قد تكون صادفت من قبلُ صورة برج كنيسة مغمور بالماء ينتصب في وسط بحيرة زرقاء بجبال الألب. وفي المشهد الذي يبدو رائع الجمال، هناك في طياته قصة تهجير غريبة من نوعها لقرية قديمة تُدعى كورون.
البحيرة المعنية هي بحيرة ريسيا، الواقعة في جنوب منطقة تيرول الإيطالية، بالقرب من الحدود مع النمسا وسويسرا، وهي أكبر بحيرة في تلك المنطقة.
وقبل أن تكون كورون بحيرة معروفة، كانت قرية ممتدة منذ العصور الوسطى وموطناً لمئات الأشخاص، ثم تم غمرها بالمياه عن عمد؛ لإفساح المجال لبناء محطة كهرومائية في المنطقة لتوليد الكهرباء عام 1950.
انبعاث القرية من تحت الماء بعد عقود
بعد نحو 71 عاماً من غرقها وتحوُّل القرية إلى بحيرة، وتحوّلها إلى وجهة سياحية تستهدف الناس في الشتاء، ليمارسوا التزلّج حول برج كنيستها المنتصب من المياه المتجمدة، أُجبرت عمليات الإصلاحات التابعة للسد مؤخراً على تجفيف البحيرة بشكل مؤقت؛ ما دفع إلى ظهور قرية كورون الإيطالية المنسيَّة، بعد عقود من غرقها تحت المياه أواخر شهر مايو/أيار عام 2021.
السكان المحليون الذين زاروا موقع البحيرة الهادئة ذات مرة، يأتون الآن للسير في قاع البحيرة الجاف؛ لرؤية آثار الحياة القديمة التي سبق أن وُجدت في هذا المكان.
وفي حين لم ينجُ أي من المنازل والبنايات -بخلاف برج الجرس- من الفيضان، فإن السلالم القديمة والأقبية والجدران وبعض علامات القرية الإيطالية البارزة التي أمضت عقوداً في قاع البحيرة، قد انكشفت فجأة قبل أسبوعين في عملية التجفيف والصيانة؛ ما دفع كثيرين إلى البحث في تاريخ قرية كورون الإيطالية، وكيف تحولت إلى سراب.
برج الجرس شارة القرية المنسية حتى اليوم
تقع بلدة كورون في منطقة جنوب تيرول التي كانت ذات يوم جزءاً من الإمبراطورية النمساوية المجرية قبل استيلاء إيطاليا عليها في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
وقد بُني برج الجرس المنتصب إلى اليوم في نهاية عام 1300 تقريباً، بشكل منفصل عن الكنيسة في قرية كورون. وهو يرمز إلى القرية الإيطالية؛ لكونه جزءاً لا يزال سالماً وقائماً حتى اليوم رغم ضياع ملامح قريته وتهجير أهل منطقته.
سيطرة وطموحات إيطالية لتحويلها إلى بحيرة
لطالما حملت قرية كورون ندبات من الحربين العالميتين الأولى والثانية بحكم انتمائها إلى ألمانيا وموقعها الجغرافي المتاخم للنمسا وسويسرا. وقد عاشت فيها عشرات العائلات يُرجح أنها بلغت 160 عائلة تقريباً، بحسب موقع Architectural Digest.
وفي عام 1919 بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، سيطرت إيطاليا على هذه المنطقة وضمّتها إلى جنوب منطقة تيرول الإيطالية، وذلك على الرغم من لغة السكان الأصليين الألمانية التي لا يزالون يستخدمونها حتى اليوم بشكل رسمي في المنطقة، وفقاً لموقع Venosta الإيطالي.
وقد رأى نظام موسوليني في ذلك الوقت، أن بحيرتي منطقة فال فينوستا تشكلان مصدراً واعداً للطاقة كفيلاً بأن يطوّر القدرة الصناعية للبلاد في الشمال. ما دفعهم إلى التفكير في وضع حلّ لوجود قرية كورون.
وظن القرويون حينها أن البحيرة الجديدة سيكون عمقها 5 أمتار في مكان القرية؛ ما دفع بعض الأهالي إلى الاعتقاد بأن البحيرة بهذا العمق لن تمسّ البيوت الموجودة على الارتفاع المناسب وستتركها سليمة.
ولكن تم نشر أمر يشرح أنَّ عمق البحيرة الجديدة المقرر إنشاؤها مكان قرية كورون سيكون 22 متراً، وتم توزيع منشور بتلك المعلومات على أهالي القرية عام 1940؛ للضغط عليهم لإخلاء المنطقة، ولكنه كُتب باللغة الإيطالية، وهي لغة لا يتحدثها السكان المحليون.
ومع بداية الحرب العالمية الثانية، تم التخلي عن المشروع مؤقتاً. واعتقد سكان المنطقة أن مشروع الحوض الاصطناعي سيؤجَّل إلى الأبد.
ومع ذلك، في عام 1947، أعلنت شركة "مونتيكاتيني" التي حصلت على مناقصة تنفيذ المشروع من الحكومة الإيطالية آنذاك، البدء في بناء السد فوراً، وفقاً لصحيفة The Times.
وقد حاول سكان قرية كورون حينها بقيادة قس القرية المدعو ألفريد ريبر، استخدام جميع الأدوات السياسية لمنع استمرار العمل وتشريد العائلات وتهجيرهم قسراً من قريتهم.
حتى إن كبار رؤساء القرية بقيادة القس قد زاروا البابا في روما؛ لإقناعه بالتدخل لدى الحكومة الإيطالية لإعادة التفكير في المشروع، ولكن باءت كل تلك المساعي بالفشل.
وعند بداية العمل على أرض المشروع، نُقل أهالي قرية كورون كلهم إلى أماكن إقامة مؤقتة بالقرب من القرية، وقد تقاضوا مبالغ زهيدة كتعويض عن خسارة منازلهم وسبل عيشهم وفقاً لصحيفة The Times، وتم غمر 677 هكتاراً من الأراضي لإنشاء البحيرة.
إتمام مشروع البحيرة وبناء قرية كورون جديدة
بينما صمد برج الجرس التابع لكنيسة القرية أمام المتفجرات التي استُخدمت في تهيئة المكان للغمر، غرق نحو 163 منزلاً تحت الماء وتشرّدت مئات العائلات التي بلغ أفرادها إجمالاً نحو 1000 شخص تقريباً، بحسب مجلة Architectural Digest.
وبعد فقدان المأوى، رحل معظم المتضررين إلى القرى والمناطق المجاورة، وانتقل نحو 400 شخص إلى قرية كورون جديدة تم إنشاؤها على ضفاف بحيرة ريسيا لاستيعاب العائلات المشرّدة. وهي القرية التي لا تزال قائمة إلى اليوم ويعيش فيها كثير من العائلات المُهجرة من القرية الأصلية.
وتشكّلت بحيرة ريسيا مكان قرية كورون من خلال اتحاد بحيرتين طبيعيتين من جبال الألب كانتا على طرفي القرية المغمورة. وتنتج محطة الطاقة في بلدية جلورنز الإيطالية بفضل هذه البحيرة، نحو 250 مليون كيلوواط/ساعة من الكهرباء خلال السنة الواحدة.