كيف تقيس السعادة؟ وما الذي يُسعد الإنسان؟ حيَّرت الإجابة عن هذا السؤال الفلاسفة والعلماء والباحثين لسنوات طويلة.
ولأنَّ السعادة تُعتبر شعوراً ذاتياً، فمن الصعب إيجاد طريقة لقياسها بموضوعية، لكن أكثر الطرق شيوعاً لقياس مستوى السعادة من خلال استبيانات الإبلاغ الذاتي واستطلاعات الرأي، على غرار تقرير السعادة العالمية، الذي تنشره شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة.
لكن حين يتعلّق الأمر بفهم كيفية تحديد مستوى سعادتنا حالياً مقارنةً بالأجيال السابقة، واجه الباحثون صعوبة بالغة في محاولة إيجاد طرق لقياسها.
ما الذي يُسعد الإنسان؟
مؤخراً أجرت مجموعة من الباحثين دراسة حول طريقة تسمى "القراءة الدقيقة" تعتمد على تحليل تأملي ونقدي للنص، والتي تتيح اكتساب فهم أعمق لكيف كان يشعر كاتبو تلك النصوص في وقت كتابتهم لها.
وقد أكَّد علماء النفس جدوى هذه الطريقة، ويعرفون أنَّ ما يقوله شخص ما أو يكتبه يمكن أن يكشف الكثير عن سعادته الكامنة.
لكن ماذا لو كنت تستطيع قراءة كل نص كُتب على الإطلاق من أجل تطوير فهم ما كان عليه الحال حقاً فيما يتعلق بمستوى السعادة خلال السنوات الـ200 الأخيرة الماضية؟
دراسة تعود للنصوص التاريخية
البحث الذي نشره موقع The Conversation كان بمثابة خطوة أولى نحو تشكيل صورة كمّية لمستويات السعادة عبر التاريخ.
إذ طور العاملون عليه طريقة قادرة على تحليل ملايين النصوص المكتوبة في الصحف والكتب، التي نُشرت على شبكة الإنترنت على مدى القرنين الماضيين.
تم ذلك من خلال تطبيق خوارزمية إحصائية على ملايين النصوص التاريخية المُرقمَة، من أجل فهم إلى أي مدى كان أولئك الكُتَّاب سعداء وقت كتابتهم تلك النصوص.
تحليل المفردات المستخدمة وفق خوارزمية
سُميت الخوارزمية بـ "تحليل المشاعر"، التي تقيس مدى تكرار استخدام شخص ما لكلمات إيجابية وسلبية للتعبير عن مشاعره وانفعالاته.
يشير استخدام كلمات إيجابية كثيرة، مثل "الحب"، و "السعادة"، و "الاحتفال" إلى مزيد من المشاعر الإيجابية، في حين يشير استخدام مزيد من المفردات السلبية مثل "الموت"، و "الغضب"، و "الحزن" إلى مشاعر سلبية.
عند تحليل المفردات ومعانيها، تم الأخذ بعين الاعتبار أنَّ بعض الكلمات تغيّر معناها والموقف الانفعالي تجاهها بمرور الوقت، وهو ما يُعرف في علم النفس باسم "التكافؤ".
على سبيل المثال، تغيَّرت المشاعر التي تثيرها كلمات مثل "مثلي الجنس" و "مخاطرة" بمرور الوقت، إذ أصبحت، في هذه الحالة، تثير مشاعر أكثر سلبية.
ومن خلال تحليل اللغة المستخدمة في النصوص المكتوبة من 4 دول غربية -وهم المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا وألمانيا- تم تكوين صورة كمّية للسعادة الذاتية التاريخية، وهو ما أطلق عليه "مؤشر التكافؤ الوطني".
ويستطيع مؤشر التكافؤ الوطني حساب المستويات النسبية للسعادة أو الشقاء، من خلال النظر في اللغة المستخدمة في أي نص في أي سنة معينة.
وبمقارنة نتائج هذا المؤشر مع دراسات استقصائية أجرتها مؤسسة "يوروباروميتر" بتكليف من مفوضية الاتحاد الأوروبي حول السعادة الذاتية، تبين أن المقياس المستخدم موثوق به إلى حدٍّ معقول.
استخدم الباحثون بعد ذلك مؤشر التكافؤ الوطني لمعرفة مدى تأثير الحروب والتغيرات الاقتصادية والصحية، خلال الـ200 سنة الماضية على السعادة الكلية.
السعادة آنذاك والآن
ما توصلت إليه الخوارزمية كان لافتاً للنظر.
بينما يُفترض غالباً ارتباط الناتج المحلي الإجمالي بارتفاع في مستوى السعادة والرفاهية الوطنية، تبين أنَّ تأثيره على السعادة والرفاهية عبر التاريخ كان هامشياً في أحسن الأحوال.
زاد الناتج المحلي الإجمالي بثبات نسبياً، على مدى الـ200 سنة الماضية، في الدول الأربع التي أجريت فيها الدراسة.
ومع ذلك، تغيَّر مستوى السعادة صعوداً وهبوطًا بدرجة كبيرة خلال تلك الفترة.
ربما أكثر ما يلفت النظر هو أنَّ مشاعر السعادة تتّسم بالمرونة والقدرة على العودة مجدداً بصورة مذهلة مع الأحداث السلبية قصيرة الأجل.
تؤدي الحروب إلى تراجع هائل في مستوى السعادة والرفاهية، لكن بعد فترة وجيزة من الحرب، كثيراً ما يحدث تعافٍ ويصل المستوى إلى ما كانت عليه قبل الحرب.
التغييرات الدائمة في مستويات سعادتنا تحدث ببطء، على مر الأجيال.
وجدت الدراسة أنَّ ألمانيا سجَّلت أعلى معدلاتها للسعادة في القرن التاسع عشر، وبعد الحرب العالمية الثانية مباشرة.
عُثر أيضاً على معدلات عالية بدرجة مماثلة في الدول الأخرى خلال القرن التاسع عشر.
ومع ذلك، قد لا تكون هذه المعدلات دقيقة تماماً، لأنَّ الكُتّاب خلال العصر الفيكتوري عادة ما كانوا من طبقة اجتماعية أعلى، بالإضافة إلى أنَّ الموضوعات، التي كتبوا عنها، واللغة المستخدمة من جانبهم كانت مختلفة عن الآن.
ومع ذلك، شهدت ألمانيا ارتفاعاً في معدلات السعادة الذاتية منذ سبعينات القرن العشرين.
الحروب تؤثر على السعادة الجماعية
وسجَّلت المملكة المتحدة أدنى مستوى للسعادة والرفاه في فترة "شتاء السخط"، في أواخر سبعينات القرن الماضي.
وشهدت الأمة البريطانية أسعد فتراتها خلال سنوات ما بين الحربين العالميتين في عشرينات القرن الماضي، وعند نهاية الحرب العالمية الثانية.
في الولايات المتحدة، تأثرت مستويات السعادة بأحداث مروعة مثل الحرب الأهلية والكساد الكبير والحرب الكورية.
وشهدت الولايات المتحدة أعلى مستوى سعادة لها في عشرينات القرن الماضي، قبل أن تتسبَّب الأزمة الاقتصادية المُدمرة المعروفة باسم "الكساد الكبير" والحرب العالمية الثانية في تراجع مستويات السعادة والرفاه بدرجة كبيرة.
تأثّرت إيطاليا على نحوٍ مماثل بالحربين العالميتين، لكنها شهدت زيادة مطردة في مستوى السعادة الذاتية منذ سبعينات القرن الماضي.
السعادة تساعد على رفع الناتج المحلي
توفّر هذه النتائج للحكومات فهماً أفضل يساعد في توجيه الحكومة إلى كيفية تشكيل السياسات.
على سبيل المثال، كيف ينبغي للحكومات إنفاق أموالها لتحسين مستوى الشعور بالسعادة لدى المواطنين؟
تعادل سنة إضافية من العمر (من حيث طول عمر الفرد) في جميع الدول زيادة بنسبة 4.3% في الناتج المحلي الإجمالي.
في المقابل، تعادل سنة من الصراع الداخلي انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 30%.
ومن ثمَّ، قد تسفر السياسات الرامية إلى تعزيز متوسط عمر الفرد، على سبيل المثال من خلال ضمان وصول أفضل إلى خدمات الرعاية الصحية طوال الحياة، عن نتائج أفضل من تبني سياسات تحاول فقط رفع الناتج المحلي الإجمالي، والتي يُطعن في جدوى استخدامها على نحو متزايد كوسيلة لإحراز تقدُّم.
ويُمكن أيضاً استخدام مؤشر التكافؤ الوطني لفهم كيف سيؤثر ارتفاع الدين الوطني والبطالة على مستوى سعادتنا في المستقبل.
لذا، فإنَّ الفهم الأفضل للأشياء، التي تؤثر بالإيجاب والسلب على سعادة المجتمع، قد يكون له تأثيرات قابلة للقياس على كلٍّ من نوعية الحياة والناتج الاقتصادي للأمة.
بوجهٍ عام، قد يساعدنا فهمنا لماضينا النفسي في تحقيق تصوّر أفضل لمستقبل نفسي إيجابي.