احتُفي خلال الأيام الماضية في ألمانيا ببياته كلارسفيلد بمناسبة عيد ميلادها الثمانين، التي كانت قد ذاع صيتها عالمياً قبل عقود بعدما ملاحقتها النازيون في سوريا وصفعت في عام 1968 مستشار ألمانيا كورت غيورغ كيسنغر؛ لأنها كانت تطالبه بترك السلطة بسبب ماضيه كنازيِّ.
قبل أن تكرّس حياتها بعد ذلك مع زوجها الفرنسي، اليهودي الديانة، في ملاحقة عتاة النازية والكشف عن أماكن وجودهم ومحاولة جلبهم ليلقوا جزاءهم من دول في أمريكا الجنوبية وسوريا.
وقالت كلارسفيلد، وهي من مواليد برلين، إنها صفعت المستشار الاتحادي لأنها كانت تريد إثبات أن جزءاً من الشعب الألماني ساخط لأن نازياً يشغل منصب المستشار.
وأرسل الأديب الألماني الحاصل على جائزة نوبل للآداب هاينريش بول حينها باقة ورد لها نظير ما قامت به، وفقاً للقناة الألمانية الثانية.
Auf einen Schlag berühmt: Als Beate Klarsfeld 1968 Bundeskanzler Kiesinger ohrfeigte, schickte Heinrich Böll ihr zum…
Gepostet von ttt – titel thesen temperamente am Mittwoch, 13. Februar 2019
وحُكم على كلارسفيلد (29 عاماً حينها) بالسجن مدة عام حينذاك، لكن لم تنفذ العقوبة فوراً، بل تم تخفيضها لاحقاً إلى 4 أشهر سجن مع وقف التنفيذ.
ويذكر موقع تلفزيون "إم دي إر" العام أنه بعد عدة نشاطات صغيرة في هذا الاتجاه، كان بينها وصفها المستشار في البرلمان بـ"النازي".
أرادت بياته وزوجها سيرغه كلارسفيلد استخدام فضيحة تعرض المستشار لصفعة كسلاح.
ليقوما عبرها بكشف فضيحة أخرى ولفت الأنظار إلى ماضي المستشار كعضو في الحزب النازي ودوره حينذاك، لا سيما أن قلة كان يعرفون ذلك عنه.
وكان لها ذلك على منصة مؤتمر للحزب الديمقراطي المسيحي في غرب برلين.
وذكرت وكالة الأنباء الألمانية أن أول سؤال طرحه المستشار حينها: "هل كانت هذه كلارسفيلد؟".
ورغم الصفعة لم يستقل كيسنغر من منصبه كما رغبت بياته وزوجها بل ظل حتى حل الاشتراكي الديمقراطي فيلي برانت مكانه في عام 1969.
ذهبت إلى باريس مللاً فوجدت مرشدها بقية حياتها
وكانت بياته قد غادرت بلادها، بدافع التخلص من الملل على الأرجح، وهي في عمر الـ 21 عاماً إلى باريس لتعمل في الخدمة المنزلية مقابل الأكل والسكن، واضعة في حسبانها البقاء مدة عام، لكن كل شيء تغيّر وبقيت، بعدما تعرفت المسيحية البروتستانتية على طالب كلية التاريخ الفرنسي سيرغي كلارسفيلد الذي كان يكبرها بـ 3 أعوام.
وروى لها الأخير تفاصيل جرائم النازية، التي نادراً ما كان يتم التحدث عنها في المدارس الألمانية في الخمسينيات، عندما كانت بياته طالبة فيها.
وأيضاً عن معسكر الموت أوشفيتز، الذي قُتل فيه والده عام 1943. وتحول سيرغي إلى مرشد لها ثم إلى زوجها في عام 1963.
الزوجان يواصلان بحثهما عن النازيين بعد حادثة الصفعة
وبدأ الزوجان بعد واقعة الصفعة الشهيرة في دراسة الأرشيف في الولايات المتحدة وألمانيا الشرقية وجمع الأدلة التي ستفيدهما في ملاحقة النازيين الفارين.
وفشل الاثنان في عام 1971 في اختطاف كورت ليشكا، العضو السابق في القوات الخاصة النازية "إس إس"، من كولونيا في ألمانيا إلى فرنسا.
وكان الزعيم السابق للغوستابو في كولونيا، قد بات تاجراً للحبوب حينها.
وحُكم على الزوجين بالسجن شهرين لمحاولتهما خطف ليشكا. وكانت الشرطة قد كشفت خطتهما وقبضت عليهما وهما يحاولان دفع ليشكا إلى صندوق سيارتهما، بحسب صحيفة "الغارديان".
ولم يثر ماضي ليشكا وقيادته لقوات الأمن والشرطة في باريس في العهد النازي اهتمام أحد في كولونيا.
رغم أنه كان محكوماً بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة في فرنسا في عام 1950 لدوره في ترحيل عشرات الآلاف من اليهود إلى معسكرات الاعتقال.
وكانت القوانين الألمانية تنص على أن المرء لا يُحكم مجدداً في بلاده عن جريمة تم عقابه عليها مسبقاً في دولة أخرى. وتعرض ليشكا للمحاكمة لاحقاً في ألمانيا في عام 1980 وحُكم عليها بالسجن 10 سنوات، بجرم المساهمة في قتل يهود فرنسيين.
وتعتبر بياته في مقابلة مع وكالة الأنباء الألمانية محاكمة ليشكا في كولونيا أنها أهم عمل قاموا به. وتشير إلى أن غالبية مجرمي النازية كانوا يعيشون في ألمانيا بأسمائهم الحقيقية.
الكشف عن "جزار ليون" في بوليفيا
وتعد أكثر القضايا التي اشتهر بها الزوجان نجاحهما في الكشف عن مكان كلاوس باربي، القائد السابق للغستابو في مدينة ليون الفرنسية أثناء عهد الاحتلال النازي، المعروف باسم "جزار ليون"، وبوحشيته الهائلة.
واكتشف الزوجان مطلع سبعينيات القرن الماضي، وجوده في بوليفيا تحت اسم مستعار هو "كلاوس التمان". وفشلت محاولة لاختطافه أيضاً. لكن بعد سقوط الديكتاتورية هناك، تم ترحيله إلى فرنسا في عام 1983 وقضت محكمة هناك بعد 4 أعوام، عليه بالسجن مدى الحياة، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
النازيون في سوريا ملاحقة ألويس برونر في دمشق
ولاحقت بياته مع زوجها أيضاً ألويس برونر، مساعد أدولف أيخمان، أحد المخططين الرئيسيين للهولوكوست الذي فرّ واستقر أخيراً في دمشق منذ خمسينيات القرن الماضي، وكان قد بدأ العمل لصالح الحكومة السورية والرئيس حافظ الأسد، وفقاً لصحيفة "الغارديان".
وكان برونر مسؤولاً من بين جرائم كثيرة أخرى، عن مداهمات في مدينة نيس الفرنسية خلال الحكم النازي، تم اختطاف والد زوجها سيرغي فيها، الذي قُتل لاحقاً. وكان القضاء الفرنسي قد حكم على برونر بالإعدام غيابياً.
وكانت الحكومة السورية ترفض طلبات ترحيل برونر، بل وتنكر وجوده في دمشق حتى.
وحاول الزوجان حينها جلبه إلى ألمانيا الشرقية بقصد محاكمته دون جدوى، طالبة في محاولة أخيرة مساعدة رئيس ألمانيا الشرقية إريك هونكر بشكل مباشر في عام 1988 في "حل قضية ألويس برونر أخيراً"، الذي التقته في قصر الإليزيه، الذي تم دعوتهما إليه لتناول العشاء من قبل الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا ميتران.
وذكر تلفزيون "إم دي إر" أن نظام ألمانيا الشرقية أرسل طلب تسليم لدمشق، خلال حكم حافظ الأسد، قبل سقوط جدار برلين، لكن لم يتم تسليمه.
كما حاولت بياته وفقاً للغارديان الوصول إلى مخبئه في دمشق والقبض عليه مع الإسرائيليين، الأمر الذي كاد يحصل فعلاً.
وتنقل الصحيفة عنها قولها إنها استعارت جواز سفر خادمة منزلهم، وغيرت من تسريحتها لتبدو مثلها، وذهبت إلى سوريا، حيث وجدت رقم هاتفه، حيث كان يعيش تحت اسم مستعار هو غيورغ فيشر، واتصلت به مدعية أنها نفسها نازية، وقالت له إنه يتوجب عليه مغادرة شقته، لأن الإسرائيليين يعلمون أين هو، فرد بالقول: "شكراً عزيزتي".
وأضافت أن ذلك كان كل ما تريد سماعه، لأنه يثبت أنه كان من يشكون بكونه برونر.
لكن برونر أخذ نصيحتها على محمل الجد وغادر الشقة هارباً قبل أن تباشر الاستخبارات الإسرائيلية عملها، وقُبض على بياته في سوريا ثم أفرج عنها ورُحلت بعد 3 أشهر.
وبقي برونر موجوداً في دمشق حتى وفاته عام 2001 هناك في ظروف مزرية في قبو، كما كشفت تقارير صحفية فرنسية في الأعوام الماضية، وهو يبكي، ويتم تخييره بين تناول البيض والبطاطا شأنه كشأن الجنود.
تكريم في فرنسا وإسرائيل.. وانتقادات لعلاقاتها مع نظام ألمانيا الشرقية
ورشح الحزب اليساري "دي لينكه" في ألمانيا بياته في عام 2012 لتصبح رئيسة البلاد، الخطوة التي اتخذت بعداً رمزياً فحسب، لكون المنافس حينذاك يواخيم غاوك، فاز بأغلبية الأصوات.
وكُرم الزوجان في العشرين من شهر يوليو/تموز عام 2015 في باريس، اليوم نفسه الذي شهد محاولة قتل أدولف هتلر، بوسام الاستحقاق من الدرجة الأولى في فرنسا عن مجمل نشاطاتهما طوال حياتهما. وكان الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند قد كرّم بياته قبل ذلك بعام بأن رفعها لمرتبة "قائدة" في جوقة الشرف.
ومنحتها إسرائيل في عام 2016 جنسيتها، تقديراً لجهودها. وكان زوجها قد أخبرها بعد حادثة الصفعة بأن الألمان سيقدرونها، فقط بعدما تصبح متقدمة في السن.
وإلى جانب المديح والتكريم الذي حظيت بها بياته، وُجهت انتقادات لها بسبب علاقاتها مع نظام ألمانيا الشرقية سابقاً.
وتقر في مذكراتها بحصولها على مبالغ مالية ومزايا كبطاقات طائرة أو عطلات صيفية، زاعمة في نفس الوقت بأنها لم تسمح قط بأن يوظفها أحد لأغراضه الخاصة. وكانت بياته قد حصلت أيضاً على دعم من نظام ألمانيا الشرقية خلال حملتها على المستشار كيسنغر، الذي صفعته.
وتواظب بياته على نفي ميلهما لأحد الأحزاب أو الأطراف، وتوضح أنهما كان يرفضان مبتسمين محاولة كل شيء لتشويه سمعتهما بأنهما مبعوثين من جهاز أمن ألمانيا الشرقية "شتازي" أو الموساد الإسرائيلي، لأنهما كانا يعلمان ما يفعلانه.
تجسيد قصة حياتها في فيلم سينمائي
ورغم الشعبية التي كان يحظى بها الزوجان والمساعدة التي قُدمت لهما في ملاحقة النازيين في فرنسا في السبعينيات، لكنهما أثارا استياء الساسة الألمان حينها بنشاطاتهما، كما نجيا من الموت بأعجوبة، حيث انفجرت سيارتهما عام 1972 لكنهما لم يكونا موجودين فيها أو قربها، ووصلتهما تهديدات بالقتل وطرد بريدي ملغوم، وخضعا لحماية شخصية.
ولم تعد بياته وزوجها يزاولان نشاطاتهما كما كان الوضع في السابق، يعيشان في فرنسا سعيدين مع ابنيهما، ويكرسان نشاطاتهما لضحايا النازية، ويكتبان قصص حياة اليهود الفرنسيين، وفقاً لتلفزيون "إم دي إر".
وحذا ابنهما المحامي "أرنو" حذوهما في ملاحقة المسؤولين عن الجرائم خلال العهد النازي، حيث ادعى بمساعدة والده سيرغي، على موريس بابون رئيس الشرطة السابق في باريس وتسبب بالحكم عليه بالسجن 10 سنوات في عام 1998 بتهمة وضع قوانين أدت إلى ترحيل 140 ألف يهودي فرنسي لمعسكرات الاعتقال.
وحظيت قصة حياتها باهتمام فني أيضاً، حيث حولت إلى فيلم سينمائي في عام 1986 بعنوان "صائدة النازيين: قصة بياته كلارسفيلد"، رُشح حينها لـ 3 جوائز غولدن غلوب، لعبت فيه الممثلة الأمريكية فرح فاوست دورها.