمواطنين فرنسيين أصليين. وبالطبع حظيت فيرا بالقبول.
من مجرد سكرتيرة إلى مسؤولة عن أهم عمليات الجهاز الاستخباراتي
وعلى الرغم من أنَّ فيرا كانت تعمل سكرتيرة في البداية، لكنها سرعان ما ارتقت في المناصب، وأصبحت ضابط المخابرات الرئيسي في الفرع الفرنسي لمنظمة العمليات الخاصة، في المرتبة الثانية بعد رئيسها، الكولونيل موريس باكماستر.
كُلِّفَت فيرا أتكينز بتجنيد وإرسال عملاء سريين وسعاة ومشغلي أجهزة اتصالات لاسلكية إلى فرنسا. وكانت تجري مقابلات مع العملاء المحتملين في غرف فندقية متفرقة، وتحذرهم من المخاطر التي ينطوي عليها عملهم، وتخبرهم أنَّ معدلات البقاء على قيد الحياة كانت 50% فقط.
وبعد إطلاع العملاء الجدد على ظروف العمل وقبولهم، تتولى فيرا تدريبهم على العمليات. وشمل ذلك كل شيء من التفاصيل حول التجسس إلى التعامل مع المتفجرات وكيفية العيش في فرنسا دون إثارة الشكوك.
كان التدريب الأولي في منزل ريفي من القرن السادس عشر، حيث لم يكن لديهم اتصال بالعالم الخارجي. بعد ذلك جاءت دورة الكوماندوز في المرتفعات الاسكتلندية، حيث تعلموا عن الأسلحة والمتفجرات، ثم كانت هناك دورة للبقاء على قيد الحياة في هامبشاير، تلاها تدريب بالمظلات بالقرب من مانشستر.
تم تدريب عملاء هذا الفريق بحسب صحيفة New York Times على الاستجواب والحفاظ على شخصيتهم الوهمية تحت مختلف الظروف.
وقد أخذت فيرا دورها على محمل الجد. وبحسب ما ورد عملت لمدة 18 ساعة في اليوم، شملت شحذ مهارات المجندين، وتخصيص الملابس والإمدادات المناسبة لهم، وتأكيد التوثيق الأصيل لأوراقهم.
وفي نهاية التدريب، تستدعي فيرا المجندين معها لتناول "الشاي". وهناك تُسلِّمهم أوراق هوياتهم ومهامهم. وكانت ترافق كل عميل بنفسها إلى المطار السري، حيث تشاهدهم يغادرون بريطانيا، غالباً للمرة الأخيرة.
وقد أرسلت فيرا أتكينز أكثر من 400 عميل إلى فرنسا بهذه الطريقة، وأكثر من ربعهم لم يعودوا قط. وقالت عنهم ذات مرة في مداخلات صحفية بحسب موقع All That's interesting: "يكشف الأشخاص العاديون أحياناً عن نقاط قوة غير متوقعة تماماً، لم يكن لدى هؤلاء الناس شك في أهمية هزيمة النازية، وقد أخذوا على عاتقهم المجازفة نبعاً من شعورهم بأنه واجب، لقد قدموا تضحية طوعية".
عملت فيرا مع العمليات التنفيذية الخاصة حتى نهاية الحرب. وعلى الرغم من أنَّ ونستون تشرشل دعم المنظمة بقوة، لكن عندما خلفه شخص آخر في منصب رئيس الوزراء في عام 1945، حُلّت المنظمة.
الإلهام لابتكار شخصية مخضرمة ضمن سلسلة "جيمس بوند"
وفي أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، بدأ المؤلف إيان فليمنغ بنشر سلسلة جيمس بوند، التي تضمنت شخصية تدعى "إم" وسكرتيرته الآنسة موني بيني. ومن المعتقد أنَّ كلتا الشخصيتين مستوحاة بشدة من فيرا ورئيسها موريس باكماستر.
وقد كان الكاتب فليمنغ صحفياً وضابطاً في المخابرات البحرية البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية. وقد تواصل مع عدد من الأشخاص المتورطين في الجاسوسية، الذين ظهروا في نهاية المطاف في رواياته، وكانت "إم" أبرزهم.
السيدة أتكينز، التي لم تتزوج قط وليس لها ناجون معروفون، عملت على إبقاء ذكرى المقاومة حية حتى بعد الحرب بعقود. وقد تم تكريمها بوسام جوقة الشرف البريطاني عام 1987، بحسب صحيفة Los Angeles Times.
وبالرغم من أن فيرا أتكينز سافرت كثيراً، فإنها استقرت في كوخ تركته لها عمة في وينشيلسي، والذي يمكنك من خلاله في يوم صافٍ رؤية فرنسا.
وفي 14 يوليو/تموز 2000، تُوفيت فيرا أتكينز، بمدينة هاستينغز، بمقاطعة ساسكس البريطانية، عن عمر ناهز الـ92 عاماً.