من الطبيعة البشرية المُعقدة أننا كثيراً ما نشعُر بالإعجاب بالشخص كلما بدا مستحيلاً أكثر، لأن ما يعنيه ذلك لعقولنا ذات العواطف المتشابكة التي تحرّكها "الأنا"، هو أن هذا الشخص "المستحيل" يمكنه أن يُبادلنا الشعور ذاته فقط لأننا أيضاً استثنائيون.
وفي الحبكة الدرامية لكل الأفلام الرومانسية تقريباً، تنجذب إحدى الشخصيات الرئيسية إلى شخصية أخرى تبدو مستحيلة بالنسبة لها في البداية، ثم ما يلبث الأمر أن يتحول بسبب تبادل مشاعر الاهتمام بين الطرفين.
وهي ديناميكية نعرفها جيداً، فالممنوع -أو في هذه الحالة بعيد المنال- مرغوب أكثر، ودليل أكبر على أننا نستحق؛ الأمر الذي يؤدي إلى اعتقاد أن الشخص المفرط في اللطف والاهتمام بنا، شخص يائس، من المفترض أن نهرب منه على الفور.
ظاهرة النفور من اللطف الزائد!
ولكن ما الذي يجعل الناس تتحفظ بشدة حيال تقبُّل الشخص المبالغ في اللطافة؟ تشير دراسة في علم النفس والاجتماع نشرتها مجلة Pub Med العلمية عام 2018، إلى أن الأمر يعتبر أسلوباً تنافسياً بحتاً لدى البشر، وقد يتورط فيه الأشخاص دون معرفة السبب بشكل واعٍ.
ويحدث الأمر تحديداً بسبب رغبة الأنا لدى الإنسان في إثبات براعتها في نيل الأشياء القيِّمة والجميلة، وبالتالي عندما نحصل على شيء من دون إثبات أي مهارة شخصية، يبدأ العقل في إثارة الشكوك حول حقيقة وقيمة هذا الشيء "سهل المنال"، وبالتالي نبدأ في عدم الرغبة فيه.
وبنفس قواعد نظرية "العرض والطلب"، نكون بحاجة إلى معرفة أن هناك قيمة في شيء ما قبل أن نتمكن من الاستثمار فيه. وعندما يزداد الطلب على الشخص أو يصعب الوصول إليه بسهولة، فإننا نرى قيمة فيه، وفقاً للدراسة.
الهروب خوفاً من الأذى المُحتمل
وتقول جيسي كان، أخصائية الاستشارات العاطفية والعلاقات لمجلة Refinery 29، إنه إذا ما كنت من الأشخاص الذين يشعرون بـ"النفور وعدم الارتياح" تجاه الشخص شديد الاهتمام بك، فمن المحتمل أن يكون ذلك بسبب معاناتك أزمة في الثقة والحميمية.
وتوضح جيسي: "عندما تصبح العلاقة أكثر تقارباً بين الطرفين، يميل كل منهما إلى أن يكون أكثر هشاشة وضعفاً، وفي هذه المرحلة يكون من السهل أن يؤذي كل منهما الآخر".
وبالتالي عندما يقرر شخص ما أن يهرب من الطرف الآخر الذي يُبدي له اهتماماً أكبر، فهو بذلك يفّعل ميزة دفاعية لديه؛ مخافة أن يتعرض للأذى لاحقاً، وهو الأمر الذي قد يتكرر في العلاقات بأنواعها من زمالة أو صداقات أو زواج، وحتى أحياناً بين أفراد الأسرة الواحدة.
الاعتقاد بأن الاهتمام = اليأس
لكن هذا ليس السبب الوحيد الذي يجعل بعض الأشخاص حريصين جداً على الهروب من الاهتمام الشديد؛ إذ قد يثير الاهتمام المُبالَغ فيه لدى بعض الأشخاص الاعتقاد بأنه دليل على اليأس وقلة الحيلة أو ضعف الشخصية.
ويحدث ذلك حينماً يُصاب شخص معين بالنفور عندما يتلقّى من الطرف الآخر فيضاً غامراً من الاهتمام والتقدير. وتقول الخبيرة جيسي كان، إن ذلك يحدث كأنه يعني أن الشخص المُهتم، ببساطةٍ "يائس، حياته رتيبة وفارغة إلى درجة أنه يمتلك هذا القدر من المشاعر الفائضة التي لا تتطلب أي شيء في المقابل، وبالتالي هذا دليل على ضعف شخصيته وعدم استحقاقه للإعجاب".
ويظن كثيرون أن النضج والاستقلالية أمران يعنيان قدرة الشخص على الاستغناء عمّن حوله، وبالتالي يُفسَّر الحرص الشديد والتعلُّق على أنه احتياج وضعف. وهي بالطبع الاعتقادات غير الدقيقة في تفسير العلاقات، وفقاً لجيسي كان.
النظرة الدونية للذات
أحياناً يكون الدافع وراء النفور من الاهتمام الزائد بنا، منطلقاً من حقيقة مؤسفة محبوسة وغير واضحة في أعماقنا، وهي أننا نشعر نسبياً بأننا لا نستحق المحبة واللطف والمعاملة الطيبة.
وفي تقرير بموقع bustle عن الأسباب النفسية لعدم قبول اللطف الزائد، اتضح أن أحد الأسباب يكمن في عدم تقديرنا لقيمتنا الذاتية. لذلك عندما يبدي لنا بعض الأشخاص الاهتمام، نفترض أنهم يائسون، بسبب رؤيتنا اليائسة لقيمة أنفسنا.
ويحدث ذلك لأننا قمنا عن غير قصد، بـ"تدريب أنفسنا على الاعتقاد بأن أي شخص يحبنا يعني أنه معيب بشدة، أو لأن أي أمر يتحقق بسهولة لنا يعني أنه غير قيّم فعلاً".
وهي المعادلة النفسية اللاإرادية التي تحدث نظراً إلى الحطِّ من قدر الشخص لِذاته ولقيمته. وبالتالي يصبح الشعور بالرفض مثلاً، أفضل بالنسبة لكثيرين من مشاعر المودة القوية وغير المبررة، وفقاً للتقرير.