تواجه القضية الفلسطينية اليوم، نوعاً مختلفاً من الحروب -بجانب الحروب المعروفة- التي من الممكن أن تكون أكثر قساوة مما هي ظاهرة عليه؛ وهي التلاعب في تاريخ الشعب الفلسطيني ورموزه الذين شكَّلوا صفحاته الأولى، التي من شأنها تدعيم الموقف "الإسرائيلي" وتقويته، والخطورة الحقيقية تكمن في أن هناك أقلاماً عربية تساهم في ذلك.
هذا ما ظهر جلياً في تقرير "الإخوان النازيون" الذي نشرته صحيفة عكاظ السعودية، التي تعتبر إحدى الصحف الرائدة في المملكة، قبل أيام، وتداولته وسائل الإعلام السعودية بشكل سريع، هاجمت فيه جماعة الإخوان المسلمين وتاريخها، وتعرضت من خلاله لمفتي القدس الراحل الحاج محمد أمين الحسيني، أحد الرموز الدينية والتاريخية للشعب الفلسطيني.
اتهامات "عكاظ" الموجَّهة للحسيني
اتهمت "عكاظ" الحاج أمين الحسيني بعد حوالي 45 عاماً من وفاته، بأنه كان له دور في توطيد علاقات مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا بالزعيم النازي الألماني أدولف هتلر، بهدف تمكينه من الوصول إلى كرسي الحكم في مصر.
لم تكتفِ الصحيفة بذلك، بل قالت إن الحسيني كان "حلقة الوصل في إدارة تجنيد المقاتلين العرب تحت لواء الجيش النازي"، وأضافت أن "الحسيني والبنا قاما بتجنيد جيش إخواني من مصريين وعرب، تم جمعهم من دور الأيتام والمناطق الريفية الفقيرة، للعمل تحت لواء الجيش النازي، والهدف أيضاً السيطرة على الحكم في مصر".
أما عن الآراء حول هذا التقرير، فقد انقسمت بطبيعة الحال بين مؤيد ومعارض، فاعتمد المؤيدون في موافقتهم لـ"عكاظ" على علاقة الصداقة التي جمعت بين البنا والحسيني والتوجهات الإسلامية لكليهما، وكذلك على تواصلهما مع هتلر، أما المعارضون فقد أكدوا أن التقرير "هجومي" على البنا والحسيني وتاريخهما، ولم يتعرض إلى أي مصدر تاريخي محايد.
اتهامات سابقة موجَّهة للحسيني.. لكن من "إسرائيل"
هذه الاتهامات الموجهة للحسيني بما يخص علاقته مع هتلر، ليست بالجديدة بالشكل الفعلي، فقد سبقت "إسرائيل" السعودية في هذا الهجوم بشكل علني، عندما صرَّح بنيامين نتنياهو في المؤتمر الصهيوني العالمي في القدس عام 2015، بأن الحسيني هو الذي أقنع النازيين بتنفيذ محرقة اليهود في أوروبا.
وأكد نتنياهو أن هتلر كان يريد طرد اليهود من أوروبا فقط، ولكن الحسيني قال له إن اليهود ينبغي أن يزالوا من الوجود وإلا فإنهم سينتقلون إلى فلسطين، ومضى بالقول إن هتلر سأل المفتي السابق "ماذا عساي أن أفعل؟" فأجاب، حسب رواية نتنياهو، "أحرقوهم".
قوبلت هذه التصريحات بنقد واستهجان الكثير من اليهود بمن فيهم ناجون من المحرقة، ومنظمة "يد فاشيم" الإسرائيلية المعنية بتخليد ذكرى "المحرقة النازية"، وكذلك المعارضة الإسرائيلية والمؤرخين الإسرائيليين الذين رأوا في ذلك تزويراً للحقائق وتشويهاً خطيراً للتاريخ.
إذاً مَن هو الحاج محمد أمين الحسيني الذي تهاجمه السعودية وتحاربه إسرائيل؟ ولماذا هذا الهجوم؟
النضال السياسي في حياة الحسيني
الحاج أمين الحسيني هو أشهر من تولى منصب الإفتاء في فلسطين، بالتزامن مع كونه رئيس المجلس الإسلامي الأعلى ورئيس العلماء، ولكنه اتخذ على عاتقه دور حماية فلسطين من المؤامرة البريطانية والصهيونية، ليلعب بذلك دوراً سياسياً تاريخياً مهماً؛ في ظل غياب القادة السياسيين الفلسطينيين في ذلك الوقت.
وبناءً على ذلك كان الحسيني أحد أهم محاور الصراع العربي-الإسرائيلي خاصة في مرحلته الأولى، فبعد عام من صدور وعد بلفور عام 1917، أنشأ الحسيني أول منظمة سياسية في تاريخ فلسطين الحديث وهي "النادي العربي" الذي عمل على تنظيم مظاهرات في القدس، وعقد في تلك الفترة المؤتمر العربي الفلسطيني الأول هناك.
أسس الحسيني المجلس الإسلامي الأعلى، عقب انتخابه مفتياً عاماً للقدس للإشراف على مصالح المسلمين في فلسطين، وعقد المجلس في المسجد الأقصى مؤتمراً كبيراً عام 1931 سُمِّي المؤتمر الإسلامي الأول حضره مندوبون من مختلف البلدان العربية والإسلامية، وأصدر فتوى ضد من يبيعون أرضهم لليهود والسماسرة.
الحسيني أمام الإنجليز والعصابات الصهيونية
إن أكثر ما كان يشكل قلقاً على مشروع حكومة الانتداب، هو تعبئة الروح الثورية في قلوب الناس، وهذا ما عمل عليه الحسيني، بتحريضه مع مجموعة من رفاقه على قيام "ثورة البراق" وهي أول ثورة فلسطينية ضد الاستيطان اليهودي عام 1929.
وعلى إثر هذه الحادثة، أصدر الإنجليز قرارهم باعتقال الحسيني ومن معه، لكنه استطاع الهرب نحو شرق الأردن، وظل هناك حتى هدأت الأمور، ليعود مرة أخرى للنضال، حتى عاد اليهود إلى "التحركات الاستفزازية" ضد المسلمين في سبيل تهويد القدس، الأمر الذي جعل الحسيني يرسل إلى الحاكم البريطاني يحذره من المطامع اليهودية التي ستبدأ بالبراق وتنتهي بالمسجد الأقصى وامتلاكه، ولم تتخذ بريطانيا أي موقف.
أدرك الحسيني أن الشعب الفلسطيني لم يكن على جاهزية لخوض معركة عسكرية بطريقة حديثة أمام الإنجليز والعصابات الصهيونية، فأيد الجهود السياسية لحل القضية الفلسطينية؛ في الوقت الذي كان يعمل أيضاً بطريقة سرية لتكوين خلايا عسكرية اعتبرت النواة الأولى التي شكَّل منها عبدالقادر الحسيني فيما بعد جيش الجهاد المقدس.
أما النقطة الحاسمة فكانت عقب استشهاد الشيخ عز الدين القسام عام 1935، وسياسة الهجرة اليهودية وطرد الفلسطينيين، حيث بدأت الثورة الفلسطينية المسلحة في 1936 في منطقة قريبة من القدس، حتى عمت حالة الإضراب والثورة جميع المدن، وتوالت تنفيذ الهجمات ضد الإنجليز واليهود.
إذاً كيف بدأت قصته مع الألمان؟
يتضح لنا أن الحسيني لم يكن مختصاً بالسياسة، ولكن الوعي الفطري والحماسة الثورية شكلتا شخصية "المفتي" السياسية، ومن هنا رأى الحسيني وجوب استغلال أحداث الثورة، فاتجه إلى السعودية وسوريا واتصل بالعراق وشرق الأردن لتقديم الدعم اللازم للثوار الفلسطينيين، إضافة لتشكيل اللجنة العربية برئاسته للإشراف على هذه الهبَّة الشعبية الكبرى.
لم تتوقف محاولات الحسيني في تلك الأثناء عند هذا الحد؛ بل اتصل بالقنصل الألماني في القدس طالباً منه المساعدة باتخاذ موقف تجاه الصهيونية، ويبدو أن الألمان أخذوا مطلبه على محمل الجد، ولكن ما أوقف نشاطه هو إعلان البريطانيين "قرار التقسيم"، الذي على إثره اغتال الثوار الحاكم البريطاني للجليل.
وعلى إثر هذه الحادثة أصدرت السلطات البريطانية قرارها بعدم شرعية اللجنة العربية العليا ونفي أعضائها إلى سيشل، وحل المجلس الأعلى الإسلامي وإيقاف زعيمه الحسيني الذي فضَّل الخروج من فلسطين على الوقوع في السجون البريطانية، متوجهاً إلى لبنان، حيث قاد الثورة من هناك، حتى عام 1939 حين اندلعت الحرب العالمية الثانية.
ضغطت بريطانيا على فرنسا -التي كانت تحتل لبنان- لتسليمها الحسيني، الذي بدوره استطاع الهرب إلى بغداد، حيث دعم حركة رشيد عالي الكيلاني ضد الاحتلال البريطاني، وهناك أعاد التأكيد على اتصاله مع ممثلي الحكومة الألمانية، وأرسل رسالته إلى هتلر.
أبدى الحسيني في رسائله إلى هتلر استعداده للتحالف مع ألمانيا في الحرب نظراً لوجود عدو مشترك، الصهيونية وبريطانيا، ولكنه اشترط لتحقيق هذا التحالف أن تعترف دول المحور بالاستقلال التام للأقطار العربية المستقلة أو التي ما زالت تحت الانتداب، وأن تعلن دول المحور بصورة قاطعة أنه ليست لها أية مطامع استعمارية في مصر والسودان، وعدم الاعتراف بالوطن القومي اليهودي في فلسطين.
وقد ردت ألمانيا على ذلك برسالة تأكيد بأنها تعترف باستقلال البلاد العربية استقلالاً تاماً، وإن كلاً من الأمتين الألمانية والعربية متفقتان على الكفاح ضد عدوهما المشترك، بل واستعدادها للعمل والمساعدة العسكرية على قدر الاستطاعة.
في عام 1941 توجَّه الحسيني إلى روما حيث التقى بموسوليني وفاوضه على نفس الشروط، ومن ثم توجه إلى برلين حيث استقبله هتلر في مقر الرايخ الألماني باعتباره مفتي القدس الأكبر وأحد أكثر رجال حركة التحرر العربي تأثيراً في تلك الفترة، في مقابلة استمرت أكثر من ساعة، بحسب مذكرات الحسيني، واتفقا على نقاط مشتركة.
قامت الدعاية الألمانية بتصوير اللقاء بينهما للترويج للموقف الألماني في الحرب الدائرة بين القوى الكبرى في أوروبا، باعتبار أن اللقاء كان بداية لما سُمي بالتحالف بين القيادة الفلسطينية والعملاق النازي ضد الإمبراطورية البريطانية، ولكن هتلر رفض التصريح العلني عن اللقاء لاعتبارات سياسية وعسكرية.
استطاع الحاج أمين الحسيني في عام 1942 أن يحصل على اعتراف صريح وعلني من هتلر وموسوليني بدعم القضايا العربية العادلة، وفي المقابل دعا المفتي إلى تطوُّع المسلمين في الجيش الألماني من الأسرى القادمين من الجزائر وتونس والمغرب في أوروبا إلى جانب المتطوعين العرب، وكذلك أسرى الحرب العرب لدى ألمانيا، وهذا على عكس رواية "عكاظ" حول تجنيد الحسيني والبنا لجيش إخواني تم جمعهم من دور الأيتام والمناطق الريفية الفقيرة.
نهاية قصة التحالف
اندثرت آمال الحسيني والفلسطينيين بعد الهزيمة التي لحقت بدول المحور، وفر إلى سويسرا باعتبارها بلداً محايداً، ولكن فرنسا استطاعت القبض عليه ووضعه تحت الإقامة الجبرية، حتى استطاع الهرب من فرنسا متجهاً إلى القاهرة، ليستكمل آخر فصل في حياته النضالية.
وخلاصة القول أن الحسيني، كما العالم، كان عليه الاختيار إما الوقوف مع التحالف أو مع المحور، وبطبيعة الحال والمنطق في نظر الكثير، رأى أن التحالف مع ألمانيا أمر سياسي تقتضيه الأحوال السياسية والمصالح المشتركة، وأن الألمان كانوا على الدوام حلفاء العثمانيين خاصة في زمن السلطان عبدالحميد.
ولكل واقعة تاريخية، مجريات وأحداث ووثائق يجب فهمها والرجوع إليها بشكل حيادي، ولذلك أيقن الكثير من المؤرخين اليهود حالياً أنه على الرغم من خلافهم أو حتى كرههم للحسيني، فإنه لا يصح تزوير سبب لقائه مع هتلر، ولكن إذا كانت الصحف العربية تدعم هذا الموقف -بقصد أو بدونه- فهذا سيخدم مساعي دولة "إسرائيل" في تحطيم تاريخ ورموز الشعب الفلسطيني.
أنا مجد أبو ريا أنهيت بكالوريوس تخصص لغة عربية-إعلام في جامعة الأزهر في غزة، بدأت العمل كمراسل وكاتب محرر صحفي عقب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2012، ومن ثم عملت في مؤسسات إعلامية مختلفة وتخصصت في شؤون المجتمع والتاريخ والسياسة، وبطبيعة الحال شاركت في تغطية عدوان عام 2014، كما عملت لفترة في مجال صناعة المحتوى لما يعرف بالـ "فيديوجراف" في وسائل التواصل الاجتماعي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.