قبل الحرب العالمية الثانية، كانت الزيجات الملكية أسلوباً شائعاً لتشكيل التحالفات السياسية، وعلى مدار 1000 عام ربطت هذه الزيجات بلدان القارة الأوروبية بعضها ببعض، وقد تمت آخر هذه الزيجات في عام 1947، عندما تزوج فيليب أمير اليونان والدنمارك، إليزالبيث أميرة بريطانيا العظمى.
إليكم قصة آخر الزيجات السياسية الملكية:
زواج الأمير فيليب بالأميرة إليزابيث.. آخر تجسيدات حلم الملكة فيكتوريا
حين تزوّج أمير اليونان والدنمارك فيليب أميرة بريطانيا العظمى إليزابيث، أعادا الاتصال بين السلالتين الملكيتين المنحدرتين من الملكة فيكتوريا. علاوةً على تجديد العلاقة الملكية بين بريطانيا والدنمارك، اللتين انضمت إحداهما إلى الأخرى في أكثر من مناسبة بالماضي.
وطيلة قرون، حافظت كل ملكيةٍ أوروبية تقريباً على علاقات دبلوماسية مع جيرانها بزواج السلالات الملكية، ضمن النظام الذي ظل قائماً حتى ثلاثينيات القرن الماضي، قبل أن يختفي سريعاً في فترة ما بعد الحرب.
وفي تناقضٍ صارخ، كانت هذه الممارسة هي القاعدة المطلقة قبل الحرب العالمية الثانية، كما تجلّى على وجه الخصوص، في شبكة الزيجات المتشابكة الكثيفة بين العائلات الملكية السويدية والدنماركية والنرويجية خلال العقود المبكرة من القرن الـ20.
إذ كان أحد الأحلام الكبرى للملكة فيكتوريا وزوجها الأمير ألبرت -وكلاهما ابن عمومة وُلِد بفضل اتحادات السلالات الملكية- أن تتحد قارة أوروبا بأكملها من خلال العلاقات الملكية؛ وذلك أملاً في أن صلة القرابة ستخفض احتمالات خوض الحروب.
لكن هذا الفكر أثبت سذاجته السياسية، وعلى نحوٍ كارثي؛ لأن الحرب العالمية الأولى التي أعقبت موت فيكتوريا، شهدت نزاعاً بين أبناء العمومة، قيصر روسيا نيقولا وملك بريطانيا العظمى جورج الخامس ضد قيصر ألمانيا فيلهلم، رغم صلة قرابتهم الملكية الوثيقة. وبحلول عام 1914، كانت بريطانيا وروسيا وألمانيا قد تحولت إلى دولٍ قومية بحكومات حديثة، وبعيدةٍ كل البعد عن سيطرة السلالات الملكية الأميرية سواءً سياسياً أو دبلوماسياً.
وبذلك مثّل زواج الأمير فيليب بالأميرة إليزابيث عام 1947، واحداً من آخر تجسيدات حلم الملكة فيكتوريا. إذ جمع الشمل بين اثنين من نسلها: إليزابيث من سلالة والدها، وفيليب من سلالة والدتها الأميرة أليس من باتنبرغ، وهي من أحفاد فيكتوريا. وشهدت العقود السابقة بالطبع زواج أربعة من شقيقات فيليب بآخرين من أحفاد فيكتوريا، وفقاً لما ورد في موقع How Stuff Works الأمريكي.
ولكن في عام 1947، كان الزمان قد تغيَّر ولم تعد بريطانيا بعد الحرب مهتمةً برؤية وريث العرش متزوجاً بفردٍ في عائلةٍ ملكية أجنبية، خاصةً رجلاً تزوّجت شقيقاته بضباطٍ ألمان بارزين، بينما لا تُحكِم عائلته الملكية قبضتها على عرش اليونان مع تاريخ سلالة مليء بحالات التخلّي عن العرش والانقلابات العسكرية والاستفتاءات.
لذا "أُعيدت تسمية" فيليب قبل زواجه ليصير فيليب مونتباتن، ملازم البحرية الملكية وأحد رعايا بريطانيا بالتجنيس. ولكن من أين جاء الاسم؟ ولماذا كان يُدعى في السابق "أمير اليونان والدنمارك"؟
دوق إدنبره، أمير اليونان والدنمارك سابقاً
يُعَدُّ هذا السؤال مهماً لفهم هوية دوق إدنبره، وبالتالي هوية العائلة الملكية البريطانية، وكذلك موقع بريطانيا وسط المجتمع الدولي الأوروبي. وكلها أمورٌ متداخلةٌ للغاية، إذ قال فيليب نفسه في مقابلةٍ أجراها عام 2014:
"يمكن القول إنني اعتبرت نفسي إسكندنافياً، أو دنماركياً على وجه الخصوص. كنا نتحدث الإنجليزية في المنزل… بينما تعلّم الآخرون اليونانية. وكنت أفهم القليل من تلك اللغة. ثم تحوّل الحديث إلى الفرنسية، ثم صار باللغة الألمانية، في بعض المناسبات، لأنّ لنا أقارب من الألمان. وإذا عجزت عن التفكير في كلمة بلغةٍ ما، فيُمكنك قولها عادةً بلغةٍ أخرى".
وتجربته خير تعبير عن البيئة العالمية الاستثنائية التي عاشتها البلاطات الملكية في أوروبا قبل قرنٍ من الزمن، حين كان أمراء بروسيا وروسيا لديهم دائماً مربيات إنجليزيات، بينما تحدّث البالغون الفرنسية بطلاقة. والملكة إليزابيث الثانية نفسها نشأت في بيئةٍ مشابهة، وتتحدّث الفرنسية بطلاقة.
ولكن لماذا يعتبر أميرٌ يوناني نفسه إسكندنافياً؟ ففي منتصف القرن الـ19، حين بدأ انهيار الإمبراطورية العثمانية يتمخّض عن ولادة دول مستقلة جديدة مثل بلغاريا واليونان؛ قرّرت القوى العظمى الأوروبية أن اختيار الأعضاء الصغار في العائلات الملكية الكبرى لتشكيل الملكيات الجديدة سيكون الخيار الأفضل من أجل مصلحة الاستقرار في المنطقة.
وكانت اليونان، التي استقلت سنة 1832، تقع في البداية تحت حكم الأمير البافاري أوتو. ولكن في عام 1863، جرت الإطاحة به واختيار الأمير ويليام الدنماركي (17 عاماً)، ليحل محله.
سلالات ملكية قديمة
كانت العائلة الحاكمة الدنماركية، آل أولدنبورغ، واحدةً من أقدم السلالات الملكية في أوروبا. وكانت السلالة معروفةً بأفكارها الليبرالية، لذا كان من المأمول أن يساعد أميرٌ شاب من تلك العائلة اليونانيين في تأسيس ملكيةٍ ديمقراطية على غرار الدنمارك، أو حليفتها المقربة إنجلترا.
وكان عهد الأمير ويليام، بصفته ملك اليونان جورج الأول، طويلاً وهادئاً نسبياً. لكن الأمر اختلف مع نجله قسطنطين الأول، الذي أُجبِرَ على التنازل عن العرش بعد حربٍ كارثية مع تركيا (1919-1922). وكان شقيقه الأصغر الأمير أندرو قد شارك في الحرب، وأُرسِلَ إلى المنفى مع ابنه الرضيع الأمير فيليب.
وبالتالي نشأ فيليب بالمنفى، داخل باريس في البداية قبل انتقاله إلى إنجلترا، حيث التحق بمدرسةٍ في هامبشير. وبدأ حياته المهنية في البحرية البريطانية عام 1939، ليخدم بامتياز خلال الحرب العالمية الثانية، قبل أن يتقاعد من الخدمة بمجرد أن صارت زوجته الملكة عام 1952.
وقد حصل على الجنسية البريطانية في صيف عام 1947، قبل أشهرٍ قليلة من زفافه، واتّخذ لقب عائلة والدته اسماً له ليصير فيليب مونتباتن، الذي يرجع أصله إلى لقب باتنبرغ، لكنه تغيّر بسبب المشاعر المعادية للألمان في إنجلترا عام 1917.
وكان آل باتنبرغ من عائلةٍ حاكمة قديمة هي آل هيس، أمراء أقاليم وسط ألمانيا منذ القرن الـ13.
ولم يكن فيليب هو الوحيد الذي مثَّل العائلة الملكية اليونانية في بريطانيا: فقبل عقدٍ واحد، تزوجّت ابنة عمه الأميرة مارينا بأصغر أبناء دوق كينت، جورج الخامس.
وكان فيليب مرتبطاً عائلياً بالمملكة المتحدة عن طريق خاله إيرل مونتباتن، بطل البحرية البريطانية في الحرب، لكنّه ظل في الوقت ذاته مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالنظام القاري القديم. إذ كانت إحدى خالاته هي ملكة السويد لويزا.
وماتت لويزا مونتباتن عام 1965 ومارينا من اليونان عام 1968. وبحلول سبعينيات القرن الماضي، باتت الزيجات الملكية تُعتبر مسألة حُب وليست من شؤون الدول أو محاولات إعادة روابط السلالات الملكية القديمة.
وبرحيل دوق إدنبره، يرحل معه النظام الذي ظل خالداً لنحو ألف عام من تاريخ أوروبا.