الناس غريبون فيما يخص الهواتف النقالة. فمن ناحية، لا يمكننا أن نعيش دونها، إذ يعتمد الوجود الحديث كلياً تقريباً على القدرة على أن تكون متصلاً طول الوقت بجميع الأشخاص الأحياء اليوم، وهو أمر رائع للغاية لو فكرت فيه.
ومن الناحية الأخرى، فنحن نشعر بالذعر دائماً من أنَّ تقدَّمنا التكنولوجي سوف يقتلنا جميعاً، لأنَّه لا شيء أكثر إثارة للخوف من الخطر الذي لا نفهمه.
فعلى سبيل المثال أولئك الذين سوف يركبون السيارة بسعادة على الرغم من الخطر دائم الحضور للتعرض لحادثة، سوف يمضون كميات هائلة من الوقت والطاقة في تجنب استخدام شبكات الاتصال اللاسلكي بالإنترنت (Wifi)، والجيل الخامس للأنظمة اللاسلكية (5G)، على الرغم من وجود أدلة كثيرة على أنَّها آمنة لصحة الإنسان؛ وفقاً لما نشره موقع صحيفة The Guardian البريطانية.
نحن البشر نخاف كثيراً من المجهول
وقد زادت العناوين الرئيسية في وسائل الإعلام من هذه المخاوف، بإعلانها في جميع أنحاء العالم أنَّ الهواتف النقالة ليست مجرد وسيلة عظيمة للعب Angry Birds وأنت في القطار، وإنما تؤدي إلى أن ينبت للشباب نتوءات "تشبه القرون" في قاعدة جماجمهم.
وفي حين أنَّ كثيرين من جيل الألفية سوف يرحبون على الأرجح بقرون الشيطان هذه، فمن الواضح أنَّ هذه النتوءات نتيجة للالتواءات المؤلمة للعمود الفقري، التي تسبب مشكلة رئيسية لصحة الإنسان.
ولحسن حظ أولئك الذين يمضون كل لحظة من لحظات استيقاظهم أمام جهاز ما، فإنَّ الأدلة ليست واضحة كما قال البعض. فمن المرجح أنَّ الهواتف النقالة، حتى الآن، لا تحول الشباب حرفياً إلى شياطين قادمين من الجحيم.
العلم يتناول "القرون" النتوءات العظمية، ولكن!
الحُجة الأساسية بسيطة، وتأتي من دراسة أُجريت عام 2018، فحصت نمواً عظمياً يدعى النتوءات القذالية الخارجية، في مجموعة كبيرة من الأشخاص تتراوح أعمارهم بين 18 إلى 86 عاماً، أجروا أشعة سينية على العمود الفقري والجمجمة.
بعد ذلك صنَّف الباحثون هذه النتوءات إلى نتوءات عادية أو متضخمة، استناداً إلى الفكرة القائلة إنَّ النتوءات القذالية الخارجية الكبيرة يمكن أن تكون مرتبطة بالصدمات أو المشكلات الصحية الأخرى، وقارنوا معدل وجود هذه النتوءات المتضخمة عبر الفئات العمرية المختلفة.
ووجد الباحثون أنَّ الفئة العمرية من سن 18 إلى 29 عاماً هم الأشخاص الأكثر عرضة للإصابة بهذه النتوءات المتضخمة، مقارنة بالفئات العمرية الأخرى، إذ بلغت نسبة المصابين من هذه الفئة العمرية 40% مقارنة بـ33% من عامة السكان.
ووجد الباحثون أيضاً أنَّ الرجال كانوا أكثر عرضة للإصابة بالنتوءات القذالية الخارجية المتضخمة مقارنة بالنساء.
ما علاقة ذلك بالهواتف النقالة؟ حسناً، ها هنا يصبح الأمر صعباً.
ليس الاستنتاج دقيقاً إلى حدٍّ كبير
ذكر الباحثون في نهاية ورقتهم البحثية أنَّ من المرجح أن يكون لذلك صلة باستخدام الهواتف النقالة، لأنَّ الرجال أكثر عرضة لاستخدام هواتفهم لأوقات أطول، ولأنَّ هناك بعض الأدلة على أنَّ مستخدمي الهواتف النقالة ربما يكونون عرضة لخطر متزايد للإصابة بمشكلات الرقبة التي يمكن أن تسبب هذه النتوءات.
والمشكلة هنا تتمثل في أنَّ هذا البحث لم يقِس قط استخدام الهاتف، وكذا فمن المحال أن نعرف من المعلومات الواردة في هذه الورقة البحثية إذا ما كانت هذه الزيادة المتواضعة في خطر الإصابة بالنتوءات القذالية الخارجية المتضخمة لدى الشباب لها أي علاقة بالهواتف النقالة على الإطلاق. وأي صلة سببية بينهما هي من قبيل التكهنات، لأنَّه حتى لو نجح الباحثون في قياس استخدام أولئك الأشخاص للهواتف النقالة، فلم يكن تصميم الدراسة نفسه دقيقاً بما يكفي لتقديم ادعاء من هذا النوع. ولم تظهر هذه الدراسة سوى أنَّ العمر مرتبط بمعدل الإصابة بالنتوءات القذالية الخارجية، وهو أمر بعيد كل البعد عن إظهار أنَّ الهواتف النقالة هي أصل المشكلة.
اشتملت هذه الدراسة أيضاً على بعض المشكلات المثيرة للقلق. فمثلما أوضح عدد من الأشخاص على موقع تويتر، فإنَّ بيانات الدراسة تناقض نفسها مباشرة، إذ تظهر في إحدى الرسومات البيانية أنَّ الرجال لديهم نتوءات قذالية خارجية متضخمة أقل من النساء، لكنها تقول في النص المكتوب إنَّ الرجال لديهم نتوءات أكثر.
وكان هناك أيضاً عدد من الأخطاء العددية البسيطة مثل تحديد مجموعة الشباب بأنَّ أعمارهم تتراوح بين 18-29 عاماً في مكان ما، وأنَّ أعمارهم تتراوح بين 18-30 سنة في مكان آخر، فضلاً عن استخدام طريقة إشكالية إلى حد ما في أخذ العينات.
في الواقع، فإنَّ التعليق الأبرز على الورقة البحثية في دورية على الإنترنت يتساءل عن كيفية تخطي هذه الورقة لمراجعة الأقران في المقام الأول، ما يعني ضمناً أنَّ من المرجح أنَّ هذه الورقة ما كان ينبغي لها أن تنشر على الإطلاق. ومع أنَّ جميع هذه الأخطاء ربما لا تكون راجعة لمعدي الدراسة -إذ قد يكون محررو الورقة هم من يستحقون اللوم- فهذا يجعل من الصعب الوثوق في النتائج كما ذُكرت.
الخلاصة.. ليس ثمة دليل
هل تدمر الهواتف النقالة أعمدتنا الفقرية؟ حالياً، ليس ثمة دليل كبير ينفي أو يُثبت الأمر. ذلك أنَّ مراجعة منهجية حديثة تنظر فيما إذا كانت ثمة صلة بين استخدام الهواتف النقالة وآلام الرقبة لم تجد أي بحث قوي حول هذا الموضوع، إذ إنَّ معظم الدراسات مجرد استطلاعات رأي بسيطة إلى حدٍّ ما أُجريت لطلاب الجامعة.
قد يكون استخدام الهواتف النقالة سبباً للألم، لكنَّ هذا النوع من الدراسات لا يعطينا معلومات كافية لإجراء هذا التقييم، إذ تشير المراجعة المنهجية إلى أنَّ الكثير من الوظائف وحتى الأنشطة الرياضية قد تسبب هذه المشكلات لا الهواتف النقالة.
وعلاوة على ذلك، ففي حين أنَّ العناوين الرئيسية قد تمسكت بفكرة أنَّ الشباب قد تنمو قرونهم بسبب الهواتف النقالة، فليس ثمة دليل على الإطلاق يثبت هذا الأمر.
وأكثر ما يمكن قوله بخصوص هذا البحث إنَّ النتوءات القذالية المتضخمة أكثر احتمالاً بقليل لأن تحدث في الفئة العمرية من 18-29 (أو 30) عاماً، على الرغم من أنَّ الدراسة وجدت كذلك زيادة في معدل إصابة الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 60 عاماً أيضاً، وهو ما يجعل من المُحال معرفة سبب تلك الزيادة.
نحن نحب الخوف من هواتفنا النقالة، لأنها جديدة وصعبة الفهم، لكنَّ الواقع أكثر مللاً من ذلك.
من الممكن أنَّ تكون الهواتف النقالة تسبب مشكلات في الرقبة، لكن من الصعب حالياً أن نعرف إذا ما كانت الهواتف أو عنصر آخر هو المسؤول عن ذلك. وبالتأكيد ليس ثمة سبب للاعتقاد بأنَّ استخدام الهاتف سوف يجعل قرون شيطان تنبت لك.