لم يتمكّن جيمس بريست من فهم ما حدث. فقد كان يفحص الحمض النووي لرضيعة مريضة، باحثا عن طفرة جينية هددت بتوقف قلبها عن العمل. لكن النتائج بدت كما لو أنها جاءت من رضيعين مختلفين.
الدكتور بريست، أخصائي قلب الأطفال في جامعة ستانفورد قائلا: "لقد كنت متفاجئا". فقد تبين أن الرضيعة كانت تحمل مزيجا من الخلايا المختلفة جينيا، وهي حالة تعرف باسم الفسيفساء الجينية. وعموما، حملت بعض خلاياها طفرة مميتة، في حين أن البعض الآخر لم يحتو على هذه الطفرة. لذلك، يمكن اعتبار أن هذه الخلايا تعود إلى طفل سليم، حسب تقرير صحيفة New York Times الأميركية.
لقد اعتدنا على التفكير في خلايانا التي تتقاسم مجموعة متطابقة من الجينات، تم نسخها بدقة منذ أن كنا مجرد بويضات مخصبة. وعندما نتحدث عن الجينوم، وهو جلّ الحمض النووي الموجود ضمن خلايانا، فإننا نشير إليها بصيغة المفرد. لكن على مدى عقود، أصبح من الواضح أن الجينوم لا يختلف من شخص لآخر، وإنما يختلف من خلية إلى أخرى. ولا تعد هذه الحالة نادرة أو غير مألوفة، إذ أننا جميعا عبارة عن مجموعة من الفسيفساء الجينية.
بالنسبة للبعض، قد تعني هذه الحالة تطوّر اضطراب خطير على غرار أمراض القلب. في المقابل، تعني الفسيفساء الجينية أيضا أن الأشخاص الأصحاء هم، أكثر اختلافًا عن بعضهم البعض، أكثر حتى مما يعتقده العلماء.
لغز مكنسة الساحرات
في العصور الوسطى في أوروبا، اعترضت في بعض الأحيان المسافرين الذين يشقون طريقهم عبر الغابات، شجرة مرعبة. كان نمو الجذع يبدو كما لو كان ينتمي إلى نبتة مختلفة تماما، حيث تشكلت حزمة كثيفة من الأغصان، شبيهة بما يشكّلها البشر عند صنع المكنسة. كان الألمان يطلقون عليها اسم " Hexenbesen" أو مكنسة الساحرات. وكما ذُكر في الأسطورة، استخدمت الساحرات تعاويذ سحرية لاستحضار المكانس حتى تشق بها عباب سماء الليل. بالإضافة إلى ذلك، استخدمت الساحرات هذه المكانس كأعشاش حتى تنام فيها الأرواح.
خلال القرن التاسع عشر، وجد مربو النباتات أنهم في حال قطعوا مكنسة الساحرات من إحدى الأشجار وقاموا بتطعيمها إلى شجرة أخرى، ستنمو المكنسة وستنتج بذورا ستنمو هي الأخرى داخل مكنسة الساحرات. في الوقت الراهن، يمكنك أن ترى أمثلة من مكنسة الساحرات على المروج الخضراء العادية المتواجدة في الضواحي. وتعد أشجار قزم ألبرتا المنحدرة من شجرة التنوب من المناظر الطبيعية المفضلة، حيث يصل طولها إلى 10 أقدام. وتنمو هذه الأشجار في شمال كندا، حيث اكتشف علماء النبات خلال سنة 1903 أول قزم متشبثا بشجرة التنوب الأبيض، وهي إحدى أنواع الأشجار التي يمكن أن يصل طولها إلى 10 طوابق.
نشأت فاكهة الليمون الهندي الوردية بنفس الطريقة. فقد لاحظ أحد المزارعين من ولاية فلوريدا وجود فرع غريب على شجرة الليمون الهندي من نوع "والترز". في العادة، يحمل هذا النوع من الأشجار ثمرة بيضاء، ولكن هذا الفرع كان يتدلى من شدة وزن الليمون الهندي الذي كان لونه ورديا. ومنذ ذلك الحين، أنتجت تلك البذور أشجار الليمون الهندي الوردي.
داروين أيضاً تعجب من التناقضات الجينية
كان تشارلز داروين منبهرا بمثل هذه التناقضات، حتى أنه تعجب من التقارير التي تطرقت إلى "تشوه البراعم"، حيث يعد من الغريب وجود براعم مشوّهة على النباتات المزهرة. حينها، اعتقد داروين أنها كانت تحمل أدلة حول أسرار التوريث. وبرهن داروين أن خلايا النباتات والحيوانات يجب أن تحتوي على "جزيئات" تحدد لونها وشكلها وصفاتها الأخرى. وعندما تنقسم، يجب أن ترث الخلايا الجديدة تلك الجسيمات أو الجزيئات.
صرح داروين أن هناك شيئا يجب أن يمتزج بتلك المادة الموروثة عندما تنبثق البراعم المشوهة، على غرار "الشرارة التي تشعل كتلة من مادة قابلة للاحتراق". فقط في القرن العشرين، أصبح من الواضح أن هذه المادة القابلة للاحتراق هي الحمض النووي. ووجد العلماء أنه بعد تحول إحدى الخلايا، يرث جميع المنحدرين منها هذه الطفرة.
وفي نهاية المطاف، أصبحت مكنسة الساحرات وتشوه البراعم تعرف بالفسيفساء الجينية التي تتكون من مصفوفات صغيرة للغاية. وتخلق الطبيعة فسيفساءها من الخلايا بدلاً من المصفوفات، ضمن أشكال جينية مختلفة. وقبل أن يكون تسلسل الحمض النووي شائعا، كافح العلماء لمعرفة الفروق الجينية بين الخلايا البشرية. وقد كان السرطان أول دليل واضح على أن البشر، مثلهم مثل النباتات، يمكن أن يصبحوا فسيفساء جينية، حسب صحيفة New York Times الأميركية.
الكروموسومات المختلفة قد تحمل طفرات سرطانية
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ علماء الأحياء الذين يدرسون الخلايا السرطانية أن العديد منهم يحتوي على كروموسومات غريبة الشكل. فقد تكهن أحد الباحثين الألمان، ثيودور بوفيري، في مطلع هذا القرن أن وجود كروموسومات غير طبيعية هو ما قد يجعل الخلية سرطانية. وبمجرد أن نشر نظريته، واجه بوفيري معارضة شديدة.
في وقت لاحق، قال بوفيري، إن "الشكوك التي حامت حول أفكاري عندما ناقشتها مع المحققين الذين يعملون كقضاة في هذه المنطقة، دفعتني إلى التخلي عن المشروع". توفي بوفيري سنة 1914، وقد استغرق الأمر حوالي خمسة عقود حتى اكتشف العلماء أنه على حق.
اكتشف كل من ديفيد آي هانغرفورد وبيتر نويل، أن الأشخاص المصابين بنوع من السرطان يسمى ابيضاض المحببات المزمن، يفتقدون جزءًا كبيرًا من الكروموسوم 22. وقد تبين أن الطفرة قد انتقلت إلى هذا الجزء من الكروموسوم 9. كنتيجة لذلك، أصبحت الخلايا التي ورثت هذه الطفرة سرطانية. من الصعب التفكير بأن الورم قد يكون له أية قواسم مشتركة مع الليمون الهندي الوردي. ومع ذلك، فهي على حد سواء نتاج العملية نفسها: أنساب الخلايا التي تكتسب طفرات جديدة غير موجودة في بقية الجسم.
لقد ثبت أن بعض الأمراض الجلدية سببها الفسيفساء الجينية أيضا. فبعض الطفرات الجينية تجعل أحد جانبي الجسم يصبح مظلمًا تمامًا. في المقابل، ترسم طفرات أخرى خطوطًا على الجلد. إن الاختلاف يكمن في التوقيت. ففي حال اكتسبت خلية ما طفرة خلال مرحلة مبكرة جدًا من النمو، ستقوم بإنتاج العديد من الخلايا البنات التي سينتهي بها المطاف منتشرة في معظم أجزاء الجسم. أما الطفرات الناشئة في وقت متأخر، فستحظى بموروث محدود أكثر، حسب الصحيفة الأمريكية.
الأمر ليس جديداً
في دراسة سابقة لجامعة ييل، وجد العلماء أن DNA يختلف بنسبة تصل ل ٣٠٪ في خلاليا الجلد نتيجة الحذف والازدواجية في أزواج الحمض النووي وتلعب الطفرات دوراً كبيراً أيضاً في ذلك
في المقابل، وجد العلماء أيضا أن الإصابة بالفسيفساء الوراثية لا يعني تلقائيا الإصابة بالمرض. ففي الواقع، تعد هذه هي القاعدة. فعندما تبدأ البويضة الملقحة بالانقسام داخل الرحم، ينتهي المطاف بالعديد من خلاياها الأولى المنحدرة منها بالحصول على عدد خاطئ من الكروموسومات؛ بعضها يتكرر عن طريق الخطأ، وبعضها الآخر يضيع.
على العموم، معظم هذه الخلايا غير المتوازنة إما تنقسم ببطء أو تموت تمامًا، بينما تتكاثر الخلايا الطبيعية بشكل أسرع. لكن يبقي عدد مفاجئ من الأجنة على قيد الحياة مع وجود بعض التنوع في كروموسوماتها. من جهته، بحث عالم الأحياء في جامعة أوريغون للصحة والعلوم، ماركوس غرومبي، وزملاؤه في خلايا كبد كل من الأطفال والبالغين الذين لا يعانون من أي مرض في الكبد. كان ما بين ربع إلى نصف الخلايا مختلّة الصيغة الصبغية، وغالبًا ما كان هناك نقص في نسخة واحدة من كروموسوم واحد.
جنبا إلى جنب مع الكروموسومات المتغيرة، اكتسبت أجنة الإنسان أيضا طفرات أصغر في الجينوم. لذلك، أصبح يمكن إما نسخ امتدادات الحمض النووي أو حذفها. كما من الممكن أن يتم نسخ الحروف الجينية المفردة بطريقة خاطئة. لم يكن من الممكن دراسة هذه التغيرات الجزيئية بدقة إلى أن أصبحت تقنية تسلسل الحمض النووي متطورة بدرجة كافية.
في سنة 2017، أجرى الباحثون في "معهد ويلكم ترست سانجر" فحوصا على 241 امرأة، حيث قاموا بتحديد تسلسل مجموعات من كريات الدم البيضاء، التي استخرجوها من كل واحدة من النساء. وقد اكتسبت كل امرأة حوالي 160 طفرة جينية جديدة، كل واحدة منها موجودة في جزء ضخم من خلاياها.
وتماما مثلما أشارت إلى ذلك نظريات العلماء، اكتسبت هذه النساء الطفرات الجينية على شكل أجنة، مع ظهور طفرتين أو ثلاثة طفرات جديدة في كل مرة تنقسم فيها خلية ما. وبالتزامن مع ظهور هذه الطفرات الجديدة، تمر الخلايا الجينية إلى الأحفاد، في عملية أشبه بعملية إرث فسيفسائي.
وقد اكتشف الدكتور وولش وزملائه مجموعة من الفسيفساء المعقدة في أدمغة الأشخاص الأصحاء. وفي إطار إحدى الدراسات، قاموا بانتزاع خلايا عصبية من دماغ صبي يبلغ من العمر 17 سنة توفي إثر حادث سيارة. ومن ثم، قاموا بتحديد تسلسل الحمض النووي في كل خلية عصبية وقارنوه بالحمض النووي الموجود في خلايا كبد وقلب ورئتي الصبي. وقد توصل الباحثون إلى أن كل خلية عصبية تحتوي على مئات من الطفرات الجينية غير الموجودة في الأعضاء الأخرى. مع ذلك، كانت العديد من هذه الطفرات مشتركة مع بعض الخلايا العصبية الأخرى فقط.