كل عام نشاهد ألواناً جديدة تنتشر في الشوارع، طلاء سيارات لم نكن نعرفه من قبل، أو ملابس بألوان لم نعهدها، ديكورات منزلية بألوان مبهرة تنتج عن المزج والتدرج تأسر الناظرين إليها.
هل تساءلت يوماً عن السر الكامن وراء ذلك؟ ماذا عن العاملين بهذا المجال؟ كيف يتم اختيار الألوان وترويجها؟ هي تجتاحنا دون أي مقاومة، حتى وإن لم تعجبك هذه الألوان، سوف تراها كل يوم في كل مكان تقريباً.. حتى تحبها. Newyork Times تجيب على هذه الأسئلة والكثير غيرها.
الألوان.. اقتصرت على الأغنياء
وبالعودة إلى التاريخ، شكل تطور الصناعات الكيماوية في منتصف القرن التاسع عشر نقطة تحول رئيسية في استخراج وصناعة الألوان.
حتى تلك الفترة، كانت الألوان تستخرج من الطبيعة مثل النباتات والمعادن، ولذلك كانت الألوان محدودة نسبياً، فيما استطاع الأغنياء امتلاك ألوان أكثر غرابة قليلاً.
لذلك فإن صناعة الألوان الحديثة وصلت إلينا من خلال الأزياء، وهي ما تذكرنا بأن جذورها موجودة منذ عقود طويلة وزادت قوتها مع تطور مستلزمات الاقتصاد الاستهلاكي.
تطور الألوان بشكل نسبي بعد الصناعات الكيماوية حتى وصل إلى نقطة الانفجار، أو ما يعرف بالانعطافة الكبرى والتطور العظيم في مجالات التصميم، والتي أطلقت عام 1998 من قبل شركة آبل، من خلال إنتاج جهاز كمبيوتر "آي ماك" مكتبي.
الجهاز الجديد احتوى على 11 ظلا للألوان، ابتداء من الأزرق الداكن حتى اللون البرتقالي المائل للأحمر، وأطلق "الآي ماك" عصراً جديداً بحيث سمح للزبائن والمستهلكين بالاهتمام بالمشتريات اليومية بناء على الألوان.
مع مرور الوقت، تلاشى اهتمام شركة آبل بهذه الألوان، وعادت إلى الألوان الطبيعية الأساسية، الأبيض والأسود والفضي، ولكن الأثر الذي تركته الشركة في استخدامها لهذه الألوان، أظهر أهمية هذه الصناعة، وأنه بإمكانها تحديد النجاح أو الفشل في أي منتوج يصل إلى الأسواق، وهنا أتى دور مجموعة مجهولة من المصممين والفنانين في العالم، عرفوا باسم "المتنبئين".
المتنبئون بالألوان
هم عبارة عن مجموعة مجهولة من الأشخاص في العالم، لديهم تأثير هائل على العناصر المرئية في الاقتصاد الدولي، يعملون في مهنة معقدة وغير معروفة لدى غالبية البشر، إنهم المتنبئون بالألوان.
ويعتبر البريطاني "ديفيد شاه"، أحد أهم العاملين بمجال الألوان في العالم، وينشر مجلة بعنوان "Pantone View colour Planner" مرتين في كل عام، تحتوي على 64 لوناً أساسياً مرتبة في 9 لوحات متميزة مصممة بطريقة فنية جميلة.
المجلة موجهة في المقام الأول إلى المصممين وأصحاب المصانع، لرسم اتجاهات الألوان سواءً انجذب الزبائن للألوان الطبيعية أو الساطعة.
ولإضفاء التنوع، تختلف طبيعة تصميم المجلة في كل نسخة، حيث تتم إضافة ألوان جديدة، تمثل مواضيع معينة، مثل "الوقت" و"التأمل".
فريق المصمم البريطاني، يجتمعون في كونهم أوروبيين، وهم يقومون باختيار ما يطلق عليه "لون العام"، وفي هذا الاجتماع، تم اختيار لون "الحب" لربيع-صيف عام 2019.
يتم خلال عام واحد إنتاج ونشر هذا اللون بشكل واسع، في الأزياء والأثاث المنزلي، ويتم مزجه بتدرجات ألوان أخرى لتشكل معها شكلاً فريداً مريحاً للنظر.
ويشترك في هذه الحملات، مؤسسات عالمية كبيرة، مثل عملاق محرك البحث "جوجل" الذي يقوم بدوره بتعميم هذه الألوان على متابعيه ومشتركيه لتجربتها سواء في الإيميلات الشخصية أو على تصميم الموقع نفسه.
خلال اجتماعات هذا الفريق، يقومون بعمليات بحث طويلة، ونقاشات واسعة حول الألوان، وإلى أين وصلت في العصر الحالي، وتتضمن نقاشاتهم، الفن، والموسيقى، والأفلام، والمسرح، والأزياء، والكتب، والمتاحف، والإعلانات، وأي شيء آخر قريب من هذه المواضيع.
هذه النقاشات تقوم بعملية عصف ذهني مشترك من قبل هذا الفريق، والمهتم فقط بإنتاج ألوان عصرية جديدة وإبداعية.
يتفق الفريق في نقاشاته، على أن الصراعات الموجودة في العالم تنعكس بشكل رئيسي على الألوان، وبأنه من الصعب أن تجد تعريفاً واحداً لها، بل هي عبارة عن نماذج في مختلف المناطق بالعالم، تنتج بسبب "المزج" بين الألوان.
المزج، هي الكلمة السحرية في هذه الاختبارات والنقاشات، التي تؤدي إلى "ألوان غير مقصودة".
بدأ عمل المتنبئين بالألوان قبل عقدين من الزمن، وخلال هذه المدة، حصل تطور هائل وكبير استخدام التصميم الرقمي ومواقع التواصل الاجتماعي بألوان مهووسة، وظهر شيء يطلق عليه "بانتون".
البانتون.. اللغة التي يتفاهم فيها العالم بالألوان
وهو نظام شرائح لفرز الألوان، حملت لاحقاً اسمها شركة أميركية في ولاية نيوجرسي.
النظام الجديد انتشر كالهشيم في النار بشكل كبير وواسع في العالم، وأشعل فتيل تنافس غير مسبوق بين الشركات ومواقع التواصل الاجتماعي، مثل "Tumblr و Pinterest" التي تعمل من أجل اكتشاف مواهب اتجاهات اللون، وجلب المتابعين للقضية، فيما أصبحت البانتون ليست مجرد شركة، بل إحساساً وعلامة تجارية دولية ضخمة.
بالنسبة لشركات ومصممي الأزياء الذين يشكلون قاعدة الزبائن الرئيسية لشركة بانتون سيدفعون أموالاً طائلة لمعرفة اتجاهات الألوان وظلالها.
بانتون والشركة الراعية لها، إكس ريت، التي صنّعت نظاماً وبرنامجاً للألوان أطلق عليه "بانتون" عام 2007 لديها اليوم ما يقرب من 17 مكتباً ومؤسسات إنتاجية حول العالم، وهي تقوم بخدمة ما يقرب من 10 ملايين مصمم ومصنع يومياً.
مكتبة "بانتون" للألوان، والتي تستمر بالنشر كل عام تحتوي اليوم على ما يقرب من 10 آلاف ظل للألوان.
هذه الشركة من خلال العمل مع مصممين في أوروبا، وعمليات التصنيع في الصين، وأسواق الولايات المتحدة، فإنها بسهولة تستطيع مزج الألوان المختلفة صعوداً ونزولاً في توريدها، وأصبحت شرائح البانتون اللغة المشتركة في العالم البصري اليوم.
غرفة العمليات الجراحية.. للألوان
في مصنع تابع لشركة البانتون بنيويورك هنالك يوظف 75 شخصاً، يمضون أيامهم في وضع معايير الألوان، حيث يتم اختبارها النتائج على مواد مثل القطن، والأوراق، والمواد البلاستيكية.
المصنع ذو السجادات السكنية، والجدران المطلية بظلال الألوان القريبة من لون الثلج لم يتم اختيارها عبثياً، حيث يشكل نمط الألوان المتضادة قوة، وهو الأفضل في جوهر الطبيعة ويمكن مشاهدتها بسهولة.
داخل المصنع، موظفون يرتدون معاطف بيضاء طويلة، ويقفون حول طاولة عمل مضاءة تشبه إلى حد كبير غرفة عمليات المستشفيات، يقومون بفحص قطع من قطن يحتوي على عينات من الألوان، وذلك وفقاً لمعايير جودة الألوان ولفحص العيوب الموجودة.
عملية معقدة، تشبه إلى حد كبير العمليات الجراحية الطبية، الضوابط صارمة في كل مرحلة من مراحل العمل، حيث يتم تبديل القطن، بعد أن يصبغ، ويوضع بظروف خاصة داخل جهاز يقوم بتعريضها لإضاءة محددة بدرجة حرارة 70 درجة مئوية وفي جو رطب يصل إلى 50 بالمئة.
لاحقاً تُضغط هذه المواد ومن ثم يُقاس ضغطها الضوئي، وتتم مقارنة ألوانها بمعايير الجودة للبانتون مع دقة عالية.
إذا نجح القياس والاختبار، واجتازت المادة الفحص بنجاح، يتم وضع العينة وهنا نقصد بها "اللون المُنتج غير المتأثر بظروف خارجية" داخل قطعة بلاستك تكون مغلفة بمواد تقاوم الأشعة فوق البنفسجية، وهو ما يحميها من الاختفاء، ويتم فحص الألوان الجديدة على مواد ورقية وبلاستيكية في اختبارات مشابهة لما ذكر.
كما المخابرات.. الفحص "اللوني"
ما الذي يضمن جودة المنتج بعد كل هذه العملية؟ إنها عين الإنسان، ولكن.. كما أي جهاز مخابرات في العالم، يتطلب منهم فحصاً أمنياً مستمراً للموظفين، ومراجعة شاملة لتاريخهم.
فإنّ كل موظف في بانتون يطلب منه أن يجري اختباراً سنوياً خاصاً، يقوم خلاله بترتيب 4 أعمدة من العينات، تحتوي على 85 لوناً بالمجمل، بشكل تنازلي مبني على درجة الظلال فيها.
وأي موظف يريد أن يستمر في العمل مع بانتون، يجب عليه أن يحصل على تقييم مرتفع ومميز، لما لا يزيد عن 3 أخطاء فقط.
خلال العقد الماضي، أصبحت "بانتون" علامة تجارية استهلاكية مسجلة باسمها، مثل الملابس والأحذية ومستحضرات التجميل، والأثاث، وأجهزة الاتصالات، وكتب الأطفال.. وعدد آخر من المنتجات التي تحمل العلامة التجارية وألوانها.
لم تكشف بانتون عن أي معلومات مالية حول بيعها لعلامتها التجارية حول العالم، ولكنّ شركة "فاست" كتبت عام 2015 أن ملايين الدولارات حصّلتها بانتون إيرادات سنوية من ذلك، وهو ما يشكل 15 بالمئة من دخلها السنوي.
في شهر كانون الثاني من كل عام وعلى مدى عقدين من الزمن، تقوم بانتون باختيار الوقت المناسب لإعلان "لون العام" وهو ما يوصف بـ: "لمحة عن لون ما نعتقد أنه أخذ مكاناً في ثقافتنا العالمية، وهو ما يصف مزاجنا ومواقفنا".
العام الماضي أي 2018، تم اختيار لون "الأشعة فوق البنفسجية" أي اللون الأورجواني المُزَرَّق، والذي يمثل عدم التطابق والتضاد، وهو يمثل غموض الكون.
بعد إطلاقه مثلاً، قامت "جوجل" على مدار 4 شهور لاحقة، بإرسال مجموعة مقالات على إيميلات مشتركيها تقترح عليهم كيفية استخدام اللون الأورجواني المزرق في خزانة الثياب، أو إعادة ترتيب ديكور الغرف المعيشية.
قد يبدو هذا اللون قبيحاً لنا، ولكنه يجب الحذر عند التعامل معه لأنه من إنتاج شركة بانتون، وهو "لون العام"، وجميع الناس ينظرون إلى ما تختاره هذه الشركة، أليس كذلك