في 17 سبتمبر/أيلول 1859، نُشر مرسوم غريب في جريدة سان فرانسيسكو يعلن عن تنصيب أول إمبراطور للولايات المتحدة الأمريكية، يذكر: "بناءً على طلب قطعي ورغبة الغالبية العظمى من المواطنين، أنا، جوشوا نورتون، أعلن نفسي إمبراطوراً لهذه الولايات المتحدة".
الإعلان الغريب وربما الوحيد من نوعه في أمريكا قابلته غرابة تقبّل الناس له، إذ لقي نوترنون ترحيباً من بعض سكان مدينته، فيما تجاهلت السلطات إعلاناته التي كان يختمها بـ "نورتون الأول، إمبراطور الولايات المتحدة".
بمعطف مُزين بكتافات، وقبعة ريش نعام، كان الإمبراطور نورتون الأول يسير في الشوارع. وكان يبدو أن الجميع على استعداد للانغماس في خياله الملكي، حيث استمتع كثيرون في سان فرانسيسكو بالتعامل مع النكتة.
كان يأكل في المطاعم مجاناً، وأصدر عملته الخاصة، وأصدر تصريحات رسمية تراوحت بين الكوميديا والجدية.
نتعرف في هذا التقريرعلى شخصية الإمبراطور نورتون، أول إمبراطور للولايات المتحدة الأمريكية.
أول إمبراطور للولايات المتحدة
قبل أن يكون "نورتون الأول إمبراطور الولايات المتحدة"، كان جوشوا أبراهام نورتون مجرد رجل أعمال يسعى لتكوين ثروته.
كان والدا جوشوا نورتون من اليهود الإنجليز، الذين غادروا إنجلترا وانتقلوا إلى جنوب إفريقيا عام 1820.
لا يُعرف تاريخ ميلاده على وجه الدقة، وإن كان التقدير العام يذهب إلى أنه ولد عام 1818 أو 1819.
قضى نورتون شبابه في جنوب إفريقيا، قبل أن يهاجر إلى سان فرانسيسكو في 1849، حيث عمل في قطاع العقارات.
وبحلول أوائل خمسينيات القرن التاسع عشر، استطاع أن يُزيد من رأسماله البالغ 40 ألف دولار إلى ربع مليون دولار.
في ديسمبر/كانون الأول 1852، استجابت الصين للمجاعة بفرض حظر على تصدير الأرز إلى بلدان أخرى، مما تسبب في ارتفاع سعر الأرز في سان فرانسيسكو.
سمع نورتون عن سفينة عائدة إلى كاليفورنيا من بيرو، تحمل 200 ألف رطل من الأرز، وهو الأمر الذي حاول الاستفادة منه بشراء الشاحنة بأكملها، لبيعها بأسعار أعلى.
لكن على عكس توقعاته، تدفقت شحنات جديدة من الأرز إلى سان فرانسيسكو من بيرو وهبطت الأسعار. أعلن نورتون إفلاسه واختفى عن الحياة العامة لعدة سنوات.
عندما ظهر من جديد في سبتمبر/أيلول عام 1859، كان يبدو أنه لم يفقد ماله فحسب، وإنما فقد بعضاً من قواه العقلية.
فتوجه إلى مكاتب نشرة سان فرانسيسكو، وبيده أول مرسوم ملكي له، كان لديه اعتقاد كامل وصادق بأنه كان السيادة غير المعترف بها للولايات المتحدة.
لم يُظهر نورتون أبداً أي أعراض لعدم الاستقرار العقلي أو الوهم، في أثناء مسيرته المهنية في مجال الأعمال، ولكن يبدو أن كل الدلائل تشير إلى أنه فقد عقله مع ثرواته.
الجانب الآخر في القصة كان سكان سان فرانسيسكو، الذين استحوذت عليهم مزاعم نورتون الأول، فقد كان يستقبله الناس بالزينة والترحاب عندما كان يمر في الشوارع.
كان جانب الطرافة والشعبية في القصة يُشجع الصحف المحلية على نشر أسطورة نورتون بنشاط، وطُبعت تصريحاته الإمبريالية مصحوبة بضجة كبيرة.
واحدة من تصريحات نورتون الأولى كانت في أكتوبر/تشرين الأول 1859، والتي قال فيها: "الاحتيال والفساد يمنعان من التعبير العادل والملائم عن الصوت العام، ونتيجة لذلك فإننا نلغي بموجب هذا الأمر الكونغرس".
وفي 16 يوليو/تموز عام 1860، أصدر الإمبراطور نورتون قراراً بحلّ الولايات المتحدة الأمريكية، وفي 12 أغسطس/آب عام 1869، قام بحلّ وإلغاء الحزبين الديمقراطي والجمهوري بسبب النزاع الحزبي.
تجاهلت الحكومة وجنرالات الجيش الأمريكي قرارات الإمبراطور نورتون المتعددة حول الكونغرس والأحزاب، لكن القبول الشعبي له سمح له بتفقد حالة الطرق والأرصفة، وغيرها من الممتلكات العامة.
وعندما غزا الفرنسيون في وقت لاحق جار أمريكا في الجنوب "المكسيك"، رعى نورتون العلاقات الدولية بإضافة "حامي المكسيك" كلقب شرفي إلى لقبه.
الإمبراطور نورتون والقبول الشعبي
أصبح نورتون الأول التميمة العزيزة لمدينة سان فرانسيسكو، كانت صوره مرتدياً الزي الإمبراطوري تُوزع كتذكارات شعبية، ووجدت دمى الإمبراطور نورتون طريقها إلى المتاجر في جميع أنحاء المدينة.
كان يدعوه أصحاب المسارح في ليلة افتتاح كل مسرحية؛ وكانت شركات القطار والعبارات المحلية تسمح له بالركوب مجاناً.
لكن بالرغم من كل هذا ظل الإمبراطور نورتون فقيراً لا يمتلك المال، وهو ما دفع الأشخاص المعجبين به إلى مساعدته مالياً، تحت ستار دفع الضرائب إلى خزانة الإمبراطورية.
وفي عام 1871، نفذت إحدى شركات الطباعة المحلية عملة خاصة، مزخرفاً عليها صورة لنورتون الأول وختمه الإمبراطوري.
وفي عام 1867، عندما ألقى رجال الشرطة القبض على جوشوا نورتون، لإلزامه بمعالجة الاضطراب العقلي، عبَّر المواطنون المحليون والصحف المحلية عن غضبهم الشديد، وأمر قائد شرطة سان فرانسيسكو باتريك كراولي بإطلاق سراح نورتون، وأصدر اعتذاراً رسمياً من قوة الشرطة.
الموت والجنازة
في الثامن من يناير/كانون الثاني عام 1880، سقط جوشوا نورتون على زاوية شارعي كاليفورنيا ودوبونت، حينما كان في طريقه لحضور محاضرة في أكاديمية كاليفورنيا للعلوم، أرسلت الشرطة على الفور عربة لنقله إلى مستشفى مدينة الاستقبال، ولكنه توفي قبل وصول عربة.
أكد تفتيش غرفة نورتون الشخصية بعد وفاته أنه كان يعيش في فقر، فقد كان لديه قرابة خمسة دولارات عندما سقط في الشارع، وكان من بين أغراضه الشخصية مجموعة من عصي المشي وقبعات متعددة ورسائل مكتوبة إلى الملكة فيكتوريا في إنجلترا.
خُططت الجنازة الأولى لدفن الإمبراطور نورتون الأول في نعش فقير، وهو الأمر الذي لم يقبله نادي باسيفيك كلوب، وهو جمعية لرجال الأعمال في سان فرانسيسكو، فقد اختار أن يدفع ثمن نعش من خشب الورد، والذي يلائم رجلاً نبيلاً.
حضر موكب الجنازة في 10 يناير/كانون الثاني 1880، ما يصل إلى 30 ألف شخص من سكان سان فرانسيسكو، البالغ عددهم حينها نحو 230 ألف شخص.
كان موكب الجنازة بطول ميلين، وفي عام 1934 نقل النعش الخاص به، وقد حضر الجنازة الثانية نحو 60 ألف شخص، ونُقش على شاهد القبر الجديد "نورتون الأول، إمبراطور الولايات المتحدة وحامي المكسيك".
الإمبراطور نورتون في الأدب
خُلّد جوشوا نورتون في مجموعة واسعة من الأدب الشعبي، فقد كان مُلهماً لمارك توين في شخصية "الملك" في رواية "مغامرات هكلبري فين"، إذ عاش مارك توين في سان فرانسيسكو خلال جزء من عهد الإمبراطور نورتون.
كذلك تتضمن رواية روبرت لويس ستيفنسون "The Wrecker"، التي نُشرت في عام 1892، شخصية الإمبراطور نورتون، وكانت تدور أحداث الرواية حول قصة حل لغز يحيط بحطام سفينة تحطمت في المحيط الهادي في منتصف طريقها.