في ساحة بحي الحراش، أخطر أحياء العاصمة الجزائر، وبين الطُرق الممتلئة بالحفر والمباني الاستعمارية المتهاوية، تجمُّع شبان يرتدون بذلات وأحذية رياضية يحرسون أكباشهم، ليس من أجل ذبحها بعيد الأضحى المقبل، وإنما في انتظار القتالات التي ستنظَّم اليوم.
هؤلاء الشباب المعروفون باسم "الكبابشيين"، يتجولون في القرى باحثين عن حملانٍ سريعة، ومُقاتِلة، يشترونها ثم يُخضعونها لنظام تربية وتدريب قاسٍ مدة 3 سنوات، قبل أن تصبح جاهزة لتتحول إلى أكباش تقاتل من أجل لقب البطولة.
كُل قتالٍ يرفع من قيمة المنتصر ويحكم على الخاسر فيه بالذبح، وقد تصل قيمة كبش بطل إلى 10 آلاف دولار أميركي، ورغم الثمن الباهظ، فإن معظم مدرِّبي الأكباش الفائزة بسلسلة من المباريات، يُفضِّلون السعي وراء المجد فضلاً عن المال.
أعمار الكبابشيين الذين يُدرِّبون الأكباش على القتال، تتراوح في الغالب ما بين العشرينيات والثلاثينيات، ينتمون إلى ما يُعرف في الجزائر بالجيلٍ الضائع الذي شكَّلَته حقبةٌ من الخوف، والقتال، والفساد، وحظر التجوُّل بعد العشرية السوداء، التي غرقت فيها البلاد بالعنف والإرهاب.
أسماء بآلاف الدولارات
تُشبه "كومبات تاع الكباش"، التي تعني مصارعة الأكباش باللهجة الجزائرية، مباريات كرة القدم إلى حد ما، لكن قتال الأكباش يفتقر إلى الفن، والمهارة، والدقة التي تجعل من كرة القدم رياضةً جماهيرية، يواجه الكبش خصماً مطابقاً له وينطحه حتى الاستسلام مستخدماً قرونه فقط.
تكون المباريات مهرجاناً للهيمنة والقوة، وعندما يفقد الكبش اهتمامه بالمباراة، أو يُفضِّل كلاهما مصالحة خصمه بدلاً من التناطُح بالرؤوس، يأتي دور المُدرِّبين؛ إذ يهمسان إلى وحشَيهما ويحثَّانهما على العودة للمعركة، حتى تتلاقى عيناهما مجدداً ويهجم الواحد منهما على الآخر.
ويُقوِّي المدربون المحترفون أكباشهم بتقييد قرونهم بسلاسلٍ مثبَّتة إلى جدار، وفيما تشد الأكباشُ السلاسل وتلتوي لتتحرَّر منها، تزيد المقاومة من سُمك أعناقها القوية.
وبخلاف قتال الديوك، لا تجري المقامرة على قتالات الأكباش، لكن المضاربة في سوق الأكباش قد تجعل منها تجارةً مُربِحة؛ نظراً إلى ارتفاع أسعار الأكباش التي لها تاريخ حافل في الفوز بالبطولات، حيث تتراوح الأسعار ما بين 2500 دولار و12 ألف دولار.
الكبابشيون يتفنون في اختيار أسماء لأكباشهم؛ لإدخال الرعب في نفوس منافسيهم، مثل رامبو، أو جوز (الفك المفترس)، أو لويَر (المحامي)، أو حتى "هتلر" و"صدَّام".
جيل ضائع من الجزائريين
مباريات قتال الأكباش تُخرِج الطاقات الحبيسة لشباب متفرغين، ففي الجزائر، التي يُشكِّل النفط والغاز 96% من صادراتها، استخدمت الدولة الأموال التي تجنيها من تصدير النفط في تهدئة مخاوف شعبها المثارة منذ وقتٍ طويل، بمنحهم مساكن مجانية وقروضاً بلا فوائد.
وتراجعت معدلات العنف في شوارع المدن بعد أحداث العشرية السوداء، وكَبُر الأطفال الذين ظلوا على قيد الحياة عبر سنواتٍ من الرعب، ليصبحوا شباباً، في ظل شبكة أمان اجتماعي توفرها الدولة، معتقدين أن احتياجات أسَرهم الغذائية والصحية والتعليمية ستُلبَّى بغض النظر عن دراستهم أو حصولهم على عمل.
يوجد القليل من الوظائف ولا أدوار منتجة للشباب ليقوموا بها في المجتمع، فيصبح قتال الأكباش ساحة نادرة، يمكنهم عبرها الهرب من الرقابة الدائمة التي تفرضها الدولة.
ورغم أن هذه المباريات غير قانونية، فإن السلطات تسمح لمتابعيها بالتوافد إلى مواقع غير مُصرَّحٍ بها كُل أسبوع.
وتُجرَى مباريات البطولات المقامة في مدينة الجزائر وبمدينة عنابة الساحلية الشرقية أعلى التلال، وفي ملاعب كرة القدم، وساحات المدارس، وتتنوع بين الهواة التي تجذب بضع مئاتٍ من المشاركين والمتفرجين المحليين، إلى بطولة إفريقيا الكبرى (والمقامة بضع مراتٍ سنوياً؛ إما بالجزائر وإما في تونس، وهما المشاركتان الوحيدتان فيها)، والتي تجذب الآلاف من أرجاء شمال إفريقيا كافة.
تغاضِي الحكومة الجزائرية عن قتال الأكباش بمثابة اعترافٍ ضمني بوجود حاجةٍ لمُتَنَفَسٍ للغضب الشبابي، كما يفسر يوسف كراشي، وهو مُصوِّرٌ من مدينة الجزائر أمضى سنواتٍ في توثيق قتال الأكباش، فتركُهم يستمتعون بوقتهم يُقلِّل من احتمال العنف في سياقاتٍ أخرى، "تُفضِّل السلطات انخراطهم في الفُرجَة عن انخراطهم بالسياسة".
بنيار الأسطورة صاحب الألقاب
على صفحته في فيسبوك، اشتهر مدرب الأكباش بنيار بتحديه الشهير لمنافسيه، كان يكتب: "ستنتِف أكباشي الريش عن أكباشكم كما لو كانوا دجاجاً".
الكاتبة هناء أرمسترنغ، حاولت أن تتتبّع قصة بنيار الأسطوري، صاحب 13 كبشاً بطلاً، والذي صار أشهر "الكبابشيين"، تحكي في مقال لها على صحيفة الغارديان البريطانية، كيف استقلت المترو حتى الحرَّاش، ثم قصدت الإسطبلات لتسأل عن بنيار.
وفيما كانت تمر بمنعطفٍ ضيق، ظهر أمها كبشٌ فخم المظهر فجأة. كان يقف بجانب حائطٍ أسمنتي بعُرفه الأحمر الزاهي وعنقه الثخين المفتول العضلات.
اقتربت منه وسألت مدربه عن اسمه ليجيبها متجهماً بكلمة واحدة: "إيبولا".
عرفت منه أن بنيار اعتزل صراع الكباش، باعها كلها واشترى سيارة من طراز مرسيديس، ولن يعود مجدداً.
في أثناء اكتشافها حي الحراش، وجدت هناء مكاناً بدا كما لو كان، حتى وقتٍ قريب، متجراً للأجهزة الإلكترونية أو الفواكه المجففة، صار المتجر الآن يعجُّ بالأكباش، وهناك تعرفت على رجلين مكلفين الحراسة؛ الأول: سفيان الذي يتجاوز طوله متراً و80 سنتيمتراً، ببطنه العريض وسيقانه النحيفة الطويلة، والثاني: حافظ، بعنقه البارز ووجهه أفطس الأنف الذي يشبه بشكل كبير الخرفان المقاتلة.
الحارسان أخذا الكاتبة إلى منعطفٍ قريب، ورفعا مصراع باب مرآب، وأخذاها إلى الداخل، هناك وجدت كبشين قويَي البنية في الـ4 من عمرَيهما، ما إن اقتربت منهما حتى حركا سلاسلهما بعنف واقتربا منها، في محاولة لنطحها.
3 سنوات للإعداد
الكبشان في مِلك حافظ؛ لأن صاحبه سفيان اعتزل قتال الأكباش منذ 5 أعوام ملتحقاً ببنيار، يفسر ذلك بأن القسوة في معاملة الحيوانات تخالف الإسلام، "الأكباش في رأيه للذبح لا الرياضة".
أما حافظ، فقد أصبحت كِباشه مستعدة للقتال اليوم، حلق صوفها وزيَّنها بالحنَّاء، شأنه في ذلك شأن كل "الكباشيين".
فعندما يبلغ كبش الـ3 من عمره، يُصبح مستعداً للقتال، يحلق مدرِّبه صوفه ويزيِّنه بالحنَّاء، وتختلف تصميمات الزينة بين البسيط -لمسةٌ من الأحمر هنا وهناك- وحتى الزخرفة المفرطة.
ويزداد الكبش قوةً بالسن والخبرة، حتى يصل إلى ذورة قوته في سنِّ السابعة. الكثير من العدس والسير، كما يشرح سفيان، هما سر النجاح. ويصل الكبش لرُتبة بطل عندما يهزم 12 خصماً. ومن ثم، كما يقول معجبو الرياضة الشغوفون، يُصبح مجرَّد ذكر اسمه باعثاً للرعب على امتداد ولايات الجزائر الـ48.
الحديث أثار حماسة الشابين اللذين شرعا في تعداد أسماء الأبطال: "فاغابوند"، "ماركو"، "سيروكو".
قاد حافظ كبشَيه المتأهبَين إلى ساحة رملية واقعة بين مصنعٍ مُغلق ومدرسةٍ ثانوية، تجمَّع فيها الكثير من الشباب والرجال مرتدِين جلابيب طويلة وأحذية أديداس.
قوانين وأعراف تحكم المباراة
وبعد بضع دقائق، بدأت الأكباش المقاتلة في الظهور. تايسون، صائحاً ومغروراً، يقوده رجلٌ ضخم الصدر، ثم بوغبا، وهو كبشٌ سمين أسود كالفحم، يلهث. وفي الجهة المقابلة من الساحة، ترنَّح كبشٌ أسود الرأس وفرغ من مثانته بولاً كما لو كان سكراناً… لكنّ "ميسي" كان نجم الساحة بلا منازع، كان بهياً بحوافر حمراء كالدم وعُرفٍ برتقالي زاهٍ، مما أثار القدر الأكبر من الجلبة.
وعند إشارةٍ خفية، تقدَّم الحشد إلى الأمام، وشكَّلوا حلقة على الرمال. دخل إلى الحلبة الكبش المسمى لويَر (المحامي)، على خاصرته رسم بالحناء لشعار ماركة "لوي فيتون"، مصحوباً برقم 16 (الرمز البريدي لمدينة الجزائر) من ناحية، ومن الناحية الأخرى رسم لسلاح من العصور الوسطى (عصا مربوطةٌ بسلسلةٍ حديدية تنتهي إلى كرةٍ حديدية)، بينما كان خصمه، بلانكو، غير مزين.
دلَّك المدرِّبون خاصرتَي الحيوانين وقرونهما وشدَّوا ذيليهما، في حركةٍ بدت أنَّها تُهدِّئ من أعصابهما بقدر ما هيَ تثير حماسة وحشيهما المتناطحين.
بدأ القتال، صمت الحشد. دار لويَر وبلانكو أحدهما حول الآخر، وتلاقت عيناهما، ثم تراجعا إلى الوراء ببطء. ومن ثمَّ، جريا إلى الأمام مباشرةً واصطدما بأحدهما الآخر بقوتيهما كاملةً. تدافع الحشد إلى الأمام مسحوراً، فحاول الحَكَم أن يُعيد النظام إلى الحشد وإلى الحلبة.
تناطح لويَر وبلانكو بضع مراتٍ أخرى، بقوةٍ أقل. وعلا صوت كل نطحةٍ كما لو كان صوتُ مطرقةٍ تضرب جداراً. لكن، بدأ السأم يظهر على بلانكو، وكان لويَر هو الآخر يبحث عن فجوةٍ بين الحشود يمكنه النفاذ منها والتجوُّل بعيداً. من الصعب أن تُنهي المباراة، فالقتال يجب ألا يزيد على 30 ضربة، لكن لا نهاية واضحة له، وأحياناً ما تعرف الأكباش أيُّها المهيمن بينها قبل أن يكون البشر مستعدِين لتقبُّل الأمر.
بلانكو قد كسب في الضربة الأولى، وذلك ما أعلنه الحكم، الذي يرتدي سروالاً قصيراً من الجينز وتيشيرتاً، اندفع مشجِّعو بلانكو إلى الأمام، صائحين: "أحسنت.. هيا بنا"، دلَّكوا قرونه وقبَّلوه على كلتا وجنتيه، ومزَّقوا قمصانهم، ورقصوا به عبر البوابات وإلى شوارع الحرَّاش. أما مدرب لويَر، فقد قاد كبشه المحكوم عليه بالذبح بعيداً وقد بدا بائساً..
كؤوس عنابة الذهبية..
بعد محطة "الحراش"، توجه سفيان وحافظ إلى مدينة عنابة، التي تُعَد عاصمة قتال الأكباش في الجزائر؛ لحضور البطولة الوطنية.
ويحتشد العديد من الرجال سنوياً من جميع أنحاء الجزائر؛ لحضور هذا الحدث العظيم، الذي يشهد تتويج الفائز ببطولةٍ لمدة عام بكؤوس ذهبية. وتُعَد مدينة عنابة، التي تضم 200 ألف نسمة والمطلة على المتوسط بالقرب من الحدود مع تونس، نقطةً رئيسية لرحيل المهاجرين الشبان الذين يعبرون البحر في قوارب مطاطية؛ طمعاً في مستقبل أفضل على الضفة الأخرى.
في ملعب كرة قدم رملي بالقرب من مصنع مهجور، كان الكبش البطل الفائز يستعرض زينته بتفاخر، غليظ البنية بصوفٍ قصير، حوافره وركبتاه ورأسه ملونة باللون الأحمر للحناء. بالقرب منه 6 رجال، بشرتهم سمراء ويرتدون ملابس رياضية، مستندين إلى الجدار بعد إفراطهم في تناول الطعام، ويحاولون التجهُّم؛ للظهور بمظهرٍ صارم.
علاء، مالك الخِروف، كان قصيراً وأغلظ الرجال بنيةً بعيونٍ خضراء، يُدخِّن سيجارةً تتدلى من جانب فمه ويقدم كوب قهوته لخروفه، الذي شرع يلعقها بشراهة، بينما عرض عليه شخص آخر تدخين سيجارة فالتهمها، علاء يتفاخر بأن كبشه يحب تناول الجعة في بعض الأحيان!
قطعة الأرض التي ستقام عليها المنافسات، مُهمَلةً وغير قانونية مثل الساحة الموجودة في مدينة الحرَّاش، لكنَّها كانت تضم عدداً أكبر بكثير من المشاهدين، احتشد الرجال إلى أقصى حدٍ يمكن للعين رؤيته، فجلس بعضهم فوق الجدران وأسطح السيارات والشاحنات وعوارض المرمى.
وسط هذا الاستعداد، انتشر فجأة خبر إلغاء البطولة؛ إذ كانت هناك بعض المشكلات مع الجهة المنظِّمة، وكان الدوري قد حَجَز عدداً كبيراً للغاية من المباريات، فأُلغِيَ كل شيء؛ خوفاً من اندلاع الفوضى.
بدأ الجمهور في التفرق حين نشبت فوضى بأقصى الملعب، وبدأ الرجال يهرولون في وقتٍ واحد، ومن ضمنهم سفيان وحافظ، اللذان ركضا إلى سيارتهما.
وفي طريق العودة إلى الجزائر العاصمة، كان سفيان غاضباً من إلغاء المباراة، التي لم يكن ليشاهدها على أي حال؛ لأنَّه تعهَّد بالتخلِّي عن كل ما يخص قتال الأكباش، لكنَّه كان مستاءً من أنَّ مستوى الجهات التي تدير الدوري لم يعُد كما كان من قبل.
ساد جو كئيب في السيارة.. تمتم سفيان، ناظراً إلى الأرض: "أتمنى لو يتوقف القتال. أتمنى لو يشكِّلون لجنة لحماية هذه الحيوانات".
ليردَّ عليه حافظ باحترام: "آه، نعم. على القتال أن ينتهى. إنَّه مستمرٌ منذ 40 عاماً. لقد سئمنا منه. عليهم أن يُوقفوا الأمر برمَّته".