في عالم الجريمة عادة ما تشتهر قضايا القتل المتسلسل بوجود قاتل بعينه، يُتهم في جرائم قتل متشابهة في الطابع، وتحمل سبباً أو أكثر للربط بين دافع القتل والجرائم، من ثم تأتي النقطة الأهم، ألا وهي وقوع القاتل في أيدي الأجهزة الأمنية، ومحاكمته.
ولكن هناك نوع آخر من جرائم القتل المتسلسل تثير التعجب أكثر من غيرها، وهي جرائم القتل المتسلسل التي لم تُحدد فيها هوية القاتل، وتستمر فيها التحقيقات من دون نتائج تُمكِّن السلطات من إغلاق القضية وإعلان الانتصار على المجرم.
إحدى أشهر هذه الأنواع من جرائم القتل المتسلسل هي قضية قاتل زودياك المتسلسل، التي تظّل حتى اليوم لغزاً مُحيراً للكثير، وقضية لم تُحل رغم تواصل القاتل بنفسه مع الشرطة والصحافة أثناء ارتكابه للجرائم.
قاتل زودياك المتسلسل.. بداية قتل الأزواج
في ليلة 20 ديسمبر/كانون الأول من عام 1968، في إحدى البقاع المنعزلة من أطراف مقاطعة فاليو، بولاية كاليفورنيا الأمريكية، قبع كل من ديفيد فارادي، 17 عاماً، وصديقته بيتي لو جينسن، 16 عاماً، في سيارة الأول، يتجاذبان أطراف الحديث، عندما اقترب منهما خلسة رجل غريب بدأ في إطلاق النار على السيارة، وعندما شعر كل منهما بالذعر خرجا من السيارة هاربَيْن، ولكن عاجَلَهما الرجل المجهول بإطلاق النار عليهما، ولقيت الفتاة مصرعها فوراً، ومات الشاب في طريقه إلى المشفى.
بعد عدة أشهر تكرَّرت الجريمة مرة أخرى، وتحديداً في 4 يوليو/تموز عام 1969، على بعد دقائق من مكان الجريمة الأولى، في منتزه بلو روك سبرينغ في المقاطعة نفسها، والضحيتان كانا فتى وفتاة أيضاً، هما دارلين فيرين، 20 عاماً، ومايكل ماجيو، 19 عاماً. أطلق عليهما النار عدة مرات ولاذ بالفرار، ولقيت الفتاة مصرعها، ولكن كُتبت النجاة لمايكل ماجيو، الذي سرعان ما استجوبته الشرطة وأدلى بأول أوصاف حقيقية لقاتل زودياك، وجاءت كالتالي:
رجل مكتنز الجسم، في عمر ما بين 25 إلى 30 عاماً، بطول يقترب من 5.8 أقدام، أبيض البشرة، بوجه كبير، وشعر بني اللون.
التواصل مع الشرطة.. زودياك يعلن عن نفسه
بعد الجريمة الثانية بسويعات قليلة تلقَّت الشرطة اتصالاً من مجهول، يعترف بأنه القاتل في الجريمة، وأنه أيضاً القاتل في الجريمة الأولى، ولكنه لم يترك أية تفاصيل عنه، وبدأت عملية البحث العسيرة عن قاتل لا تملك الشرطة عنه سوى مخطوط رسم أوصافه.
ولكن جاءت أغرب الأحداث في قضية زودياك في الأول من أغسطس/آب عام 1969، عندما استقبل عدد من الجرائد المحلية في كاليفورنيا خطابات مكتوبة بخط اليد، معرّفاً نفسه باسم (قاتل زودياك Zodiac killer)، يعترف فيها الكاتب بأنه هو القاتل في الجريمتين الشهيرتين في منطقتي فاليو ومنتزه بلو روك سبرينغ، واصفاً مجموعة تفاصيل دقيقة عن الجرائم لإثبات أنه هو مرتكبها.
كما أرفق الخطاب بمجموعة من الرموز الغريبة، وطالب بنشرها في الصحف، وإلا سيبدأ القتل من جديد، وأنهى خطاباته بتوقيع رمز غير معروف معناه، عبارة عن علامة زائد أو صليب بداخل دائرة، والذي أصبح فيما بعد الرمز المميز لقاتل زودياك، كما ذكر أن الرموز في الخطابات هي شيفرة تحتوى هويته، بمثابة تحدٍّ لذكاء الجميع، بما فيهم مؤسسات الأمن.
التشفير المرعب.. أنا أحب القتل
بعد حالة من البلبلة والتعجب بين أوساط أجهزة الأمن جرّاء الخطابات المشفرة، بدأت جهود محمومة لفكّ شيفرة الرموز التي أرسلها القاتل، والتي اكتشف رجال الأمن أن مستويات تشفيرها تتضاعف مع كل خطاب، وبعد أن استطاعوا فك شيفرة الخطاب الأول استطاعوا الحصول على التالي:
بخلاف اعترافه بقتل أكثر من 37 شخصاً، جاء نص مكتمل من التشفير:
(أنا أحب القتل، لأنه أكثر متعة من قتل الكائنات البرية في الغابة، لأن الإنسان هو أخطر حيوان يمكن قتله. وهو شيء يعطيني أكثر الخبرات إثارة، حتى إنه أكثر إثارة من الحصول على النشوة الجنسية مع فتاة، أفضل جزء في القتل هو أنني عندما أموت سوف أولد من جديد في الجنة، وهؤلاء الذين قتلتهم سوف يصبحون عبيداً لي، لن أعطيكم اسمي لأنكم ستحاولون تعطيلي أو إيقافي عن جمع مزيد من العبيد في الحياة الأخرى).
وهو الخطاب الذي جعل من قاتل زودياك حالة طوارئ في أجهزة الأمن، وحوّل قضيته من قاتل مجهول إلى قاتل خطير، يتمتع بذكاء بدرجة معينة، والأكثر خطورة أنه مهووس بالقتل إلى حد يقترب من الجنون.
مزيد من الضحايا والمشتبه بهم.. ولكن!
في 27 سبتمبر/أيلول عام 1969، وبعد أقل من شهرين على إرسال الخطابات الصادمة إلى الصحافة والشرطة، جاءت الجريمة الثالثة لقاتل زودياك في مقاطعة نابا بولاية كاليفورنيا، وضحاياها كانا زوجين متحابين، هما سيسيليا شبرد، 22 عاماً، وصديقها برايان هارتنل، 20 عاماً، أثناء وجودهما قرب إحدى البحيرات، عندما اقترب منهما شخص ملثم يرتدي قناعاً قماشياً عليه رمز زودياك، وبحوزته مسدس وسكينّ طويل، وحبل غليظ، وسرعان ما بدأ في تقييدهما وطعنهما، ثم فرَّ من الموقع بعدما خطَّ بقلم على باب السيارة تواريخ الجرائم الثلاث، والتوقيع بالرمز الشهير، وفي الأسفل جملة (بواسطة السكّين).
لقيت سيسليا حتفها في طريقها إلى المشفى، بينما نجا برايان هارتنل رغم تلقيه 6 طعنات، وأدلى بأوصاف شبيهة بأوصاف قاتل زودياك لدى الشرطة.
وفي 11 أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، وُجدت جثة سائق أجرة داخل سيارته، بعد أن أطلق عليه مجهول النار، فيما بعد أدلت بأوصافه فتاة ورجلان شاهدا الحادث من مسافة غير بعيدة، وأدلوا بأوصاف تطابقت مع قاتل زودياك، بخلاف ارتدائه نظارة سميكة الإطار، وكانت هذه الجريمة هي الرابعة لقاتل زودياك بعدد 5 ضحايا.
وبعد التحقيقات المكثفة لم تستطع الشرطة القبض على القاتل، بينما اتهم أكثر من 3 أشخاص بأنهم هم قاتل زودياك، ولكن دائماً كان جزء من أوصافهم أو حجة غيابهم تتنافى مع تأكيد هوية القاتل.
وبعد الجريمة الأخيرة اختفت كل المراسلات من قاتل زودياك، وتوقفت الجرائم التي تتشابه أو ترتبط مع أسلوبه، وظل البحث والتحقيق مفتوحين ضده لمدة ما يزيد عن ثلاثة عقود.
أغلقت قضية زودياك رسمياً عام 2004، بمثابة قضية لم تُحل، وواحدة من أكثر ألغاز عالم الجريمة غموضاً بعد أسطورة جاك السفاح الشهيرة، رغم أن الصحافة في 2014 تناولت اعترافاً لشخص يدّعي فيه أن والده المتوفى هو قاتل زودياك الشهير، إلا أن هذا لم يكن دليلاً كافياً لإثبات هويته.
وبالطبع قصة مثل هذه لم تمر مرور الكرام على صناع سينما الإثارة والجريمة، فقد ظهرت عدة أعمال فنية خيالية، تناولت قصته مع بعض التعديلات الدرامية، ومن أشهرها فيلم الجريمة Zodiac، عام 2007، من إخراج مخرج الجريمة المعاصر الشهير ديفيد فينشر، ومسلسل Awakening the Zodiac عام 2017، والسلسلة الوثائقية The Hunt for the Zodiac Killer.