في عام 1966، استيقظ الأمريكيون على خبر جريمة بشعة هزّت أرجاء البلاد، راح ضحيتها 8 طالبات في إحدى مدارس التمريض بعد تعرضهن للتعذيب والاغتصاب، وبعد أقل من 5 أيام قرأ الجميع اسم ريتشارد سبيك في الصحف متهماً بارتكاب هذه الجريمة الجماعية الوحشية.
بعدها دخل اسمه سجلات تاريخ الجريمة ليصبح لاحقاً واحداً من أكثر القتلة المتسلسلين دموية وعدوانية.. في السطور التالية نتعرف سوياً على قصة الرجل الذي (ولد ليشعل الجحيم).
ريتشارد سبيك.. نشأة متوقعة لمجرم منحرف
ولد ريتشارد سبيك Richard Franklin SPECK في 6 ديسمبر/كانون الثاني عام 1941 في مقاطعة مونماوث بولاية إلينوي لأبوين متدينين، ممتنعين عن احتساء الخمور ويعيشان حياة تقليدية ملتزمة، ولكن وفاة الأب كانت عاملاً رئيسياً في تفكك هذه الصورة شبه المثالية؛ إذا تزوجت أمه من رجل آخر صعب المراس له باع طويل في عالم الإجرام وإدمان الخمر.
عانى سبيك من إساءة زوج أمه، ومن تعنيفه الدائم له فترك منزله قبل أن يتم 15 عاماً، وانتقل إلى شرق مدينة دالاس بولاية تكساس، وبرغم تعثره الدراسي والاجتماعي؛ إلا أنه استطاع أن يحتفظ بوظائف مختلفة بشكل أفضل من سيرته في الدراسة.
قضى سبيك عدة سنوات في التنقل بين الوظائف ومعاقرة الخمر بشكل كبير؛ وفي سن 21 عاماً تزوج ريتشارد سبيك شيرلي مالون، التي كانت دائماً تخاف من حدة طباعه المفاجئة، رغم لطف طباعه في بداية علاقتهما.
بداية جرائم ريتشارد سبيك القاتل المتسلسل
قبل أن يتم ريشارد 24 عاماً كان قد اعتقل أكثر من 41 مرة بتهم مختلفة، كانت أولها الاحتيال عام 1963 وقضى 16 شهراً في السجن، وقد كان هذا السبب الرئيسي في رفع زوجته دعوى طلب طلاق، وحضانة لطفلهما الوحيد.
بعدما انتهت الزيجة قصيرة العمر، اعتقل ريتشارد سبيك بشكر متكرر في تهم ذات طبيعة عنيفة، من بينها الاعتداء بسلاح أبيض، والطعن، والسرقة بالإكراه انتهاءً بأولى جرائم الاغتصاب، والتي راحت ضحيتها سيدة مسنة تبلغ من العمر 62 عاماً قبل أن يعذبها جسمانياً. في هذه الفترة عرف سبيك بشكل ما أن حياته لن تكون عادية.
أثناء فترات سجنه الأولى حصل ريتشارد سبيك على الوشم الذي زيّن ذراعه وحمل الجملة المخيفة "Born to raise hell" أو "وُلد ليشعل الجحيم"، كناية عن شخص صانع للمشاكل، عالي الصخب.
محاولة فرار من جحيم.. إلى جحيم أكبر
في بدايات أبريل/نيسان عام 1966، وأثناء عمله نجّاراً لصالح ماري كاي بيرس سيدة تبلغ من العمر 32 عاماً، بعدما أنهى أول يوم عمل له عاد إلى المنزل لاحقاً وقام باغتصاب ماري كاي بوحشية ثم ضربها على رأسها، فسقطت ميتة، فسرق المنزل وهرب.
بعدها بيومين وبصفته المشتبه فيه الرئيسي قامت سلطات ولاية إلينوي بالتحقيق معه ولكن لم يثبت عليه أي شيء بعد ادعائه مغادرة المنزل قبل الجريمة بفترة كبيرة، وبعد إطلاق سراحه سارع إلى الفرار واللجوء إلى إحدى شقيقاته، حتى يجد عملاً مناسباً.
وبالفعل حصل ريتشارد سبيك على وظيفة على متن أحد سفن الشحن، ولكن بسبب إهماله في الذهاب لتفقد جدول العمل؛ ذهبت الوظيفة لشخص آخر. وهو ما أشعل أولى شرارات الجحيم في حياة سبيك؛ فتوجه غاضباً وبشكل عشوائي إلى أحد المنازل واغتصب وسرق إحدى السيدات تبلغ من العمر 53 عاماً، ومن بين محتويات ما سرقه كان مسدس من طراز روم Rohm عيار 22 المخصص للدفاع عن النفس.
محملاً بالإحباط والخوف من ملاحقة الشرطة له، والغضب جرّاء فقدان عمله؛ والمسدس في حوزته لم يكن أمامه سوى أن يفرغ كل هذه المشاعر السلبية بطريقة ملتوية كما اعتاد، وهنا كانت النية لارتكاب واحدة من أكبر وأفظع جرائم الاغتصاب والقتل في تاريخ الولايات المتحدة.
مذبحة طالبات مستشفى شيكاغو للتمريض
في يوم 12 يوليو/تموز من عام 1966 انطلق ريتشارد سبيك إلى جنوب مدينة شيكاغو، أشهر مدن ولاية إلينوي؛ وأثناء رحلته وقعت عيناه على أحد المنازل المتطرفة والذي كان يستخدم وقتها سكناً لطالبات مدرسة التمريض اللاتي يتدربن في مستشفى جنوب شيكاغو المجتمعية، والذي كان يضم حينها 9 طالبات تتراوح أعمارهن بين 20 و23 عاماً.
وبعدما تيقّن سبيك من أن هذا هو هدفه المثالي القادم، قام باقتحام المنزل ليلاً، وتوجه إلى غرف إقامة الفتيات، ودخل الغرفة الأولى والتي كان بها 3 فتيات وافدات من الفلبين، وقام بضربهن وتقييدهن؛ واقتيادهن إلى ثاني الغرف؛ والتي كان بها 6 فتيات أمريكيات.
وبهدوء مخيف قيد ضحاياه بملاءات الأسّرة وقام باقتياد واحدة تلو الأخرى خارج الغرفة؛ لطعنها أو خنقها؛ ومن بين ضحاياه الـ9 اغتصب واحدة فقط وقتل 8 ولكن كتبت النجاة لفتاة فلبينية واحدة هي كورازون أومارو، والتي استطاعت أن تختبئ أسفل الفراش بدون أن يلاحظها ريتشارد.
السقوط السريع والمحاكمة
بعدما فر ريتشارد سبيك من موقع الجريمة؛ عاد بكلّ غرابة إلى مستشفى جنوب شيكاغو، الذي لم يبعد عن مسرح الجريمة سوى دقائق قليلة؛ وطلب الكشف عليه لأنه يشعر بالتوعك؛ ولكن أثناء فحصه لاحظ الطبيب الوشم على ذراعه والذي أدلت الفتاة الناجية بأوصافه في التحقيقات؛ وسرعان ما اعتقب سبيك ووجهت إله تهمة قتل واغتصاب والتنكيل بـ 8 فتيات.
بعدما فشل في أن يدعي ريتشارد سبيك الجنون هرباً من العقوبة؛ حوكم في أكثر من دائرة وحُكم عليه بالإعدام؛ ولكن نظراً لقوانين العقوبات المختلفة بين الولايات عُدلت العقوبة إلى 8 مُدد بالسجن مدى الحياة؛ وصُنّف على أنه مختل اجتماعياً وليس عقلياً؛ بعدما فشلت محاولات أخرى من قبل أمه بأنه سقط على رأسه وهو طفل، ومن ثم فهو مريض عقلي.
الرجل الطائر والمشهد الشهير في مسلسلMindhunter
أثناء سجن ريتشارد سبيك، اشتهر بين أقرانه المسجونين بالرجل الطائر؛ نظراً لأنه كان يعتني بطائرين من فصيلة Sparrow العصفور الدوري؛ وكان يعتني بهما بشكل كبير وبشدة غير عادية، وهو ما أثار الدهشة تجاهه؛ فليس من المنطق أن يعتني سفاح بهذه المخلوقات الرقيقة بكل هذا الشغف.
ولكن ربما يفسر الموقف التالي عقلية رجل مثل ريتشارد سبيك بشكل أكثر وضوحاً. أثناء التحقيق معه من قبل قسم الجرائم النفسية في المباحث الفيدرالية؛ أخبره أحد المحققين بعدما لاحظ مداعبة سبيك للطائر برفق:
– أليست الحيوانات الأليفة ممنوعة؟
فما كان من سبيك إلا أنه استشاط غضباً وفي مشهد مرّوع قام بإلقاء الطائر الصغير تجاه أحد المراوح المعدنية الحادة لتتبعثر أشلاؤه في غرفة التحقيقات.
وعندما قال المحقق له:
– ظننت أنك تحب الطائر
فرد سبيك غاضباً: نعم، ولكن إن لم أستطع أن أحصل عليه أنا؛ فلا أحد آخر يمكنه أن يفعل هذا.
وهو المشهد الذي انتقل بحذافيره -تقريباً- إلى مشهد في إحدى حلقات مسلسل الإثارة والجريمة الشهير Mindhunter من إنتاج شبكة نتفليكس.
في 5 ديسمبر/كانون الأول عام 1991، توفي ريتشارد سبيك في سجنه عن عمر يناهز 51 عاماً إثر أزمة قلبية حادة.