بيلين قريةٌ صغيرة تقع في الغابات الاستوائية المطيرة بالقرب من حدود كمبوديا مع تايلاند. ومع أنَّها بلدة متواضعة تقع في وسط إحدى مناطق قطع الأشجار الرئيسية في البلاد، تحتضن الكثير من الأسرار.
هناك أسَّس حزب الحمير الحمر في أواخر السبعينيات من القرن العشرين، أحد معاقله الرئيسية وحَكَم كمبوديا بوحشيةٍ تسببت في مقتل ما لا يقل عن مليوني شخص، إنَّه إرث قاتم بكل المعايير.
وقالت صحيفة الغارديان البريطانية في تقرير لها، إن قرية بيلين تشتهر أيضاً بأشياء أخرى غير مرغوب فيها، وعلى وجه التحديد الشهرة المرتبطة بالموت المنتشر على نطاقٍ واسع. إذ اتضح أنَّ البلدة تقع في قلب المنطقة التي شهدت موجاتٍ متتالية من مقاومة عقاقير الملاريا التي تنشأ في أجساد السكان المحليين ثم تنتشر في جميع أنحاء العالم. ويقول علماء إنَّ حصيلة القتلى الناتجة قد تصل إلى ملايين الأرواح.
إفريقيا الأكثر عرضة للمرض
لكنَّ سبب نشأة المقاومة لعقاقير الملاريا في هذه المنطقة على وجه التحديد ليس واضحاً. ومع ذلك، يؤكد علماء إنَّ المنطقة شهدت ظهور العديد من الطفرات في طفيليات الملاريا جعلتها تقاوم تأثير العقاقير التي كانت تحمي البشر. والأسوأ من ذلك أنَّهم اكتشفوا ظهور موجةٍ جديدة من مقاومة عقاقير الملاريا مؤخراً في هذه المنطقة الصغيرة، وبدء انتقالها بالفعل إلى ميانمار والهند وبنغلاديش.
وأثار هذا الاحتمال قلق علماء وساسةٍ ونبَّههم إلى ضرورة إثارة هذه القضية بصفتها موضوعاً طارئاً لمناقشته في اجتماع رؤساء دول الكومنولث في العاصمة البريطانية لندن الأسبوع المقبل. يُذكر أنَّ إفريقيا تضم 19 دولة عضوة في الكومنولث، وهي القارة الأكثر عرضة للإصابة بالملاريا. ووفقاً لإحصاءات منظمة الصحة العالمية، فإنَّ 90٪ من جميع وفيات الملاريا تحدث في إفريقيا. وهنا مبعث قلق رؤساء دول الكومنولث الذين يعتقدون أنَّ بلادهم أكثر عُرضةً لخطر انتشار مقاومة عقاقير الملاريا.
وقال الأستاذ الجامعي سير نيكولاس وايت من وحدة بحوث طب المناطق المدارية التابعة لجامعتي ماهيدول وأكسفورد: "المشكلة تكمن في أننا نسير بحذر. فمنظمة الصحة العالمية لم تؤد دور القيادة الضرورية. نحن بحاجةٍ إلى عمل مباشر حازم للغاية وفي الوقت الحاضر، لا يتوافر لدينا ذلك".
تطور مستمر في المقاومة
يُذكَر أنَّ مقاومة عقاقير الملاريا الرئيسية ظهرت لأول مرة في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين حين بدأ الكلوروكين -الذي كان علاجاً ناجحاً فعَّالاً للغاية ضد المرض آنذاك- يفقد فعاليته. وجديرٌ بالذكر أنَّ هذه المقاومة ظهرت لأول مرة في بيلين على الحدود الكمبودية التايلاندية، ثم انتشرت في إفريقيا في أوائل الثمانينيات من القرن العشرين. وهو ما أسفر عن وفاة عدة ملايين آخرين بالإضافة إلى حصيلة الضحايا الذين فقدوا حياتهم بالفعل بسبب هذا المرض.
ثم ظهرت مجموعةٌ جديدة من العقاقير عُرِفت باسم عقاقير السلفادوكسين/بيريميثامين التي طوِّرت آنذاك واستُخدِمت لعلاج الملاريا، لكنَّ مقاومةً ظهرت ضد هذه العقاقير مرةً أخرى حول بيلين قبل الانتشار غرباً. وارتفعت أعداد الوفيات بسبب المرض مجدداً.
ثم في بداية القرن الحالي، ظهرت مجموعةٌ جديدة من أدوية الملاريا. واكتُشِفَت هذه الأدوية التي عرفت باسم مواد الأرتيميسينين في عام 1972 على يد العالمة الصينية تو يويو التي حصلت على جائزة نوبل في الطب عام 2015 عن أعمالها. وأصبحت مادة الأرتيميسينين -التي كانت تدخل الجسم ضمن عقارٍ ثانٍ أبطأ تأثيراً- الدواء المفضل لعلاج الملاريا في جميع أنحاء العالم، مما أدى إلى تحسُّن إحصاءات الملاريا، إذ انخفضت أعداد الوفيات وحالات الإصابة على مستوى العالم.
الخطر يعود مجدداً
لكنَّ العلماء اكتشفوا حالياً ظهور مقاومةٍ جديدة ضد عقاقير الملاريا الرئيسية، وفي المكان نفسه الذي ظهرت فيه من قبل: المزارع والقرى المحيطة ببيلين. وقال وايت: "ظهرت هذه المقاومة في المكان نفسه الذي ظهرت فيه مقاومة الكلوروكين، ثم مقاومة البيريميثامين، نفس المكان، حول بيلين".
لكنَّ سبب مقاومة هذه المنطقة الصغيرة في جنوب شرق آسيا ضد عقاقير الملاريا ليس واضحاً، وهو ما أكَّده دومينيك كوياتكوفسكي مدير مركز علم الجينوم والصحة العالمية في جامعة أكسفورد.
وقال كوياتكوفسكي لصحيفة The Observer البريطانية: "نريد معرفة الإجابة، لكنَّها ليست واضحة. ثمة شكٌّ في احتمالية استمرار ظهور المقاومة هنا لأسبابٍ تاريخية. ربما لها علاقة بالطريقة التي تؤخَذ بها عقاقير الملاريا هنا. لكن كيف بالضبط؟". في الواقع، تعد هذه النظرية مجرد واحدةٍ من العديد من الاقتراحات الأخرى التي قُدمت لشرح سبب ظهور هذه المقاومة هنا أولاً.
قد يكون للسلالة المحلية من طفيليات الملاريا بعض الخصائص الخاصة، أو قد يكون للبيئة في المنطقة ميزات تعزز ظهور المقاومة. وأضاف كوياتكوفسكي: "النقطة المهمة هي أننا بحاجةٍ إلى فعل شيء حيال ذلك، وعندما نفعل ذلك، نحتاج إلى مراقبة الوضع بحذرٍ شديد".
من العوامل التي اتضحت في الآونة الأخيرة أنَّ مقاومة عقاقير الملاريا ظهرت بسرعة كبيرة في المنطقة. إذ كتب باحثون من معهد ويلكوم سانغر وبعض زملائهم في مجلة Lancet Infectious Diseasescorrect في فبراير/شباط، أنَّ مقاومة العلاجات المركبة التي شملت مواد الأرتيميسينين نشأت فور تقديم العلاج كعقار للملاريا من الدرجة الأولى. ومع ذلك، لم يُرصَد فقدان الفعالية إلا بعد مرور عدة سنوات للعديد من الأسباب.
وشدَّد بن رولف، رئيس تحالف قادة منطقة آسيا والمحيط الهادئ لمواجهة الملاريا على الآثار المترتبة على هذا الفشل. وقال لمجلة BMJ الطبية البريطانية مؤخراً: "لقد انتشرت السلالات المقاومة للعقاقير في فترة تولِّينا مناصبنا دون أن يلاحظها أحد تقريباً. ونتيجة لذلك، فإننا مُهدَّدون الآن بعودة المرض إلى العالم".
السؤال الذي يواجه العلماء ورؤساء الدول وقادة منظمات الصحة الآن سؤالٌ مباشر: ما الذي يمكن عمله؟ قال وايت -الذي من المقرر أن يتحدث في اجتماع رؤساء دول الكومنولث- مؤكداً: "لدينا فرصة، لكنها تتضاءل بسرعة".
نحتاج إلى حملةٍ تعمل بكفاءةٍ عسكرية لاستخدام العقاقير الحالية -بينما ما زالت تمتلك بعض الفعالية- ليس فقط على الأشخاص المصابين بالملاريا بالفعل، بل الأفراد الذين أصيبوا بالعدوى لكنَّ حالتهم لم تسؤ ولم تظهر عليهم أعراض المرض.
وقال وايت: "هؤلاء الأفراد يحملون أعداداً صغيرة من الطفيليات، ومع أنَّهم لا يمرضون، فإنَّهم يُمثِّلون مصادر للعدوى الجديدة. فالبعوض يلدغهم ويأخذ دمهم وينشره إلى الآخرين. إنهم مصدر للعدوى الجديدة".
تناول جماعي للعقاقير
وتتمثل الخطة التي اقترحها وايت وعلماء آخرون في ضرورة معالجة كل شخصٍ في كل قريةٍ تقع في نطاق المناطق المُعرَّضة للإصابة بالملاريا بعقاقير مضادة للملاريا، بغض النظر عن ظهور أعراضٍ عليهم أم لا. وأضاف وايت: "يُسمَّى ذلك تناولاً جماعياً للعقاقير. وصحيحٌ أنَّه أمرٌ مثير للجدل، لكنَّه سيُجدي نفعاً إذا تمَّ في إطار استراتيجية منسقة. أمَّا إذا تم ذلك بطريقةٍ سيئة، ستزداد مشكلة المقاومة سوءاً. لذا يجب فعل ذلك بطريقةٍ صحيحة. ولكن إذا لم نفعل ذلك، سنعجز عن القضاء على الملاريا بسرعةٍ كافية، وإذا ساءت مشكلة المقاومة، ستصبح الملاريا غير قابلةٍ للعلاج".
وبالإضافة إلى ذلك، ثمة اقتراحٌ بإضافة دواء ثالث مضاد للملاريا إلى العلاج المركب المستخدم حالياً لعلاج المصابين بالملاريا: أي إحداث تأثيرٍ ثلاثي بدلاً من التأثير الثنائي. ومن المتوقع أن تُعلن وزارة التنمية الدولية البريطانية الأسبوع المقبل دعمها للتجارب التي تستخدم عقاقير ثلاثية.
ومن جانبهم، يقول بعض مسؤولي منظمة الصحة العالمية إنَّ المخاطر التي تشكلها آفة الملاريا الجديدة مبالغٌ فيها، وإنَّ تحسين جهود الوقاية والرصد والعلاج سيحد من انتشارها من منطقة ميكونغ. لكنَّ البعض الآخر غير متيقن من ذلك. وستُعقد قمة الملاريا -التي تنظمها حملة "الاستعداد للتغلب على الملاريا"– في 18 أبريل/نيسان وسيحضرها علماء وقادة أعمال، من بينهم بيل غيتس وزوجته ميليندا غيتس. إذ يسعون لحثِّ جميع زعماء العالم على تبنِّي التزاماتٍ عاجلة لمحاربة المرض.
وقال متحدثٌ باسم الحملة: "نحن الآن على حافة الهاوية، يمكننا الاستمرار في مكافحة المرض وإلَّا سنتعرض لخطر عودة المرض على نحوٍ حاد وقاتل".
ودعم وايت هذا الرأي قائلاً: "لقد بدأ الوقت ينفد، وما لم نتحرك بسرعة، سيعاني الناس وسيكون أطفال إفريقيا أكثرهم معاناةً".