تاريخ مثير وأسرار أكثر إثارة، بدأ قبل الميلاد بنحو 200 عاماً، حين كانت مدينة بايا Baiae هي لاس فيغاس الإمبراطورية الرومانية.
هناك بنى رجال الدولة الأقوياء فيلات فاخرة على شواطئها، مع منتجعات ساخنة ومسابح مزينة ببلاط الفسيفساء. تجمعت النخبة، من قياصرة وقادة الجيش وشعراء وغيرهم، للاستمتاع بملذات ورغبات بعيداً عن سائر فئات الشعب.
كانوا يفكرون على طريقة رجال السياسة والنفوذ في عصرنا الحالي، يحتاجون إلى مكان حصري بعيد عن العيون، فكانت مدينة بايا. وعُرفت عبر التاريخ بمدينة الفسوق قبل أن يبتلعها البحر.
المجد: استراحات الملوك والمشاهير في عصر الرومان
ألّف شيشرون، الخطيب العظيم، العديد من خطاباته في استراحته في هذه المدينة، كما كان لنيرون ويوليوس قيصر فيلات يقضيان فيها عطلاتهما.
استمدت مدينة "بايا" الرومانية اسمها من باجوس، الحارس الأسطوري ليوليسيس صاحب فكرة الحصان الذي هزم أهل طروادة، ودفن هناك وفقاً للميثولوجيا الإغريقية.
ووفقاً للمؤرخ الروماني سويتونيوس، في عام 39 ميلادية ذهب إليها الإمبراطور الروماني غريب الأطوار كاليغولا رداً على نبوءة المنجم المصري ثراسيلوس الذي قال: "ليس هناك فرصة لتصبح إمبراطوراً إلا بعبور خليج بايا على ظهر جواد".
أمر كاليغولا ببناء جسر عائم من السفن المحتجزة في المنطقة، بعد تثبيتها معاً وإثقالها بالرمال، ليمتد على طول 3 أميال من ميناء بايا إلى ميناء بوتسوولي المجاور، وعبره على حصانه مرتدياً عباءة ذهبية.
المتعة: دوامة الرفاهية وميناء الرذيلة
اشتهرت بايا بسمعتها السيئة بسبب أسلوب حياة المتعة لسكانها والوافدين عليها، ووصفها الشاعر الروماني بروبرتيوس في عصر أغسطس قيصر بأنها "عرين الفسوق والرذيلة".
وفي القرن الأول الميلادي، ذكرها الفيلسوف والكاتب المسرحي الروماني سينيكا في إحدى "الرسائل الأخلاقية" الموجهة إلى صديقه لوسيليوس، حاكم صقلية بعنوان "دوامة الرفاهية" و"ميناء الرذيلة"، حيث كانت الفتيات والنساء الكبيرات في السن وحتى الرجال يذهبون للعب دور الفتيات.
شهدت بايا الكثير من الكوارث على مدار تاريخها؛ إذ يعتقد أن النشاط البركاني المتزايد قد تسبب في هلاكها قبل حوالي 2000 عام، ولاحقاً في القرن الثامن الميلادي هاجمها المسلمون الذين كان الرومان يطلقون عليهم اسم ساراشينوس، Saracen بالإنكليزية. كما ظلت مهجورة تماماً في عام 1500 لانتشار الملاريا، وكذلك طالتها الكثير من الغزوات البربرية الجرمانية.
مسرح التاريخ: هروب كليوباترا ومصرع كلوديوس
في حديثه مع BBC، يقول جون سموت، الباحث الذي تعاون مع علماء الآثار المحليين في استكشاف الموقع "هناك العديد من القصص عن المكائد والمؤامرات المرتبطة بمدينة بايا".
تقول بعض الشائعات بأن كليوباترا هربت على سفينتها من بايا بعد اغتيال يوليوس قيصر في عام 44 قبل الميلاد، وهناك أيضاً خططت جوليا أغريبينا لقتل زوجها كلوديوس، حتى يصبح ابنها نيرون إمبراطور روما.
يضيف سموت: "سممت أغريبينا كلوديوس بالفطر السام، إلا أنه نجا بطريقة ما، وعلى الرغم من ذلك، تمكنت في النهاية من قتله في نفس الليلة، ويقال أن ذلك كان بواسطة حقنة شرجية من القرع البري السام حصلت عليها من طبيبها الخاص".
الهندسة: قصور بواجهات رخامية وحمامات ساونا
ويُعرف عن اليونانيين والرومان أنهم كانوا يقدسون البحيرات البركانية المعروفة بالكالديرا كمداخل للعالم السفلي إلى الإله هاديس؛ وكذلك لأنها ساعدتهم كذلك كثيراً في التقدم التكنولوجي، مثل اختراع الأسمنت المقاوم للماء، وهو مزيج من الجير والصخور البركانية، والذي ساعدهم في بناء الأحواض المفتوحة والواجهات الرخامية، وكذلك أحواض الأسماك والحمامات الفاخرة في المنازل.
مُلئت الحمامات العامة والخاصة في بايا بالمياه المعدنية الدافئة الموجهة إلى برك السباحة من الينابيع الساخنة تحت الأرض، ولا يزال العديد منها موجوداً حتى اليوم.
ووفقاً للمؤرخ المعماري التركي فكرت يغول، والمتخصص في الفن الروماني، تمكن المهندسون الرومان أيضاً من بناء نظام معقد من الغرف التي توجه الحرارة تحت الأرض إلى منشآت تعمل كحمامات ساونا.
وبالإضافة إلى وظيفتها الترفيهية، استخدمت هذه الحمامات في الطب الروماني لعلاج الأمراض المختلفة بحضور الأطباء مع مرضاهم في تلك الينابيع.
البركان: عندما انزلقت المدينة تحت سطح البحر
خلال عدة قرون، كان الارتفاع والانخفاض التدريجي في سطح الأرض، والناجم عن النشاط الزلزالي وحرارة الماء، سبباً في غرق المدينة في قبرها المائي.
ومنذ عصر الإمبراطورية الرومانية، تسبب الضغط تحت الأرض في ارتفاع الأراضي المحيطة ببايا إلى أعلى وغرقها ثانية باستمرار، مما دفع بقايا المدينة نحو سطح البحر قبل أن تبتلعها الماء ببطء من جديد.
تجدد الاهتمام السياحي بهذه المنطقة في أربعينيات القرن الماضي عندما التقط أحد الطيارين صورة جوية لمبنىً يقع تحت سطح البحر مباشرة. وفي الستينيات، أرسلت السلطات الإيطالية غواصة لاستكشاف أجزاء المدينة الغارقة!
الأطلال: محمية أثرية مفتوحة للغواصين
وفي عام 2002، أُعلن الموقع الأثري كمنطقة محمية وتم فتحه رسمياً للجمهور. ومنذ ذلك الحين، وبفضل التكنولوجيا ثلاثية الأبعاد والتقدم في علم الآثار المغمورة بالمياه، استطعنا لأول مرة معرفة لمحات عن تلك الحقبة من التاريخ.
وتمكن الغواصون والمؤرخون والمصوّرون من تصوير المداخل والبوابات المغطاة بالمياه، بما في ذلك معبد فينوس الشهير (كان في الواقع حمام ساونا)، وكلها اكتشافات أعطت أدلة على حياة المجون في روما القديمة.
ونظراً لتآكل قشرة الأرض، تقبع الأطلال في مياه ضحلة نسبياً، بمتوسط ٦ أمتار، مما يسمح للزوار بمشاهدة بعض هياكلها الغامضة تحت الماء في جولات بالقوارب زجاجية القاع.
وعندما تكون المياه ساكنة، يمكن للزوار رؤية الأعمدة الرومانية، والطرق القديمة والساحات المعبدة، وتماثيل أوكتافيا كلوديا، شقيقة الإمبراطور كلوديوس، وتمثال يوليسيس، الذي تغطيه المحار والطحالب.
وعلى السطح؛ توجد العديد من المنحوتات الغارقة، وهي في الواقع نسخ مقلدة للنسخ الأصلية الموجودة في أعلى التل، في متحف كامبانيا للآثار المستخرجة من الماء.
ومن المثير للاهتمام أن مكتشف بايا هو عالم الآثار أميديو مايوري، الذي اكتشف مدينتي بومبي وهيركولانيوم الهالكتين بسبب كوارث مشابهة.
سلط مايوري الضوء على بقايا المدرجات ذات الأرضيات المزينة بالفسيفساء والحمامات ذات السقوف المقببة.
واليوم أصبح الساحل، الذي كان يعج فيما مضى بالقصور وحمامات الساونا، موقعاً سياحياً به فندق صغير وبعض المطاعم التي تقدم الأسماك والمأكولات البحرية، تصطف جميعاً على الطريق الضيق الذي يؤدي إلى مدينة نابولي.
يتوقع العلماء أن تتسبب زيادة النشاط البركاني في تغيير وجهة هذه الأطلال الغارقة إلى مكان غير محدد، مما قد يحرم السياح من رؤيتها مستقبلاً.
في العام الماضي فقط، حدثت 20 هزة صغيرة، وفي السنوات الأخيرة بدأ الحديث عن توقف عرض الأنقاض الغارقة للجماهير.