نتعلم في سنوات عمرنا الأولى أن "التلفّظ" أو "السُّباب" أمر خاطئ ومشين، ينمّ عن ضعف الموقف وسوء الخُلُق، علاوة على أنه يُقلل من احترامنا للآخرين فيفقدون بالتبعية تقديرهم واحترامهم لنا.
الغريب أن علماء النفس أصبح لديهم رأي آخر مؤخراً، فقد توصلوا إلى أن السُّباب يمكن أن يساعد على تخفيف الشعور بالألم وتهدئة المشاعر، بل وحتى تحسين القدرة على العمل الجماعي وتعزيز روح التعاون في الفريق.
جدوى الألفاظ واستخداماتها المتعارفة
في العادة يتم استخدام الألفاظ لعدة أسباب، من بينها استثارة رد فعل معين لدى الآخرين، سواء بتوصيل مشاعر حادة لهم أو لإهانتهم. وتضيف الشتائم عنصراً انفعالياً في المناقشة، إما للتعبير عن الإحباط أو عن الغضب أو عن المفاجأة.
وبحسب شبكة BBC البريطانية، تبلغ كلمات السب والشتم المتخصصة للتعبير عن انفعال المفاجأة وحده ما يصل إلى ثلثي الشتائم المتعارف عليها في اللغة الإنجليزية مثلاً.
كما يمكن أن تكون الشتائم المهينة عبارة عن رغبة بإلحاق الأذى بشخص ما، لذلك فإن السباب غالباً ما يكون سمة مميزة لخطابات الكراهية والإساءة اللفظية والتهديد والتحرش.
تخفيف حدة الألم
وبالرغم من كون الألفاظ أمراً متعارفاً على كونه سلبياً، فإن هناك جانباً آخر يستحق الملاحظة، فقد قامت دراسة بقياس نسبة التحرر والتخفف العاطفي بعد السباب، اتضح من خلالها أنه يساعد على إطالة مدد احتمال الألم والتخفيف من حدته.
الدراسة التي جاءت في تقرير BBC، كشفت أن المشاركين تمكنوا من احتمال درجات أقوى من الألم عن طريق إبقاء أذرعهم في الماء المثلج لمدة طويلة إذا ما تم السماح لهم بترديد الألفاظ والتأفف والصراخ بغضب أثناء العملية. وكشفت أيضاً أن أولئك الذين يتحدثون أكثر من لغة ذكروا أن الشتائم بلغتهم الأولى كانت أكثر إرضاءً لمشاعرهم.
مؤشر على الثقة والحميمية
تكشف إيما بيرن في كتابها "الشتائم مفيدة لك: العلم المذهل وراء اللغة السيئة" أو (Swearing Is Good for You: The Amazing Science of Bad Language)، أن عملية التلفّظ لها العديد من المزايا الإيجابية من تعزيز للثقة في النفس وتحسين مهارات العمل الجماعي بالإضافة إلى رفع درجة تقبلنا للألم.
وأوضحت في مقابلة لها مع مجلة National Geographic الأمريكية: "هناك أبحاث كثيرة من أستراليا ونيوزيلندا تقول إن تبادل الدعابات اللفظية والشتائم بين الأصدقاء هو مؤشر قوي على تبادل درجة عالية من الثقة بين هؤلاء الأصدقاء".
وضمن عينات المشاركين في تلك الدراسات، فإن أولئك الذين قالوا إنهم يمكنهم المزاح مع بعضهم البعض بطرق تنتهك لغة التواصل المهذبة المتعارف عليها في المجتمعات ويتبادلون الكثير من السُّباب فيما بينهم، يميلون أكثر إلى الشعور بالثقة في بعضهم البعض.
وسيلة غنية للتعبير
يردد أغلب الناس تقريباً السباب بشكل يومي، وعلى مدار سنوات حياتهم كلها، وتُعد الشتائم تقريباً من الثوابت العالمية في حياة معظم الناس.
حيث أظهرت أبحاث اللغويات وتأثيرها النفسي وفقاً لموقع PsychCentral للأبحاث في علم النفس، أن البشر يقومون بالسب بنسبة 0.3% إلى 0.7% من الوقت في المتوسط على مدار حياتهم، لذا فإن الشتائم أكثر شيوعاً مما نعتقد، وهي لا تنطبق على فئة اجتماعية بعينها أو مستوى مادي محدد.
ووفقاً لدراسة بعنوان "طلاقة الكلمات المحرمة في إبطال أسطورة فقر المفردات" أجريت عام 2015، ونشرتها مجلة Live Science للأبحاث العلمية، يمكن أن تساعد الشتائم على إيصال المشاعر القوية بدقة أكبر.
وتقول الدراسة إنها توصلت لنتائج تتعارض مع الاعتقاد السائد بأن الناس يستخدمون الألفاظ، لأنهم يفتقرون إلى المهارات اللغوية وثراء المفردات.
ويقول المختص في أبحاث الألفاظ النابية تيموثي جاي، الذي أشرف على الدراسة، بحسب صحيفة New York Times الأمريكية: "أسطورة فقر المفردات غير حقيقية، واتجاه الناس للتلفظ بذريعة أن ذلك لافتقارهم إلى الكلمات الصحيحة بسبب قلة محصّلتهم اللغوية يخالف كلياً الحقيقة التي تم التوصل إليها".
وتابع "لقد وجدنا أن الأشخاص الذين يمكنهم كتابة أكثر عدد من الكلمات والأسماء والحيوانات التي تبدأ بنفس الحرف، كانوا الأكثر مهارةً في كتابة أكبر عدد من الألفاظ".
موضحاً أنه "مع ارتفاع مستوى الطلاقة اللغوية، تزداد القدرة على تذكر واستخدام الكلمات البذيئة".
الألفاظ كمؤشر على الهوية الاجتماعية
كما كشف الباحث تيموثي جاي، أن العديد من الدراسات قد تمكنت بالفعل من إثبات أن الناس ينظرون إلى أولئك الذين يستخدمون بعض الألفاظ على أنهم أكثر صدقاً من غيرهم.
موضحاً أن الفكرة وراء هذا الاعتقاد تعود إلى كون الكذابين والمنافقين أكثر قدرة على استخدام قواهم العقلية في تدقيق محتوى كلامهم، بينما على الناحية الأخرى يصل الأناس الصادقون إلى النقطة بشكل أسرع وأوضح، ما قد يعني التحدث باندفاع ودون مرشحات للكلمات المستخدمة في العملية.
ويقول بنجامين كيه بيرغن، مؤلف كتاب ""كيف تُعبِّر الألفاظ عن لغة الدماغ وتعبيرنا عن أنفسنا"، أو (What the F: What Swear Revisions about Our Language Brains and Ourselves)، إنه في البيئات الاجتماعية يمكن أن يعمل السب ككلمة مفتاحية لكسب القبول في مجموعات معينة من الناس.
معتبراً أن لكل جيل لهجة عامية خاصة به، وبالتالي قائمة من الألفاظ المستخدمة، وعندما يتم استخدام هذه اللغة فإنها تتيح الوصول إلى الأشخاص الذين يستخدمونها.
الأمر معكوس أيضاً، فبتجنب الألفاظ والكلمات النابية يمكن الاندماج والوصول لأنواع أخرى من المجموعات في المجتمع، كتلك التي تقوم بابتكار كلمات مرادفة للألفاظ النابية، واستخدامها للاستغناء عن استعمال لغة لا تتماشى مع رؤيتهم الشخصية.
الأمر الواضح الوحيد في الأمر هو أن تلك الثقافة في تطور مستمر وحتماً ما سيتم إعادة اختراعها.
وتلفت مقالة مجلة National Geographic السالف ذكرها مطلع المقال أنه "مع تغير المُحرَّمات لدى البشر فإن جوهر اللغة وقدرتها على التعبير عن المفاجأة أو الصدمة أو الانفعال أو الاعتراض سوف يتغير كذلك، لكننا لا يمكننا التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور في نهاية المطاف".
ومع ذلك، هذه ليست دعوة إلى تبادل السُّباب والألفاظ! كل ما في الأمر أن هناك الكثير لاكتشافه فيما يتعلق بقدرتنا على التعبير عن أنفسنا في المواقف الصعبة، وحتماً ما ستكون هناك حاجة لمزيد من الأبحاث فيما يتعلق بالموضوع.