في خضم حالة الإغلاق وعدم القدرة على السفر والتداعيات التي خلفتها جائحة كورونا وأثرت على البشر والمجتمعات في أنحاء الكرة الأرضية الأربع، وصلتني دعوة للانضمام إلى مجموعة مغلقة في موقع التواصل الاجتماعي الأشهر عالمياً فيسبوك، تضم ما يزيد على 10 آلاف عضو ممن عاشوا في فترة من الفترات في العاصمة الصينية بكين خلال فترة العقود الثلاثة الماضية. ولم أتمكن من تفسير المشاعر الإنسانية الحميمة التي غمر بها أعضاء المجموعة بعضهم البعض خلال الأيام القليلة الماضية، هل هي حنين إلى الماضي وأيام الشباب، أم هي من تداعيات جائحة كورونا والحالة التي يعيشها الجميع من إغلاقات وتضييق على الحركة، أم أنها مزيج من الحالتين معاً.
حالة الحنين إلى الماضي (أو النوستالجيا) بين هذه المجموعة الضخمة من طلاب وموظفين ودبلوماسيين سابقين إلى المدينة التي ضمتهم سابقاً، والتي عبّروا عنها بأشكال مختلفة -مثل الحنين إلى أكلات صينية معينة، أو حي أو شارع أو مقهى أو ملهى ليلي أو جامعة أو مطعم، إلخ- كلها تكشف عن حالة من الحنين إلى فترة ممتعة في عمر هؤلاء. وقد يعتقد البعض أن المتعة مرتبطة بالحياة الرغدة أو السهلة، لكن المتعة قد تكون أحياناً في اقتحام تجربة صعبة وجديدة كلياً. وبالنسبة لغالبية هؤلاء كانت الصين وما زالت بيئة غريبة على الكثيرين، ولا يستطيع كل شخص المواصلة فيها.
تجربة العيش في الصين غريبة وفريدة من عدة نواحٍ، فبالنسبة لجميع القادمين من جهات العالم الأخرى مثل أوروبا والأمريكتين وإفريقيا والشرق الأوسط والقوقاز، كانت اللغة الصينية والعقلية الصينية نفسها عصيّة على الفهم والاستيعاب، لعدة أسباب متعلقة بالتاريخ والحضارة الصينية، والخصوصية التي تتمتع بها الصين والدول المحيطة بها، من حيث التفاعل مع بقية الحضارات مداً وجزراً. فعائلة اللغات الآسيوية (صينية ويابانية وكورية) تُصنّف في علم اللغات ضمن اللغات المتخلّفة، أي اللغات التي لم تتطور مع مرور التاريخ من رموز إلى حروف. وهذا الأمر جعل دراستها أمراً صعباً للكثيرين، الأمر الذي قاد إلى نوع من العزلة الثقافية والاجتماعية بين هذه الشعوب وبين بقية دول العالم. حيث إن اللغة هي المفتاح السحري للقلوب، والجسر الرابط بين الثقافات والشعوب، حتى لو بعُدت المسافات واختلفت العادات والطبائع.
صعوبة اللغة الصينية لم تمنع الكثيرين، وخاصة الغربيين والأفارقة، من اقتحام تحدي تعلُّمها وإجادتها بطلاقة مدهشة كالصينيين أنفسهم. وما ساعد على ذلك استراتيجية الانفتاح على العالم الخارجي، التي قامت الحكومة الصينية بتطبيقها في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، بعد عقود من الحروب والعزلة قبل وبعد سيطرة الحزب الشيوعي الصيني على مقاليد السلطة في البلاد. وقد كان عرّاب هذه الاستراتيجية هو الرئيس الصيني الأسبق دنغ شياوبينغ، الذي تكوّنت لديه قناعة بأن تطور الصين لا يمكن أن يكون من دون الغرب، الذي يحوذ التطور العلمي والتكنولوجيا ورأس المال، وهي كلها عوامل كانت تفتقر لها الصين، وهي خارجة من محنة "الثورة الثقافية الكبرى" وتداعياتها الكارثية على الاقتصاد والتطور العلمي والحياة الاجتماعية لمئات الملايين من الصينيين.
بدأت الصين منذ نهاية السبعينيات في استقطاب الأجانب، عن طريق تقديم منح دراسية لهم، حيث قدم إلى الصين في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي الآلاف من الطلاب الأجانب من أوروبا وأمريكا الشمالية وإفريقيا ودول جنوب شرق آسيا. واستفادت الصين منهم في تعليم مواطنيها اللغات الأجنبية -وخاصة الإنجليزية- وهو أمر من الأهمية بمكان من ناحية أن اللغات كانت المفتاح لغزو العالم تجارياً في المستقبل القريب. وكان غالبية الطلاب الأجانب في العقود الثلاثة السابقة يعملون أحياناً في تدريس اللغات الأجنبية في المدارس ورياض الأطفال في مختلف مدن الصين. ونتيجة لذلك تكوَّنت مجتمعات من الطلاب الأجانب في غالبية المدن الكبيرة في الصين، وتكوّنت بينهم صداقات ومعارف استمرت حتى بعد عودة أغلبهم إلى بلدانهم. بل وتطور الأمر إلى زيجات مختلطة لطلاب من شعوب مختلفة، جمعتهم الحياة في الصين بحياتها الموحشة والقاحلة قبل الانفتاح الكبير الذي حدث في العقدين الماضيين، حيث شهدت الصين عدداً كبيراً من الزيجات بين أفارقة وأوروبيين وأمريكيين ويابانيين وعرب، في مزيج مدهش من تداخل الثقافات البشرية بكل ما تحمله من اختلافات في الثقافة والعادات والتقاليد.
هذه الفترة الرائعة من عمر البعض في الصين لخَّصها هؤلاء المتصيّنون (على وزن المستشرقين) في مجموعتهم، التي احتضنها موقع (فيسبوك) للتواصل الاجتماعي، في حنين البعض إلى أيام الشباب والأسفار على طريقة المغامرين (Back Packers) الذين ينامون في الشوارع والحدائق ومحطات القطارات، وتحدّث البعض بحنين عن تجاربه العبثية ومغامرات الشباب، بينما تحدّث آخرون عن الحياة اليومية في حقبة معينة مثل التسعينيات أو العقد الأول من القرن الحالي. وحكى البعض الآخر عن انطباع تركته فيه مدينة بعينها قام بالسفر إليها، وأخبر بعض المغتربين السابقين في بكين الآخرين عن أعمالهم الحالية وعلاقتها (أو اختلافها) مع ما كانوا يدرسونه أو يؤدونه في بكين.
وكان الأمر برمّته فيضاً من الذكريات والحنين إلى أيام انقضت ولن تعود أبداً. وحتى إن عادت فلن يعود العمر الذي ولّى منه الكثير، ولا نعرف كم سيتبقى منه، كما لن تعود بكين كما كانت قبل عقد من الزمان.
أكتب هذه الكلمات وأنا أستحضر شريطاً من الذكريات في بكين، وفي (قارة) الصين عموماً، من محطات القطار ومترو المدينة، إلى سور الصين العظيم، وميدان السلام السماوي (تيان آن من)، وليالي الشتاء القارس، وجلسات الشواء الصيفية. هي دعوة إلى الاستمتاع باللحظة أيّنما كانت وكيفما كانت، فما تعتبره اليوم تعاسة وشقاء وأوقاتاً عصيبة من حياتك قد تفتقده يوماً ما وتشتاق إليه، مثلما يفعل الكثيرون بعد أن وصلوا إلى خريف العمر. وما تعدّه تجربة صعبة في حقبة ما من حياتك قد يكون هو سبب نجاحك وتفرّدك في المستقبل. كما هي دعوة لجيل الشباب العربي الذي لم يترك له عالم الإنترنت الفسيح ووسائل التواصل الاجتماعي عذراً للقوقعة والانكفاء على الذات والبقاء في مكان واحد، في انتظار وظيفة أو عمل أو أساليب في التعليم عفى عليها الزمن، فالسفر معرفة في حد ذاته، والمغامرة تجلب الحظ السعيد مثلما تجلب الرزق الوفير في العلم والمال ومعرفة الرجال، والحضارات الإنسانية تكتمل بتواصلها مع بعضها البعض.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.