سواء أكان موضوع النقاش هو الأحداث السياسية المتسارعة في الشرق الأوسط، أو تداعيات أزمة المناخ العالمية، أو حتى طريقة الطهي المُثلى لوجبة معروفة، أصبح الاختلاف في الرأي في عصرنا الحالي قادراً على التسبُّب في معارك كلامية مشحونة قد تتطور إلى خصومات.
العلماء بحثوا في التقنيات الأمثل لإقناع الطرف الآخر، وتوصلوا لمعادلة تتضمن المزيد من الاستماع وإدارة النقاش بحكمة لتحقيق النتائج المرجوة. وبحسب الخطوات التالية، يمكنك خوض نقاش ثري وبنّاء مع المختلفين معك في الرأي، وحتى النجاح في إقناعهم بأفكارك بالطريقة الصحيحة.
تحديد السياق والشخصية
وفقاً للباحث وأستاذ الخطابة والمناظرات بجامعة أوريغون الأمريكية، مارك بوروفيتشيو، فإن فهم طبيعة الاختلاف في الرأي بين الأطراف المتحدثين يساعد على تحديد أفضل طرق التعامل معهم، لأن أنماط الجدل تختلف وفقاً للسياق والنوعية.
وأوضح الباحث في مقابلة له مع مجلة Mental Floss: "ما قد ينجح عند الجدال مع شخص مهم قد يأتي بنتائج عكسية عند المناقشة مع زميل، لذلك ينبغي الاستعداد لتعديل النهج في المحاورة، بناءً على مجموعة من العوامل".
وبحسب الشخص الذي تتم مجادلته ومحاولة إقناعه، يتم تعديل نبرة الصوت ومحتوى الحُجّة واللغة المستخدمة لعرضها؛ إذ تختلف المحادثة في مكان خاص عن تلك الموجودة في مكان عام.
كما تختلف طريقة إجراء الحوار وفقاً لشخصية المُستمع ومستواه الفكري، لذلك هناك أهمية كبيرة في تحديد "من تخاطب؟" لكي تعرف الوسيلة الأمثل في توصيل الفكرة، وفقاً لأستاذ المناظرات بوروفيتشيو.
استخدام حريص للعاطفة أثناء المناقشة.. ومن دون إفراط!
يختلف الناس ما بين شخص متفاعل ينسجم مع فحوى النقاش أياً كان نوعه، أو شخص تحليلي ينتقد المعلومات المتبادلة بشكل دقيق قبل تقبُّلها وموافقتها.
وحول ذلك يقول الأستاذ بجامعة هولت الدولية لإدارة الأعمال، برنس غومان: "يميل بعض الأشخاص إلى أن يكونوا أكثر تفاعلاً مع النقاشات والأفكار، لذا يمكنك إقناعهم باستخدام الأساليب التي تروق لهم".
ويعني بذلك أنهم مستعدون للاقتناع إذا خاطبتهم بلغة العاطفة والتعاطف.
أما في حالة إجراء نقاش مع نوع الشخصيات التحليلية، فيلزم حينها تقديم دعم مادي واقعي وإحصائيات دقيقة لتحقيق أي نتائج مرجوة من النقاش معهم.
وعن درجة استخدام العاطفة المقبولة من أجل توصيل الفكرة، اعتبرت الأخصائية النفسية والكاتبة الأمريكية شيري كامبل، أنه يجب تضمين المشاعر عند طرح أي قضية، لكن مقياس نجاح تلك التقنية يكمن في "عدم التمادي"، خاصة في المناقشات المهنية.
وأشارت وفقاً لـMental Floss، أنه عندما يتعلق الأمر بالخلافات الشخصية، فقد تنفع العاطفة للغاية في إدارة الحديث، على سبيل المثال قد تكون المشاعر غير المريحة والتعبير بصدق ووضوح عنها ضرورياً لإنجاح عملية التواصل مع شخص آخر حدث بينك وبينه خلاف شخصي.
تقنيات لضمان الاستفادة من الاختلاف في الرأي
وفي ورقة بحثية أصدرتها جامعة كورنيل الأمريكية، بعنوان "كيف ولماذا يقتنع الناس بتغيير رأيهم؟"، قام الباحثون بتحليل بيانات تم جمعها لمدة عامين، وخلصوا إلى أن الحجج التي تؤول في النهاية إلى تغيير عقول الناس لها ديناميكيات معينة.
على سبيل المثال، كلما زاد عدد الأشخاص الذين يحاولون إقناع الشخص بالفكرة زادت احتمالية تغيير وجهة نظره وتصويب رغبته للاختلاف في الرأي.
التوقيت أيضاً يُعدُّ عاملاً هاماً، ففي نقاشات الواقع الافتراضي عبر شبكات التواصل الاجتماعي وصفحات الإنترنت مثلاً، كان أولئك الذين يكتبون أولاً على المنشور هم الأكثر قدرةً على كسب التأييد، حتى وإن كان فحوى تعليقهم معاكساً تماماً للفكرة الواردة في المنشور الأصلي.
وأشار البحث وفقاً لصحيفة Washington Post الأمريكية، إلى أهمية استخدام تقنية الشد والجذب، التي تتمثل في موافقة الطرف الآخر في رأيه لبعض الوقت قبل البدء بمعارضته وعرض الفكرة المضادة، ثم إعادة الكرّة مرة أخرى.
إذ يعمل ذلك التكنيك في تحقيق الإقناع بطريقة أكثر سلاسة وجدوى عن الانفعال والمجادلة الحادة والاعتراض المتكرر.
ومثّلت اللغة المستخدمة في عرض الحجج عاملاً مؤثراً كذلك، حيث وجد الباحثون أن الأشخاص الأكثر قدرة على إقناع الآخرين بنجاح عند الاختلاف في الرأي يقومون عادة باستخدام كلمات مختلفة عن تلك المستخدمة في المناقشة الفعلية.
بمعنى آخر، كانوا يستخدمون لغة تجعلهم يبدون وكأنهم يتحدثون عن حقائق ومعلومات جديدة ومُعتمدة وموثوقة خلال الحوار، وليس مجرد رأي واعتقاد شخصي.
العصبية والانفعال يقتلان أي مناقشة حقيقية
لا حاجة للقول إن العصبية والانفعال يُفشلان أغلب النقاشات أياً كانت موضوعاتها، ويُعد الهدوء في المحاورة أحد أكثر عوامل إنجاح النقاش فاعلية في إقناع الآخرين عند الاختلاف في الرأي.
وفي بحث جامعة كورنيل السالف ذكره، كانت الردود الأهدأ والأكثر عمقاً هي الأكثر إقناعاً عند إيصالها للمستمعين، كما أن توضيح الكلام من خلال ذكر الأمثلة والدلالات الواقعية يجعل النقاش أقرب للتصديق والتبني.
علاوة على ذلك، يساعد استخدام اللغة الحريصة على جعل الحجج أكثر إقناعاً بالمقارنة مع استخدام نبرة الثقة والإصرار.
فبالرغم من أن التحوُّط يمكن أن يشير إلى وجهة نظر أضعف، تلفت Washington Post إلى أنه يسهِّل قبول الحُجة من خلال تخفيف حدّتها.
لا تجادل لتكسب.. جادل لتعرف
غالباً ما يكون للأطراف المنخرطة في نقاش يتمحور حول الاختلاف في الرأي طرق مختلفة جذرياً في رؤية وتفسير العالم من حولهم.
الصحفية في مجلة The Atlantic الأمريكية أولغا كازان توضح تلك النقطة قائلة: "أحد أسباب صعوبة درء الانقسامات الأيديولوجية هو أن الناس يميلون إلى تقديم حججهم بطريقة ترضي رؤيتهم الشخصية للأمور، وذلك بدلاً من استخدام قناعات خصومهم السياسيين لمخاطبتهم باللغة التي يفهمونها".
ولكن لكي يتم تجاوز الاختلاف في الرأي والاستفادة من نقاش ناجح، يجب أولاً العمل على النقاط المشتركة لدى الشخصيات المتحاورة والتركيز عليها كقاعدة أساس لإبقاء الحديث مثمراً.
وتقول المحاضرة في الفلسفة السياسية بكلية جيسس كامبريدج، كلير تشامبيرس، لموقع BBC: "إذا كنا لا نتفق على القيم الأساسية المتبادلة بيننا إنسانياً، فلا يجب أن نقوم بخوض نقاش من الأساس".
وتضيف أن بذل الوقت في التركيز على ما نتشاركه مع الطرف الآخر مهم بشكل كبير لأنه "كلما كنت محدداً في نقاط خلافك وتشابهك مع الآخر نتج نقاش أفضل".
ويوضح موقع Medium أننا لأننا مُبرمجون على تلقي الانتقاد أو الاختلاف في الرأي على أنه "هجوم شخصي"، فإننا نشعر بالغضب ونواصل الدفاع عن منظورنا الخاص من منطلق "رؤيتنا الصحيحة للأمور"، وهو بدوره ما يشعرنا بالانتقاص.
لكن لحسن الحظ، لا يجب أن تكون الأمور على هذا النحو دوماً، لأنه لكي يكون النقاش فعالاً ومؤثراً ويستهدف التوصُّل لتبادُل الخبرات لا تحقيق الانتصارات، يجب ألا تكون الحاجة من ورائه أن نكون على صواب.
ويتم ذلك من خلال الالتزام بالمرونة والذهن المنفتح أن يكون رأي الآخر صواباً أيضاً، لأنه في النقاشات المختلفة مهما تباينت موضوعاتها لا يمكن أن تكون هناك حقيقة واحدة فقط للأمور، ومن يدري؟ ربما تكون أنت الشخص الذي يُغير رأيه في نهاية المطاف.