قال مؤسس شركة "آبل Apple" ستيف جوبز يوماً لابنته ليزا، "لن تحصلي على شيء. هل تفهمين؟ لا شيء"، كبرت لتفهم لاحقاً أنه لم يُرد أن يفسدها بالمال، لكنّ نكرانه لها سنوات وحبّه عمله أكثر من عائلته لم يكونا أمراً هيناً على تلك الطفلة، التي كبرت وقررت أن تسرد قصتها وعلاقتها الغريبة بأسطورة وادي السيليكون.
تعتبر ليزا برينان-جوبز عدم كتابة مذكراتها في أثناء تقدُّمها بالسن في ظل والدها، ستيف جوبز، عندما كانت في العشرينات من عمرها، أمراً جيداً.
تعيش ليزا، البالغة من العمر حالياً 40 عاماً، في بروكلين رفقة زوجها بيل، وطفلها توماس، الذي أتم شهره الرابع.
لم تتمكن ليزا من كتابة مذكراتها قبل ذلك؛ لأنها كانت ستشعر بأن قصتها غير عادلة؛ بسبب عدم تأكدها مما إذا كانت تستطيع تجاوز الشفقة التي تشعر بها على نفسها أم لا.
تعرب ليزا عن سعادتها لأنها لم تنتظر حتى سن الأربعين كي تؤلف كتابها، حيث إن إنجابها الصغير توماس جعل منها شخصاً ليّناً ومتسامحاً.
ومن ثم، بدأت ليزا تأليف كتابها في الثلاثينيات من عمرها، ولهذا، لم يحمل الكتاب شعور الشفقة على الذات. ولكن، كان الكتاب عبارة عن وصف لطفولتها، التي لم يلعب فيها والدها دور البطل الذي غيّر عالمها. لكنها وصفته بأنه الرجل الذي حاول مراراً وتكراراً وفشل في أغلب تجاربه العادية التي خاضها.
ليزا ابنته غير الشرعية من حبيبته التي قاضته
بات من المعروف نوعاً ما أن ستيف جوبز، الشريك المؤسس لشركة "آبل Apple" الشهيرة، الذي توفي قبل 8 سنوات بسبب سرطان البنكرياس، أنجب طفلته من حبيبته السابقة في المدرسة الثانوية، عندما كانا معاً في بداية العشرينيات من عمرهما.
وبعد ذلك بسنوات قليلة، أصبح جوبز يجني ملايين الدولارات. لذلك، تمت مقاضاته لتحمُّل نفقات ابنته. وما زالت الأحداث حول هذه الفضيحة تتوالى.
تمتلك ليزا الشكل الخارجي نفسه لجسد والدها، وتحديداً في شيئين، وهما البشرة الفاتحة نفسها، بالإضافة إلى شكل الحواجب ذاته عندما كان صغيراً، وهو ما أكده والدها من قبل. وفي الوقت ذاته، تتحرك ليزا بالطريقة ذاتها التي يتحرك بها والدها عندما يشعر بالتوتر بحسب وصف صحيفة The Guardian البريطانية.
أسلوب حياتها لا يعكس ثروة أبيها
وبالطبع، لا يمكن تجنُّب فكرة أن الاهتمام بليزا برينان-جوبز يزداد بسبب شهرة والدها، وخاصة عندما يرى أحدٌ شقتها الصغيرة، ذات الطوابق الثلاثة، التي تسكن فيها في حي بروكلين في نيويورك. ويتساءل من يراها مباشرة: أين ذهبت تركة والدها الكبيرة؟! ثم يزداد الاهتمام مرة أخرى، عندما يتضح بعد ذلك أن هذه الشقة تعتبر أحد أملاك ليزا، وكانت تستخدمها كمكتب لعملها، وليست المنزل الذي تعيش فيه.
كل تلك الأفكار المسبقة، اعتادت برينان-جوبز رؤيتها في وجوه كل الغرباء الذين يتعرفون عليها. وعلى الرغم من سلوكها المرح، غالباً ما تعطي ليزا انطباعاً لهؤلاء بأن طريقتهم في التفكير نحوها ترهقها.
وما يزيد من هذا الشعور لديها، هو المأساة التي عاشتها في بداية حياتها، كما قصّت بنفسها لصحيفة The Guardian، حيث إن ستيف جوبز، الذي ينظر إليه العالم على أنه الرجل صاحب الرؤية النافذة، أظهر لفترة طويلة جداً أنه لا يحبها، أو بمعنى أدق، لا يعترف بها كابنة له.
وهو في نظرها عظيم لنفسه وظالم لابنته
وتستطيع ليزا الآن البوح بذلك كله، وهي ترسم ابتسامة على وجهها، عكس ما كان يحدث في السابق، عندما تتطرق إلى هذا الأمر. وحيال هذا الشأن، قالت ليزا: "عندما بدأت في كتابة مذكراتي، كنت أود جمع كل الشفقة على الذات التي شعرت بها في ذلك الكتاب؛ لأنني كنت بالفعل أشعر بأسف كبير تجاه نفسي". في تلك اللحظة، كان صغيرها توماس يسترخي في حضنها، وقد بدت كشخص سخيف قليلاً من فرط السعادة.
واستطردت ليزا قائلة: "يا إلهي! لقد مضى كل هذا. لقد تبدد شعوري بالعار، ولا أعرف ما إذا كان السبب في هذا هو تقدمي في السن أم تأليف الكتاب أم كلاهما معاً. ولكنني سأسرد بعض المشاهد التي تجعلك تتعاطفين معي؛ لأنني كنت أشعر بالعار من أن هذا الشخص هو أبي. فمن الواضح أنني لم أكن مهمة كفاية بالنسبة لوالدي، ذلك الرجل العظيم كما يظنه الناس، ولكنه كان عظيماً لنفسه فقط".
لم يكن جزءاً من طفولتها ولم يعرف صورها!
وتساءلت ليزا، "هل كنتُ طفلة قبيحة لتلك الدرجة؟! لقد سألته هذا السؤال بالفعل ذات مرة. وكنت أعرف أن هذا سؤال جانبي وعلى سبيل الفكاهة أيضاًَ، أو ربما كان سؤالاً مناوراً، ولكنه ظل يتبادر إلى ذهني مرات ومرات؛ وذلك لأنه لم ينظر قط إلى ألبوم صوري عندما كنت طفلة صغيرة. وذات مرة، عندما أخرجت ألبوم الصور، نظر إليّ وسألني: من هذه التي في الصور؟ فأجبته: إنها أنا!".
كانت برينان-جوبز تتحدث بسرعة كبيرة، وغالباً ما كانت تعود إلى كلام قالته سابقاً من أجل أن تضيف إليه أو تعدّله. بالطبع، لا يرجع ذلك إلى أنها لم تكن متأكدة مما تقول، ولكن لأنها كانت تتحدث بطريقة مسترسلة وثابتة مع ترجمة متزامنة لكلامها، حيث إن كل ما تقوله كان له معنى محدد في السياق الذي تقوله فيه. علاوة على ذلك، كل ما تنطق به سيُستخدم في المستقبل من أجل تأريخ قصة الأسطورة، ستيف جوبز. ويبدو أن ذلك أعطاها انطباعاً كما لو كانت مرشحة لمنصب سياسي.
ترك حبيبته عندما علم أنها حامل!
وتبذل برينان-جوبز الآن قصارى جهدها من أجل إثبات روايتها أمام الرواية الأصلية التي سُردت سابقاً مرات عديدة من قِبل أشخاص آخرين. وتقول تلك الرواية إن ستيف جوبز ووالدة ليزا، كريسان برينان، كانا مراهقين من الهيبيز في المدرسة الثانوية، بمقاطعة كوبيرتينو في ولاية كاليفورنيا، وقد جمعتهما علاقة حميمية عدة مرات، حتى حملت كريسان بابنتها ليزا، ومثّل ذلك الحدث نهاية العلاقة بينهما.
كانت مخططاته تدور حول ماكنتوش وليس الأبوة
وبعد ذلك، أسس جوبز شركة آبل مع شريكه ستيف وزنياك، وكانا يعملان على نماذج أولية لما يعرف الآن بنظام التشغيل، "ماكنتوش". وبعبارة أخرى، لم يكن ستيف جوبز يخطط لأن يصبح أباً في تلك الفترة. وقد أطلق على أول نسخة فاشلة من الحاسوب، الذي طوره بنفسه، اسم "ليزا"، وظل بعد ذلك نحو 20 سنة يدّعي أن هذا الاسم كان مجرد صدفة.
كان هذا النوع من الإنكار المثير للسخط، وفقاً لبرينان-جوبز، هو ما ميّز كل مرحلة من أبوة جوبز، وضمن ذلك إنكاره إياها والتي تعد أشهر مرحلة. ونظراً إلى أنه كان مجبَراً على إجراء اختبار الحمض النووي، راوغ ستيف جوبز النتائج. وفي سنة 1982، عندما كانت ابنته تبلغ من العمر 5 سنوات، أخبر مؤسس "آبل Apple" صحافياً من مجلة Time الأميركية بأن "من بين 28 % من الذكور في الولايات المتحدة الأميركية قد يكون أحدهم هو الأب".
وبعد تأكيد أبوته إياها لم يكن موقفه واضحاً
لكن، ما كان هذا؟ شرحت برنان-جوبز الأمر، بأفضل طريقة ممكنة، "لقد صُدم بحبه لي. فإذا كنت شخصاً معتاداً السيطرة على الأمور وتحقيق النجاح في كل شيء، وتجد أمامك أمراً واحداً لا تستطيع النجاح فيه، فلن تتوانى عن دفعه بعيداً عنك". في الواقع، ليس جوبز الشخص الأول الذي يتخلى عن طفل غير مرغوب فيه من أجل التركيز على مستقبله. لكن أكثر ما يثير الاهتمام في هذه القصة هو أن جوبز لم يبدُ قَط قادراً على تحديد موقفه.
وخلال السنوات الأولى من حياة ابنته، كان جوبز غائباً بشكل كلي على الأغلب. وكان يزور ابنته في واحد من البيوت الصغيرة التي عاشت فيها والدتها، أو أنه يعِدها بالزيارة ثم يخلف وعده. وعندما توترت علاقة برينان-جوبز بوالدتها خلال المراهقة، كانت قادرة على الانتقال للعيش مع والدها، بيد أنه لم يكن باستطاعتها الاعتماد على ذلك.
"لن تحصلي على شيء.. هل تفهمين؟ لا شيء"
وقد تجسدت العديد من أكثر المشاهد الصادمة بالكتاب في التصرفات القاسية التي يبدو أنها نابعة من صدمة جوبز اللامتناهية جراء حصوله على ابنة. وكان جوبز ينفجر في وجه برينان-جوبز، البالغة 9 سنوات، عند سؤالها عما إذا كان بإمكانها الحصول على سيارته بورش عند انتهائه منها، قائلاً "لن تحصلي على شيء. هل تفهمين؟ لا شيء. لن تحصلي على شيء".
لم يدفع أقساط الجامعة بانتظام وسنَّ قوانين صارمة
وخلال فترة انتقالها للعيش معه وهي في سن المراهقة، لم يكن جوبز يصلح نظام التدفئة في غرفتها أو غسالة الصحون. كما كان مؤسس "آبل Apple" يتأخر في دفع رسوم كلية ابنته بجامعة هارفارد، رافضاً دفع رسوم سنتها الأولى في إطار رد فعله على ما يتصوره من ازدراء منها. (وقد تدخَّل بعض الجيران الأغنياء الذين ربطتهم صداقة ببرينان ودفعوا رسوم الجامعة، ولم يسدد جوبز لهم قيمة ما دفعوه إلا بعد سنوات).
كما فرض جوبز على برينان قواعد صارمة حول كيفية التصرف من أجل اعتبارها جزءاً من عائلته، حيث كان يجب عليها العودة باكراً إلى المنزل وعدم قضاء الكثير من الوقت مع والدتها (التي أزعجه طلبها الحصول على المال رغم ثروته) واحترام سلطته في المجمل.
كان أداء شركته أحياناً ينعكس على تلك الطفلة المراهقة
وخلال الفترة ذاتها، وقع مشهد صغير مؤلم في أحد المطاعم، عندما كانت برينان برفقة والديها وقريبتها سارة لتناول العشاء. وعندما طلبت سارة شطيرة برغر استشاط جوبز، الذي يكره اللحوم، غضباً وتوجه إلى الفتاة قائلاً: "هل أدركتِ يوماً مدى فظاعة صوتكِ؟ رجاء توقفي عن الكلام بهذا الصوت الفظيع".
عندما تطرقتُ إلى الحديث عن هذه الحادثة، بدت برينان-جوبز محرجةَ وتمتمت بشيء ما عن صوت قريبتها؛ لكونه مزعجاً للغاية. وقد قالت: "أعود بالذاكرة إلى تلك الفترة وأفكر: هل كان ذلك اليوم الذي أدرك فيه أن شركته ستفشل؟ لا أعلم ما حدث. أتذكر أنه كان في مزاج سيء".
وكان يصعب على برينان أن تقاوم تبرير أسوأ تصرفاته، حيث كانت تشدد على أنها "ليست مذكرات من المعاناة، حيث يقوم الأشخاص بالانغلاق على أنفسهم. لقد كان ذلك يثير الكثير من البهجة".
لكنها أنهت تعليمها وتخصصت في الكتابة الإبداعية
ومع ذلك، كانت حياة برينان حافلة بالنجاحات. فبعد تخرجها في هارفارد، انتقلت جوبز إلى المملكة المتحدة لمتابعة دراساتها العليا بكلية الملك في لندن. وقد عاشت بالعاصمة البريطانية على فترات متقطعة خلال أغلب عشرينياتها، حيث عملت في مجال التمويل وحظيت بفرصة العمل الحر في مجال الصحافة من وقت لآخر، قبل أن تعود أدراجها إلى الولايات المتحدة الأميركية لدراسة الكتابة الإبداعية.
كان صعب المراس وشركته لم تنجح في البدايات
وقد قالت برينان-جوبز إن بعض تصرفات والدها غير اللائقة تنبعث من حقيقة أنه كان صعب المراس. وفي هذا الشأن، استطردت جوبز قائلة: "كان صعب المراس حقاً، حيث من الصعب المبالغة في ذلك. لقد أقمت، عندما كنت في سن الثامنة، حفلة مفاجئة لوالدتي (نظمتها حبيبة جوبز، تينا). وقد بادر والدي بالجلوس على الأرضية خلال الحفل. لقد كان لمراسه الصعب جاذبيته الخاصة".
وأضافت جوبز قائلة: "بالكاد يمكنك الانتباه إلى أشياء أخرى بسبب القلق بشأنه. لقد كنت أشعر بذلك، حتى وأنا في تلك السن، وكنت أبادر بالقول له: (يا إلهي، هل أنت بخير؟). لقد كان الناس ينسون أنه لم يكن ناجحاً في أثناء نشأتي، وكان يُخفق في علاقته بي وبحبيبته -كانت علاقته بتينا متقطعة- وفي عمله. وكان والدي يستمر في المحاولة، رغم أنه يواصل في الفشل".
وجد متعته الحقيقية في إنجازاته المهنية
ولم يتضمن الكتاب أي شيء متعلق بـ"آبل"، باستثناء تفاخر برينان-جوبز الخجول بوالدها أمام أصدقائها لأنه اخترع كمبيوتر "ماكنتوش"؛ وذلك -على حد قولها- لأنها "لم تشعر بأن طفولتها قد تعارضت مع عمله".
وواصلت قائلة: "لأنه عندما كان منغمساً في عمله، كان مبتهجاً في غالب الأحيان. لقد كان الأمر ممتعاً؛ إذ كنا نعاين الكثير من الأشياء معاً.. وكان النظر إلى خط سيريف ممتعاً".
عند العودة بالذاكرة إلى الوراء، تعتقد برينان أن هذا الأمر كان ساذجاً نوعاً ما؛ إذ كان من الواضح أن تفاعل جوبز مع برينان ووالدتها كان متصلاً بما يحدث في شركته. وتبيّنت جوبز هذا الأمر، حيث قالت: "عندما يواجه صعوبات في العمل، كان يأتي إلينا، وأبواب قلبه مفتوحة بما يكفي لدخولنا إليه. لذلك أتخيل أننا كنا نخوض منافسة ليس مع عمله في حد ذاته ولكن مع حالته الذهنية غير المركِّزة على العائلة. إنه ليس من الممتع أن تكون في الطرف المقابل للعمل الذي يحبه الجميع. علاوة على ذلك، إذا لم يكن قادراً على أن يحبني أكثر من ذلك عندما لم يكن عمله يسير على ما يرام، فماذا أكون إذاً بالنسبة له؟ أنا الشخص الذي يحمل الرغبة في فشله".
ولكنها تمنت لو أحبها أكثر فلامت نفسها
لكنها استدركت سريعاً بالقول إنها لم تكن قَط تتمنى له الفشل في العمل. لقد كانت فقط تتمنى أن يكون أكثر افتتاناً بها، وكانت تريد للعلاقة بينهما أن تكون عادية، حيث قالت: "لم يكن باستطاعتي أن أجعله يحنو علي مثلما يفعل بقية الآباء في أثناء وجودهم مع بناتهم. وبالطبع اعتقدت حينها أن سبب هذا الفشل هو أنا".
لقد كانت تتمنى لو أنه علِم كيف يكون حاضرا قرب طفلته، حيث أوضحت جوبز أن "كل ما أرادته هو القرب والمرح وأن يُشعرني بالراحة، وأن يجعلني ربما نجمته المحببة، وأن نتصرف بطريقة عادية، حيث يسألني: (كيف كان يومك؟)، ويستمع لي وأنا أتحدث. ولكنه في ذلك الوقت كان شاباً، وتعوّد على أضواء الشهرة، وكان الجميع يتوددون إليه؛ ولذلك لم يكن يعرف كيف كان عليه التصرف معي".
كانت تشعر بالغيرة من إخوتها الثلاثة غير الأشقاء، وهم أخ وأختان وُلدوا عندما كانت هي في سن المراهقة. وكانت تتساءل عما إذا كان والدها أكثر اهتماماً بهم، ولكن هذا الأمر أيضاً مستبعد، فقد كانت مقتنعة بأنه كان قليل الحضور في حياتهم، تماماً مثلما هو الأمر معها.
ومجرد المكوث ببيته في أثناء طفولتها أصابها بتبوُّل لا إرادي
ولا يزال من المذهل أن نرى أن ليزا برينان-جوبز تجرأت على كتابة أشياء مثل هذه، فقد كانت في سنوات طفولتها تخشى عدم إرضاء والدها، أو أن تخيب آماله، حيث كان هذا الشعور يلازمها.
وعندما كانت في سن الثامنة، تقرّر أن تقضي مساء يوم الأربعاء من كل أسبوع في منزله، ولكن هذا جعلها شديدة التوتر، حتى إنها أُصيبت بالتبول اللاإرادي، فقررت والدتها وضع ترتيبات جديدة.
لكنه شعر بأنه مدين لها بشيء، وهذا الكتاب كان سيغضبه
ومما لا شك فيه أن هذا الكتاب كان سيثير غضب الجانب المحب للسيطرة في شخصية جوبز. ولكن رغم ذلك، تعتقد برينان-جوبز أنه منحها إذناً ضمنياً باتخاذ هذه الخطوة، حيث قالت: "هناك جملة كان والدي يرددها دائماً في أواخر حياته، وهي (أنا مدين لك بشيء، أنا مدين لك بشيء). وكنت أنا أقول في نفسي: (ما هذه الجملة الغريبة التي لم أسمعه يقولها من قبل؟)، وقد واصل تكرارها وهو يبكي، وكان جاداً حول هذا الأمر. أما أنا، فقد كان يراودني الشعور التالي: (حسناً أبي، يمكنك أن تمنحني هذا الإذن وتسمح لي بعرض حكايتي بأكثر الطرق صدقاً ولطفاً، وبكل الحب)". (كان قد سألها ذات مرة حول ما إذا كانت ستكتب عنه، وقد أجابته بالنفي).
وكانت برينان-جوبز تعود لموضوع المحبة مرة بعد أخرى، وتلك الأوقات التي كان يأتي فيها لزيارتها وهو يحمل لوحة تزلج. لقد كانت طفلة صغيرة وكانا يقضيان ساعات طويلة في ممارسة التزلج بشوارع بالو ألتو. وفي إحدى المرات، جلس على المدرج من دون سترة تحميه، رغم أن الطقس كان بارداً جداً؛ وذلك من أجل مشاهدة مسرحية يشارك فيها صديق ابنته الذي كان طالباً في المدرسة المتوسطة.
كان سلوكه الجنسي غريباً ومحرجاً لها
كما كان سلوك ستيف الجنسي غريباً؛ إذ كان يقبّل زوجة أبيها ويتلمس جسدها أمامها هي، ويمزح قائلاً إن ليزا ستكبر لتصبح راقصةَ تعرٍّ. وتعترف ليزا بأنه كان من الصعب عليها تفهم هذه الأشياء أو تجنب الشعور بالحرج تجاهها.
ولكن رغم ذلك، فهي مصممة على الدفاع عن تصرفات والدها سواء كانت غريبة أو رائعة، باعتبارها محاولة من جوبز لدحض الأفكار السائدة حول العلاقات الجنسية. فضلاً عن تأكيد علوية الحب، حيث حاول أن يُشعر ليزا بأنه على الرغم من العلاقة المأساوية بين والديها، فهي ليست ثمرة غير مرغوبة لعلاقة جنسية عابرة.
لكن إصابته بالسرطان واقتراب الموت غيّرا نظرتها إليه
وتتمنى ليزا لو أنه تمكن من تجاوز مشاعره المختلطة وعقدة الذنب حول إنجابه إياها، في مرحلة مبكرة من علاقتهما. ولكن، بعد النزاع الذي حصل حول دفع مصاريف دخولها لجامعة هارفارد، مرَّت فترة خلال العقد الثالث من عمرها خيَّم عليها الصمت من الجانبين.
ولكن عندما أصيب ستيف بالمرض، بدأت تفكر بشكل مختلف، حيث قالت: "لقد استغرقت وقتاً طويلاً؛ لأفهم أنه كان بصدد الموت. لم أتمكن من استيعاب الأمر تماماً، وفي النهاية قلت لنفسي إنه من الأفضل أن أسارع لأقول له بعض الأشياء الجميلة، رغم أنه قد لا يعيرني اهتماماً".
فطفولة جوبز نفسه لم تكن سهلة، والوقت لم يعد في صالحه
وقد قامت ليزا بشكره على صراحته وصدقه بشأن سلوكه الجنسي، وصرحت بأن "الأمر كان يشبه صبّ الماء على أرض يابسة. لقد كان يحاول إقناعي بأنه بذل كل جهده، أما أنا فلم أكن على وعي بأي تفاصيل خفية حول نشأته هو في طفولته، ولم أدرك أنه كان يتعامل معي بشكل منهجي. ورغم كل شيء، فإن واحداً من أصعب الأمور التي تدركها عندما تكون مريضاً هو أن الشيء الوحيد الذي تريده هو الوقت، ولكن هذا بالضبط هو الشيء الذي لم تعد تملكه. وهذا موقف لا أحد يريد أن يواجهه على سرير الموت".
حرصت على توضيح صورتها في فيلم سيرة حياته
في سنة 2014، علمت ليزا برينان-جوبز أن هناك فيلماً قيد التحضير، يستند إلى السيرة الذاتية التي كتبها والتر إيزاكسون عن والدها. ولم تكن قد قرأت هذا الكتاب بأكمله، ولكن من الأجزاء التي اطلعت عليها أو سمعت عنها، لم تكن تشعر بالرضا حياله. ولذلك قامت بخطوة محسوبة وجريئة، حيث اتصلت بآرون سوركين، الذي كان يكتب السيناريو، ورتبت لشرب القهوة معه. ويمكن القول إن هذا الفيلم الذي ظهر في سنة 2015، تحت عنوان بسيط "ستيف جوبز"، كان إهداء إلى ليزا برينان-جوبز، هذه الطفلة البريئة التي تعرض الجانب الإنساني في والدها المشهور، وتسعى لتجاوز أخطائه.
وقد تبيّن لاحقاً أن هذا بالضبط ما كانت ليزا تسعى وراءه من خلال لقائها بكاتب السيناريو آرون سوركين، ذلك أنها قالت: "لقد شربنا القهوة في ثلاث مناسبات، وكان هدفي هو التأثير عليه، حتى أتأكد من أنه إذا كان ينوي تضمين شخصيتي في هذا الفيلم، فيجب ألا تكون الشخصية سيئة أو بعيدة عن الحقيقة. كنت قد سمعت أن السيرة الذاتية التي كتبها والتر، جاء فيها أنني لم أكن أزور والدي وكنت دائماً خارج المنزل، وأنني لم أكن أحب والدي. ولهذا، سعيت لالتقاء سوركين؛ حتى أجعله يدرك أنني إنسانة".
لكنها أدركت لاحقاً أنه لو دلَّلها بالمال لكانت دُمرت
ومن الواضح أن ليزا لديها آراء متضاربة حول طريقة والدها في التعامل مع ثروته. فبينما كانت هي تعيش بلندن، تلقَّى جوبز اتصالاً من أحد أصدقائه يقول له: "لماذا لا تساعد ابنتك ببعض المال؟"، وأجاب الوالد بالقول: "لا أنوي إرسال المال إليها، لا أريد أن أدمّرها".
وفي الوقت الراهن، تفهم ليزا جيداً أن حياتها كانت ستتجه نحو الأسوأ لو أنها نشأت كطفلة مدللة، أو نشأت في ظل أب يتجاهلها ويهملها ثم يشتريها بالمال، عبر إحضار حصان صغير وبعض الفساتين الجميلة.
فقد كان يحرم نفسه أيضاً من التمتع بالثروة ويركز على القيم
ولكنها في أوقات أخرى تشعر بالغرابة تجاه ما تعتبره معاملة قائمة على العقاب تجاهها. حيث قالت: "لم يكن من المفترض به أن يسعى للتمسك بنظام القيم الذي يتضمن درجات محددة من الحرمان، إلا أن أبي كان يحرم نفسه أيضاً، فقد كان يمتلك منزلاً واحداً. ولكن، أعتقد أنه لو عاد به الزمن إلى الوراء لتصرَّف معنا بشكل مغاير لما قام به عندما كنت صغيرة".
وعما إذا كانت قرارات جوبز بشأن المال تنمُّ عن حقد في بعض الأحيان، قالت ليزا: "ربما هو لم يكن يعلم كيف يتعامل مع المسألة المادية. ومهما كان سلوكه خاطئاً، فأنا أعتقد أنه كان يركز كثيراً على القيم. وفي أوقات الفرح والمتعة، كان يحاول أن يوصل لي نظاما قِيَمياً آمنت به".
لم يؤمن بالزخرفات وتمرَّد على الهيمنة الرأسمالية
ولم يكن جوبز يؤمن بالزخرفة والزينة، سواء في حياته العاطفية أو بمسيرته المهنية. ولكن في أعماقه، مثّل هذا الخيار انعكاساً للحُلم الذي راود جوبز في السنوات التي انتمى فيها إلى حركة الهيبيز، التي كانت تمثل تمرداً على الثقافة الرأسمالية الاستهلاكية، وتعطي أهمية كبرى للبساطة، وتنادي بالحرص على إنجاز العمل بأفضل شكل ممكن، وتقديم الحب للآخرين على أفضل نحو، وعدم التفكير في الراحة؛ لأن هذا ليس الشيء الذي ينظر إليه الإنسان عندما تحين ساعة الموت.
ويبدو أن جوبز فشل بشكل ذريع في تقديم الحب. ولكن الشيء المهم -حسب رأي ابنته- هو أنه حاول أن يكون وفيّاً لهذه الشعارات. ولكن، ماذا عن تلك المرّة التي ضربها فيها على رأسها لأنها طلبت منه سيارة بورش؟ وقد قالت ليزا: "حينها كان يخشى من أن أتحول إلى فتاة تافهة ومدللة، وربما كان هذا الشعور أيضاً يختلط بشعور في أعماقه بأنه لا يريدني".
ثم تزوجتْ رجلاً يشبه والدها أخفت عنه بدايةً هويتها
وفي الوقت الحاضر، باتت فكرتها عن العائلة بعيدة تماماً عن ذلك الموقد البارد في منزل والدها، أو فوضى الحياة الهيبية التي كانت والدتها تعيشها؛ إذ إن ليزا تعيش مع زوجها بيل، وهو مصمم برمجيات، وهي تقر بأنه يمثل نوع الرجال المفضل لديها (لأنه يشبه والدها).
وقد التقى الزوجان عبر شبكة الإنترنت، حيث شعرت ليزا بأنه شخص رائع؛ لأنه في البداية تقرَّب منها دون أن يعرف من هو والدها، وهي لم تطلعه على هذا الأمر إلا عندما أيقنت أنه واقع في حبها تماماً. لقد كان إبقاء هذا الأمر سراً في البداية مهماً جداً بالنسبة لها، رغم أنها كانت تشعر بأن والدها كان سيسرّ بهذا الرجل، الذي يتميز بالصدق والطيبة.
ميراثها خولها من الابتعاد عن كاليفورنيا لبداية حياة جديدة
كما كان وجودها في نيويورك أمرا مهما بالنسبة لها. فقد كان والدها يحب كاليفورنيا وكانت هي في حاجة للبحث عن مساحة خاصة بها بعيدا عنه. وفي الحقيقة، ساعدها نصيبها من الميراث، الذي يقال إنه بلغ ملايين الدولارات لكل واحد من أبناءه، على هذا الابتعاد. وكانت مسألة الميراث مناسبة تماما لقصة هذه البنت المتمردة والجريئة، التي تمثلها ليزا.
ورحل الغضب وتمنت لو قضت معه وقتاً أطول
لكنها قالت إنه "رغم ذلك، لا أشعر بالغضب تجاه ما حدث، وأتمنى فقط لو أننا حظينا بوقت أكثر في سنوات طفولتي، بعد أن يتخلص هو من شعوره بالذنب، حيث أعتقد أنه كان يجمعنا حس الدعابة ذاته، وكنا دائماً نستمتع كثيراً بالأوقات التي نقضيها معاً".
لكنها أدركت مبكراً أن قلبه كان معلَّقاً بعمله أولاً
وقد أضافت ليزا أن ستيف جوبز، عندما كان على فراش الموت، قالت له: "ربما في المرة المقبلة، إذا كانت هناك مرة مقبلة، يمكننا أن نكون صديقين. وما عنيته بذلك هو أنه سيكون من الممتع لو أننا عملنا معاً وكنا زميلين في العمل".
ومن خلال هذا الأمر، كانت ليزا تفهم أن قلب ستيف كان معلَّقاً بشيء آخر، وهو مسيرته المهنية، وأن زملاءه في العمل ونجاحه المهني مثَّلوا الأولويات التي حظيت باهتمامه.
وعلى الرغم من ندمه وشعوره بالحزن، ظل ستيف محافظاً على شخصيته إلى غاية اللحظات الأخيرة، وهو أمر يُشعر ليزا بالمواساة، حيث قالت: "أتذكر أنه عندما كان مريضاً جداً، كان يحمل بين يديه وعاء مليئاً بالحلوى، وقد مازحته قائلةً (هل تريد أن نقتسم هذه الحلوى؟)، فأجابها:("لا، إنها لي كلها)".
"كنت أشعر كما لو أننا نحن مركز هذا العالم"
مقتطفات من كتاب "اليرقة الصغيرة-Small Fry"
مذكرات ليزا برينان-جوبز المقرر صدورها في الرابع من سبتمبر/أيلول 2018.
والآن، في عطلات نهاية الأسبوع، عندما يكون موجوداً في المدينة، كان أبي يأتي لأخذي للتزلج، وتلوح لنا أمي مودّعة عندما نخرج من البيت. وقد كان عمري حينها 9 سنوات.
في ذلك الوقت، كان أبي قد طُرد من شركته، "آبل". وقد كان يعمل على إنشاء شركة جديدة تحمل اسم "ناكست"، تتمثل مهمتها في صناعة أجهزة حاسوب وبرمجيات. وكنت أعلم أيضاً أنه يمتلك شركة لإنتاج الرسوم المتحركة بالكمبيوتر تحمل اسم "بيكسار"، التي أنتجت فيلماً قصيراً عن مصباحَين؛ أحدهما الأب والآخر هو الطفل.
وكان حينها يسميني اليرقة الصغيرة (Small Fry)، وكان يقول لي: "أيتها اليرقة الصغيرة، دعينا نفجر طاقاتنا. نحن نعيش وضعاً مؤقتاً يمكن أن يتغير في أي لحظة".
كنت حينها أفترض أن عبارة "Small Fry" التي يطلقها علي يعني بها البطاطا المقلية التي تظل في قعر الكيس باردة ويابسة. وكنت أعتقد أنه يعتبرني شخصاً غير مرغوب فيه وابنة غير شرعية. ولكن لاحقاً، علمت أن تلك العبارة يقصد بها يرقات السمك الصغيرة التي تتم إعادتها إلى البحر حتى تواصل نموها.
وعندما أكون جاهزة فوق زلّاجتي، أقول له: "حسناً أيتها اليرقة السمينة.. هيا بنا". وقد كان أحياناً قلقاً من فقدانه الوزن، حيث قال إن "الناس الذين يعملون معي نصحوني بزيادة وزني". ولكن في أحيان أخرى، كان ستيف يشعر بالقلق من أن يصبح سميناً بكرش كبير، وكان يسألنا عن رأينا في هذا الأمر.
وأحياناً، كنا نتوجه إلى جامعة ستانفورد. وفي يوم من الأيام، كان الطريق لا يزال مبلَّلاً بالأمطار، وهو طريق يُسمى "بالم درايف"، وقد استمد اسمه من أشجار النخيل الباسقة على جانبيه، في الممر الترابي بين المعبد وممر المشاة. وكنا نرفع رؤوسنا فوق مبنى الجامعة لنرى التلال، التي كانت من بعيد تبدو جميلة وألوانها رائعة.
لقد نمت الأعشاب الخضراء بعد يومين أو ثلاثة فقط من نزول الأمطار، وواصلت نموها طيلة فصل الشتاء. وكان أبي يقول: "أنا أعشق منظر التلال الخضراء، ولكنني أعشقها أكثر عندما تجف الأعشاب ويتحول لونها إلى الأصفر". أما أنا، فقد كنت أجيبه بأنني أفضّل اللون الأخضر، ولا أفهم كيف لشخص أن يحب هذه الأعشاب أكثر عندما تصبح ميتة.
وصلنا إلى مبنى جامعة ستانفورد، ومشينا وسطها في الباحة المغطاة والمزيَّنة بألوان كانت تجعلها تبدو مثل ملابس مهرج قديمة. وقد قال لي أبي: "هل تريدين أن أحملك على كتفي؟"، ثم انحنى إلى الأسفل وحملني من إبطي (كنتُ ضئيلة الحجم حينها مقارنة بعمري) ورفعني فوق كتفيه. وقد تمايل جسده قليلاً ثم استعاد توازنه، وقمنا بجولة في أنحاء الساحة، وتحت الأقواس، وعبرنا الأرقام المذهّبة المنقوشة على أبواب البللور. لقد كان يمسك ساقي بيديه، ولكنه كان يتركها من حين إلى آخر عندما يفقد توازنه. وبينما كان يسير، تعثَّر عدة مرات، وحاول جاهداً إبقاء جسده مستقيماً. أما أنا فقد كنت أتمايل فوقه وأشعر بالخوف في ذلك الارتفاع.
وبعد ذلك، سقط فجأة، وعندما كنت في الهواء أتجه نحو الأرض، خِفت على وجهي وساقي، أي الأجزاء التي كانت سوف ترتطم بالأرض. ولكن من ثم، علمت أنه كان دائماً سيسقط إذا حملني، ورغم ذلك كنت أسمح له بوضعي على كتفيه؛ لأن ذلك كان مهماً بالنسبة له. وربما كان هذا الأمر يُشعره بتغيير في الضغوط التي يحملها على عاتقه، ويمنحه شعوراً بالارتياح. كما كان هذا السلوك جزءاً من نظرته للعلاقة بين الأب وابنته.
بعد أن سقطنا، وقفنا ونفضنا الغبار عن ملابسنا، ولاحظت أنه أصيب بكدمة في ظهره وخدش في يده. أما أنا فقد جرحت في ركبتي، وتوجهت بسرعة نحو النافورة التي كانت موجودة في أحد جوانب باحة الجامعة. وفي أثناء العودة، بالطريق المائلة التي تنزل من التلة، كنت أشعر بحيوية كبيرة، وأردد بعض أغاني فرقة الرولينغ ستونز المتمردة، وكان أبي يقول: "صوتك جميل يا بُنيتي، ولكن لا تصدقي ما يقال في هذه الأغاني".
وكنت أجيبه بالقول: "لا تقلق أبي، لن أفعل ذلك"، رغم أنني لم أكن أفهم جيداً قصده.
وقد قال لي ذات مرة: "هل تعلمين -يا عزيزتي- أنني لم أذهب إلى الجامعة؟ ربما أنت أيضاً لن تذهبي إلى هناك، ومن الأفضل أن تخرجي إلى العالم الحقيقي وتنخرطي في الحياة". وفي حال لم أذهب إلى الجامعة، فسأكون مثله تماماً. وفي تلك اللحظة، شعرت بأننا، أنا وهو، مركز العالم. لقد كان يحمل هذا الشعور معه أينما ذهب.
كما كان يقول عن الجامعة: "إنهم يعلّمونك كيف يفكر الآخرون، خلال سنوات عمرك التي تحفل بالطاقة والإبداع، وهذا يقتل قدرتك على الابتكار، ويجعل الناس يتحولون إلى موظفين مملين". وكان هذا الأمر مقنعاً بالنسبة لي. لكن رغم ذلك، كنت أتساءل لماذا كان دائماً يأتي للتجول قرب جامعة ستانفورد؟ لماذا كان يبدو كأنه يحب هذا المكان، رغم أنه لا يؤمن بأهمية التعليم الجامعي.
وبشارع الجامعة في أثناء عودتنا، أشار إلى متشرد كان يجلس على الأرض في إحدى الزوايا، فوق قطعة من الكرتون، وقال لي: "هذا ما سأكون عليه خلال سنتين".
عندما عدنا أنا وأبي إلى الحي الذي أسكن فيه، كان الأطفال يلعبون بالخارج، في الساحة وعلى جانبي الطريق. وقد وقفنا على الجهة المقابلة لمنزلنا، وتحلّق بعض الرجال من الجيران حول والدي. كانوا ثلاثة آباء يحملون ثلاثة رُضَّع بين أيديهم، وقد رغبوا في معرفة آرائه حول بعض المواضيع المتنوعة. أما الأمهات، فقد جئن بتعلَّة حمل الأطفال حتى يُفسحوا المجال لأزواجهن للتحدث. وقد وقفت بالقرب منهم، وأنا أشعر بالفخر بأن جميعهم يريدون التحدث مع والدي، وقد تناقشوا حول أشخاص لم أسمع بهم وشركات لم أكن أعرفها.
مرّ الوقت، وبدأ الأطفال الرضّع بالبكاء والتململ وإصدار أصوات مزعجة. وقد واصل أبي حديثه حول أجهزة الحاسوب والبرمجيات، وكانت هذه هي المواضيع التي يتناولها في كل مرة يلتقي فيها رجالاً آخرين ببلدة "بالو ألتو" في تلك الأيام. وتواصل هذا الحديث إلى أن بدأ الرضَّع الثلاثة بالبكاء بصوت مرتفع، فاضطر آباؤهم إلى التوقف والعودة بهم إلى منازلهم.
لاحقاً، أخبرتني أمي بأنه في ذلك اليوم بالضبط كانت اللحظة التي وقع فيها أبي في حبي، حيث قالت لي: "لقد أصبح متيّماً بك، فقد جاءني وقال لي: (أنت تعلمين أن هذه البنت هي أكثر من نصفي، فأكثر من نصف جيناتها أخذتها مني)". هذه العبارات فاجأت أمي، التي لم تكن تعرف كيف تتفاعل مع هذا الشعور. وربما يكون قد قال هذا الأمر؛ لأنه بدأ يشعر بالحميمية والحب الأبوي تجاهي، وأراد أن يلعب دوراً أكبر في حياتي.
في مناسبة أخرى، في أثناء خروجنا بجولة للتزلج، قال لي: "عليك التوقف وشمّّ الأزهار". قال هذه العبارة وتوقف على عجل، وأسرع إلى غمس أنفه في زهرة وأخذ نفَساً عميقاً. وفكرت حينها في أن أخبره بأن هذه العبارة كانت تُستخدم بشكل مجازي عند إسداء نصيحة لشخص ما بضرورة أخذ استراحة والاستمتاع بجمال الحياة، ولكنني سرعان ما قررت تجاوُز الأمر والانضمام إليه في شمّ الأزهار. وشرعنا في البحث عن أفضل الزهور بمختلف شوارع الحي، من أجل الاستمتاع بعبيرها. وكنت أحياناً ألاحظ أن هناك زهرات جميلة وراء سياج أحد المنازل، فنقوم بالقفز فوق السياج للوصول إليها.