معاناة أخرى باتت تخيِّم على الفلاحين المصريين، خاصة في محافظات الدلتا، التي تعد أراضيها هي الأخصب في البلاد، بعدما قطعت إثيوبياً شوطاً كبيراً في إتمام سد النهضة، الذي تسبَّب في حرمان القاهرة من نسبة كبيرة من المياه.
صحيفة The Financial Times البريطانية، رصدت ألم هؤلاء المصريين، ومنهم عبدالعزيز هيكل، الذي مدَّ يده ليمسك حفنةً خضراء من حقل أرز في شمالي دلتا النيل في مصر، في وقتٍ من العام من المفترض أن يكون النبات فيه ممتلئاً بحبات الأرز. لكن المزارع فرك القشر بين أصابعه قائلاً: "انظر إليها، إنها فارغة".
عادةً كانت أرض قريته تُروى طبيعياً من مياه نهر النيل، مما جعل محافظته -محافظة كفر الشيخ- واحدةً من أكثر المحافظات خصوبةً في الدلتا. لكن النيل لم يعد يصل لقرية أبوسعيد، حيث يسكن هيكل منذ خمس سنوات، ويصبح من الصعب إيجاد مكان آخر للانتقال إليه.
لقرون من الزمان، كانت ضفاف النيل موطناً لمزارع إنتاج الأرز، فضلاً عن القطن والقمح. ولكن الآن خَلَقت مشكلات نقص المياه، وتجريف التربة، والتلوث أزمةً قضت على ركائز الزراعة في الدلتا، التي كانت بالكاد تقيم حياة ملايين المزارعين الفقراء.
الري بالصرف الزراعي
لم يجد هيكل وجيرانه أيَّ خيار سوى ري حقولهم بالصرف الزراعي غير المعالَج، الذي تُلوِّثه مزارع السمك المجاورة. ويشتكون من أن هذا يؤدي إلى حصادٍ أقل.
ومِمَّا يُعقِّد مشكلاتهم أن النيل أصبح بؤرةَ توتُّراتٍ إقليمية منذ بدأت إثيوبيا تشييد مشروع لتوليد الطاقة من المياه، بتكلفة 4.8 مليار دولار على النيل الأزرق، الذي هو مصدر معظم المياه التي تصل إلى مصر. سيكون سد النهضة الإثيوبي الكبير أكبر سدٍّ من نوعه في إفريقيا، وركيزة لطموح إثيوبيا في التطوُّر الاقتصادي. ولكن القاهرة تخشى من أن مصادر المياه المنحسرة بالفعل ستزداد تدهوراً عندما يكتمل بناء السد.
لكن المشكلات في دلتا النيل كانت تتفاقم منذ عقود. فزيادة مستوى البحر المتوسط زادت من ملوحة المياه الجوفية والتربة. وزاد الضغط على مصادر المياه الموجودة بالزيادة السكانية، وفي الوقت نفسه أدَّى التخلُّص الجماعي من النفايات الصناعية في قنوات الري إلى تلوُّث المجاري المائية، بحسب الصحيفة البريطانية.
وقال محمد عبدالعاطي، وزير الري المصري، مؤخراً، إن ندرة المياه تفرض القيود على التنمية الاقتصادية المصرية. وكان فلاحو شمال الدلتا الفقراء هم أول من شهد أثر ذلك، في صورة تدهور إنتاجية المحاصيل.
يقول محمد غانم، الباحث في مركز البحوث الزراعية التابع للحكومة المصرية: "تعاني الدلتا بالفعل من أزمةٍ مائية بسبب المشكلات البيئية القائمة". وأضاف: "هذه المشكلات يلمسها المزارعون، وقد يزيد السد الإثيوبي الأوضاع سوءاً".
مصر أسفل خط الفقر المائي
وبحسب الصحيفة البريطانية، تقع مصر إلى الأسفل بكثير من خط الفقر المائي بالتعريف المقبول عالمياً، وهو ألف متر مكعب، أو أقل لكلِّ شخصٍ في السنة. أما إحصائيات مصر فهي 600 متر مكعب لكلِّ شخص.
قال خالد أبوزيد، رئيس منظمة الشراكة المائية المصرية، وهي منظمة غير حكومية، إن الأولوية كانت للحفاظ على مصادر المياه الموجودة، وإيجاد طرق لمعالجة المياه المُهدَرَة حتى يمكن إعادة استخدامها في الزراعة.
وقال: "هناك مشكلةٌ وتحدٍّ وتكلفة متعلقة بالأمر". وأضاف: "حجم المياه المُهدَرَة سيزيد مع زيادة التلوث. يجب أن تكون هناك استثماراتٌ أكبر في إعادة تدوير المياه، وخططٌ لبداية أي مشروع جديد للتأكُّد من أنهم سيعيدون استخدام المياه المُهدَرَة".
يحاول المسؤولون المصريون الوصول إلى اتفاقٍ مع أديس أبابا لتأمين ما تعتبره القاهرة حقها وحصتها من مياه النيل، وهو 55.5 مليار متر مكعب سنوياً، الذي كان مضموناً بموجب اتفاقية موقعة مع السودان في 1959. المشكلة أن إثيوبيا لا تعترف بهذه الاتفاقية.
المفاوضات وحدها لن تحل المسألة
تستمر المفاوضات. ولكن مُحللين يُحذِّرون من أنه حتى إذا وصلت القاهرة لأفضل نتيجة ممكنة، ستظل مشكلات المياه قائمة في البلاد. ومن المُتوقَّع أن يزيد التعداد السكاني لمصر من 96 مليون نسمة إلى 150 مليون نسمة بحلول عام 2050، مع غياب أي توسُّع يتناسب مع الزيادة في مصادر المياه.
حذَّر الوزير عبدالعاطي من أن مصر إذا لم تجد سبلاً للتكيُّف مع التغيُّرات البيئية، فسيصبح "ملايين من الناس في دلتا النيل مُعرَّضين للانتقال إلى مناطق أخرى، وستكون مليارات الدولارات من الاستثمارات في خطرٍ محدق".
وفي جهود للحفاظ على مصادر المياه، أطلقت الحكومة هذا العام حملةً ضد زراعة الأرز في المناطق التي مُنعت فيها زراعة المحاصيل التي تستخدم مياهاً غزيرة. وفرضت غرامات صارمة واعتقلت المخالفين لتتأكَّد من أنه لن يُزرَع أكثر من 750 ألف فدان من الأرز، أي أقل من نصف عدد الأفدنة المزروعة العام الماضي.
تذمر مزارعو قرية أبوسعيد من القيود، مصرّين على أن زراعة المحاصيل التي تستهلك مياهاً وفيرة مثل الأرز، تساعد على تحسين جودة الأرض الزراعية، إذ تزيل الأملاح من التربة. وقال المزارع عيسى محمد: "أتوقَّع أن الكثير من الناس سيدفعون غراماتٍ هذا العام أو سيُزَج بهم في السجن لعدم قدرتهم على الدفع".
وتحت تأثير الضربات المتتالية التي لا يستطيعون السيطرة عليها، أصبحت نظرة القرويين للمستقبل نظرةً كئيبة. قال عيسى محمد: "أنا متشائم". وأضاف: "يوجد هنا أكثر من 3 آلاف فدان مُعرَّضة للبوار".