تختلف عادات وتقاليد العيد من مجتمع إلى آخر، ومن بقعة جغرافية إلى أخرى، وتساهم الظروف التاريخية والأحداث المتعاقبة إلى حدٍّ كبير في رسم شكل هذه العادات والتقاليد.
وتُشكل الأعياد مناسبةً مميزةً تُظهر فيها المجتمعاتُ سِماتها الدينية والإثنية والثقافية والتاريخية، خصوصاً تلك المجتمعات التي تعرَّضت حتى وقت قريب لإبادات هدفت لإفنائها ونزع هويتها وسلخها عن ماضيها، لكن تأتي الأعياد لتُحيي هذه المجتمعاتُ تراثَها الديني والاجتماعي والسياسي والتاريخي.
لهذه الدوافع وغيرها يتمسكُ البوشناق المسلمون في البوسنة والهرسك أشدّ تمسك بعاداتهم وتقاليدهم التي نقلها إليهم آباؤهم جيلاً بعد جيل.
زار "عربي بوست" قرية ستريجيفو Striježevo، الواقعة في كانتون زينيتسا، المجاورة لكانتون سراييفو، لنقل أجواء اليوم الأول من عيد الأضحى المبارك.
حيث يبدأ الاستعداد لعيد الأضحى المبارك قبل موعده ببضعة أيام، ويتم توزيع المهام بين أبناء البيت الواحد، فالرجال يبحثون عن أفضل الأضاحي وأنسبها سعراً، تمهيداً لذبحها في اليوم الأول، فيما تبدأ النساء بتحضير البقلاوة وسائر أنواع الحلويات، لتكون جاهزة مع قدوم يوم العيد الأول.
صلاة العيد والقهوة البوسنية
لا تسمع في البوسنة أي تهنئة بقدوم العيد قبل صلاة العيد، فالعيد يبدأ عقب الصلاة، والمباركات عندها تصبح ذات فاعلية، وهو ما يخالف ما جرت عليه العادة في كثير من الأقطار العربية وغيرها، حيث يتبادل الناس رسائل التهنئة قبل يوم أو حتى يومين من بدء العيد.
ونظراً لاستمرار تفشي وباء "كورونا"، فقد أدى معظم البوسنيين صلاة العيد في الساحات، لاتخاذ أقصى التدابير الاحترازية من الفيروس الذي لا يزال يتوسع انتشاره في البلاد.
لكن اللافت في الأمر، ليس فقط طقوسهم قبل الصلاة، بل فيما بعدها، إذ يتوجه المصلون عقب تبادل عبارات التهنئة إلى المقاهي، حيث يبدأون يومهم باحتساء القهوة البوسنية المميزة لدى شعبها، فإياك أن تشبّه تلك القهوة بالتركية أو العربية أو أي شيء، إنها بوسنية بحتة، قضية لا تقبل جدالاً عند أي مواطن بوسني!
بعدها، يعود البوسنيون إلى المنازل حاملين بعض الحلويات، ليستقبلوا بها أسرهم عند الباب، ويتناولوا وجبة الفطور ويحتسوا القهوة معاً، قبل بدء المهمة الكبيرة، وهي ذبح الأضاحي.
ذبح الأضاحي وتوزيعها
يشارك معظم أفراد العائلة في ذبح الأضاحي، ويمكن بالطبع جلب الجزارين أو المحترفين لذبح الأضاحي مقابل مبلغ مالي، إلا أن كثيراً من البوسنيين، وخصوصاً قاطني القرى، يفضلون ذبح أضاحيهم بأنفسهم.
فيما جرت العادة أن ثلثاً من لحم الأضحية يقسم في أكياس صغيرة خاصة، كتب عليها "لنجعل العيد مباركاً"، بهدف توزيعها للأقارب والجيران، فيما يوزع الثلث الثاني على الفقراء.
وفيما يتعلق بآلية التوزيع، فهي تتم على النحو التالي، يحمل الأطفال سلة توضع فيها الأكياس الصغيرة الممتلئة باللحوم، ومن ثم يدورون على منازل الأقارب والجيران ويوزعونها، وفي المقابل يأخذون نقوداً كـ"عيدية" أو بعض الحلويات.
ويتعمد البوسنيون إرسال الأطفال لتوزيع لحوم الأضحية، في سبيل نقل عاداتهم وتنشئة الأجيال الصغيرة عليها.
لذا، ترى البوسنيين في أول يوم من العيد، داخل المدن والقرى على حد سواء، يحملون تلك السلال يتنقلون من منزل إلى آخر.
وعند إعطاء الأضحية يقولون "Halalosum"، بمعنى أن هذا اللحم هو حلال لك، فيما يرد متسلّمها بعبارة "Kabulosum"، بمعنى أنني أقبل هذه الأضحية.
أما الثلث الأخير فهو للعائلة، حيث يُؤكل منه للغداء، فيما يُشوى الباقي بعد وضع كميات من الملح فوقه داخل الفرن، ومن ثم يوضع في الثلاجات استعداداً لبرد الشتاء القارس.
البقلاوة أساسية في العيد
عقب الانتهاء من توزيع لحوم الأضحية، وتناول وجبة الغداء منها، يأتي موعد تبادل الزيارات، والتي تبدأ بالطبع لمنازل الأجداد، الذين يستقبلون الأطفال بابتسامة عريضة وقبلات وبعض النقود.
لكن مهما تنوعت أنواع الحلويات والسكاكر المقدمة داخل المنزل لا يمكن الاستغناء عن البقلاوة، فـ"البقلاوة هي العيد، والعيد هو البقلاوة"، هكذا عبَّرت إحدى النساء عن أهمية هذه الحلوى، بل إن أحد الرجال أردف قائلاً: "إياك أن يأتي العيد عليك دون تحضير البقلاوة، إنه ذنب لن يسامحك البوسنيون على اقترافه".
وعادة، تحضّر البقلاوة منزلياً قبل العيد بأيام قليلة، "يُحرّم" خلالها ولو تذوق مذاق البقلاوة، فهي للعيد، ولا يمكن أكلها قبل العيد.
وما إن تنتهي الزيارات حتى يكون المساء قد أتى، معلناً انتهاء يوم جميل على الرغم مما فيه من تعب وإرهاق!