هل يرتبط الفن دوماً بالمعاناة؟ شعراء وكُتّاب ورسامون عالميون عانوا من أمراض نفسية أثَّرت على أعمالهم

وجد علماء النفس ارتباطاً وثيقاً بين رهافة مشاعر الفنانين وبعض أنواع الأمراض النفسية والعقلية التي عانوا منها خلال حياتهم

عربي بوست
تم النشر: 2021/10/21 الساعة 14:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/10/21 الساعة 14:33 بتوقيت غرينتش
وجد علماء النفس ارتباطاً وثيقاً بين رهافة مشاعر الفنانين وميلهم للإصابة بالأمراض النفسية - iStock

لأن مشاعر الفنان عادة ما تكون أكثر رهافة، عانى عدد لا يُحصى من الفنانين العظماء في الرسم والموسيقى والكتابة من أمراض نفسية وعقلية التي تراوحت بين الاكتئاب والاضطراب ثنائي القطب وصولاً إلى الفصام والذهان.

وبالطبع، أثرت أمراض نفسية معينة على منتوجهم الفني، ووصلت في بعض الأحيان إلى التأثير على حياتهم والتسبب في اتخاذ بعضهم لقرارات بإنهائها للتخلص من المعاناة.

وبسبب تواتر الأمر قام بحث للمركز الوطني لمعلومات التكنولوجيا الحيوية الأمريكي عام 2012 بحسب PubMed للعلوم والأبحاث، بمحاولة لفهم العلاقة بين الأمرين.

وبدراسة أكثر من 1.2 مليون مريض وأقاربهم، اتضح أن الاضطراب ثنائي القطب مثلاً كان أكثر شيوعاً لدى الأفراد ذوي المهن الفنية.

وكان الأُدباء هم الأكثر عرضة لمواجهة أمراض نفسية أخرى مثل الاكتئاب والقلق والإدمان والفصام؛ كما كانوا أكثر عرضة للانتحار بنسبة بلغت نحو 50% عن عامة الناس.

ومن أبرز هؤلاء الفنانين الذين عانوا من أمراض نفسية بشكل أثر على أعمالهم وحياتهم عبر التاريخ:

الموسيقار العالمي بيتهوفن وأمراض نفسية معروفة

عانى الموسيقار الألماني العالمي الشهير لودفيغ فان بيتهوفن من مجموعة متنوعة من الأمراض الجسدية طوال حياته، كان أبرزها الصمم، لكن علماء الطب النفسي الذي تتبعوا أثره ودرسوا سيرته الذاتية يفترضون أنه عانى كذلك من أمراض نفسية جاء من بينها اضطراب ثنائي القطب.

بيتهوفن عانى من اضطراب ثنائي القطب - iStock
بيتهوفن عانى من اضطراب ثنائي القطب – iStock

ويُعرّف الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية العالمي DSM، والذي وضعته الرابطة الأمريكية للطب النفسي، مرض الاضطراب ثنائي القطب بأنه فترات من الهوس تتبعها نوبات من الاكتئاب.

وفي كتاب "تشخيص العبقرية: حياة وموت بيتهوفن" ، يشير المؤلف فرانسوا مارتن ماي إلى أن بيتهوفن وفقاً لأصدقائه ومعارفه كان كثيراً ما يُعاني من تغيرات مفاجئة في الحالة المزاجية.

إذ كان يتحول من نوبات من النشاط الحاد والاندفاع إلى نوبات من الاكتئاب والميول الانتحارية، وهو ما يعرّفه علم النفس الحديث بمؤشر رئيسي للإصابة بالاضطراب ثنائي القطب.

وبحسب موقع جامعة Grand Canyon University عن تأثير المرض النفسي في أعماله، يمكن ملاحظة النمط في تأليف بيتهوفن لمقطوعات موسيقية متغيرة وطويلة بشكل مثير للانتباه.

كذلك كان بيتهوفن غالباً ما يعمل على مقطوعات موسيقية متعددة في وقت واحد. وفي عدد من رسائله إلى أصدقائه، وصف بيتهوفن معاناته من مشاعر الاكتئاب الحاد التي قال إنه كان يعاني منها لأسابيع ممتدة في المرة الواحدة.

وفي عام 1802 على سبيل المثال، كتب في رسالة إلى صديق له متوسلاً "أريد ولو يوماً واحداً فقط من الفرح الخالص".

وتندرج هذه الفترات تحت وصف الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية بـ"نوبات الاكتئاب الكبرى"، وتتضمن أيضاً الرغبات الانتحارية وتراجع المشاعر بالمتعة.

الرسام النرويجي إدوارد مونك

يقول أطباء علم النفس، وفقاً لموقع CNN، إن الإلهام وراء أغلب أعمال الرسام النرويجي إدوارد مونك يعود إلى مرضه النفسي والعقلي، بما في ذلك لوحاته الأكثر شهرة "الصرخة".

ويُرجَّح أن الرسام المعروف بلوحاته المشحونة عاطفياً قد عانى من الاكتئاب والرهاب من الأماكن المفتوحة، كما تم رصد تعرضه للانهيار العصبي والهلوسة في مذكراته، وهي الحالة النفسية التي قال إنها ألهمته لرسم "الصرخة".

ويذكُر مونك، الذي توفي عام 1944، كيف جاءت فكرة اللوحة له، وكتب بحسب Grand Canyon University: "كنت أسير على الطريق مع صديقين عندما غربت الشمس؛ وفجأة، تحول لون السماء إلى الأحمر مثل الدم".

وتابع: "توقفت واتكأت على السياج، وشعرت بالتعب بشكل لا يوصف. امتدت ألسنة النار والدم فوق الأفق الأسود المزرق. واصل أصدقائي المشي، بينما تخلَّفت أنا عن الركب.. مرتجفاً من الخوف، ثم سمعت صرخة الطبيعة الهائلة اللانهائية".

ويتابع الفنان النرويجي موضحاً العلاقة بين أمراض نفسية عانى منها وأعماله: "خوفي من الحياة ضروري لي كما أن مرضي ضروري لي. فبدون قلق ومرض، أنا سفينة بلا دفة. معاناتي جزء مني ومن فني ولا يمكن تمييزهما عني".

كما كتب في إحدى مذكراته: "المرض والجنون والموت هم الملائكة السود الذين كانوا يراقبون مهدى ورافقوني طوال حياتي".

الرسام الهولندي فنسنت فان غوخ

لطالما وضع المؤرخون نظريات حول الأمراض العقلية المختلفة التي عانى منها الفنان الهولندي فنسنت فان غوخ، الرجل العبقري مرهف المشاعر الذي قام بقطع أذنه بسبب خلاف مع صديقه الرسام بول غوغان.

وقيل إن الرسام عانى أمراض نفسية وعقلية مثل الهوس الاكتئابي والاضطراب ثنائي القطب، بالإضافة إلى الهلوسة ونوبات التشويش والصرع. 

عانى فان جوخ من الهوس والصرع واضطراب ثنائي القطب - iStock
عانى فان جوخ من الهوس والصرع واضطراب ثنائي القطب – iStock

وفي رسالة إلى شقيقه ثيو في العام 1888، كتب: "لا أستطيع أن أصف بالضبط ما هو الأمر معي. بين الحين والآخر أصاب بنوبات رهيبة من القلق.. بلا سبب على ما يبدو".

وتابع: "هناك أيضاً شعور بالفراغ والتعب في رأسي لا يتوقف أبداً.. في بعض الأحيان أعاني من نوبات حزن وندم فظيع"، وهي الأعراض التي لم تتوقف رغم إيداعه مصحة نفسية لأكثر من مرة خلال حياته، بحسب The Atlantic.

وبسبب مرضه النفسي والعقلي، أقدم فنسنت على قتل نفسه بنهاية عام 1890، عن عمر يناهز 37 عاماً.

الكاتبة الأمريكية سيلفيا بلاث

اشتهرت سيلفيا بلاث، الكاتبة الأمريكية الرائدة في الشعر الاعترافي، بتفاصيل اكتئابها الذي كتبت عنه بشكل صريح في أعمالها، مثلما جاء في روايتها "الجرة الجرس"، وفي قصائد أشعارها الأخرى.

ومنذ سن العشرين، سرقت سيلفيا الحبوب المنومة من والدتها وابتلعتها في محاولة للانتحار، قبل أن يتم العثور عليها وإسعافها.

وبعد تلك المحاولة، تم إيداعها في مستشفى ماكلين لمدة 6 أشهر لعلاج الاكتئاب، وتلقت هناك العلاج بالصدمة الكهربائية.

يُعتقد أن الكاتبة خبأت اكتئابها في كتاباتها الغزيرة خلال حياتها القصيرة - iStock
يُعتقد أن الكاتبة خبأت اكتئابها في كتاباتها الغزيرة خلال حياتها القصيرة – iStock

بالرغم من ذلك تواصل تدهور حالتها النفسية التي كانت تبدو أواصرها منذ طفولتها المبكرة؛ إذ يتضح في رسائل بلاث التي بدأت بكتابتها منذ الصغر درجة احتمائها بالكتابة من ثِقل مشاعرها ومعاناتها من أمراض نفسية اكتئابية، ولذلك غالباً ما كانت تؤثر الخيال عن الواقع، خاصة مع النظر إلى منتوجها الكتابي الغزير رغم عمرها القصير.

وفي فبراير/شباط من العام 1963، أي بعد 10 سنوات من محاولتها الأولى للانتحار بالحبوب المنوّمة، تمكنت بلاث من قتل نفسها بالفعل؛ إذ أعدت الإفطار لأطفالها وكتبت رسالة لمدبرة المنزل عليها رقم هاتف الطبيب للطوارئ، ثم وضعت رأسها في الفرن واستنشقت الغاز حتى فارقت الحياة.

الرسام والنحات والشاعر الإيطالي مايكل أنجلو

الرسام والنحات والمهندس المعماري والشاعر الإيطالي العالمي مايكل أنجلو، عاش قرابة 88 عاماً، كان لأعماله الفنية وإنجازاته الكبيرة خلالها الأثر والمحور الأكبر في عصره، والذي ساهم في تطوير الفن الغربي في كل أنحاء أوروبا.

وعلى الرغم من تلك العبقرية المتفرّدة، كان مايكل أنجلو يعاني من اضطرابات يرجح علماء النفس، نقلاً عن The Atlantic، أنها تراوحت بين الهوس القهري وثنائية القطب بناءً على ما لاحظوه في رسائله.

ويظهر الأمر بصورة أوضح في رسائل وقصائد ونثريات مايكل أنجلو التي حرص دوماً على كتابتها، ولم يخلُ أي منها من التعبير عن مشاعره بالوحدة والهوس وكآبة.

وفي تقرير نشره موقع WebMD للمعلومات الطبية والصحة، توصل علماء النفس إلى مجموعة من الأدلة الجديدة حول فنان القرن السادس عشر الأشهر.

ويقول الباحث الرئيسي المشرف على التقرير، الطبيب النفسي البريطاني محمد أرشد: "لقد كان أنجلو وحيداً ومنغمساً في نفسه، وتشير غالبية سمات أعماله الفنية إلى معاناته من مرض التوحّد".

والتوّحد هو اضطراب معقد لا يؤثر على الذكاء، لكنه يؤثر على كيفية إدراك الإنسان للمعلومات من حوله، وهو يسبب صعوبات في التواصل والعزلة الاجتماعية والحاجة الهوسية إلى السيطرة، بحسب WebMD.

ومن المؤشرات في سلوك مايكل أنجلو التي اعتمدها التقرير للوصول إلى تلك النتيجة، وصف أسرته له بأنه منذ طفولته كان غير قادر على تكوين صداقات أو الحفاظ على أي علاقة. كما لم يحضر جنازة شقيقه المقرب، الأمر الذي يشير إلى "عدم قدرته على إظهار المشاعر".

وبحسب التقرير، فقد كان أنجلو مهووساً بالعمل والتحكم في كل شيء في حياته، بداية من الأسرة والمال وصولاً إلى الوقت والمعارف.

وقد كان مايكل أنجلو قادراً على البدء بالعمل في أكثر من مشروع في وقت واحد، وتنفيذها بدرجة متناهية الدقة على فترات متداخلة.

ويستنتج أرشد من ذلك "روتين عمل مايكل أنجلو الفريد ونمط حياته غير المعتاد واهتماماته المحدودة، ومهارات التواصل الاجتماعي الضعيفة.. جميعها علامات قوية لمرض التوحد، لكنها أيضا كانت سبب عبقريته الممتدة عبر التاريخ".

تحميل المزيد