شِبام" مدينة يمنية يعود تاريخها إلى القرن الـ16.. بُنيت من الطين والماء وجذوع النخيل في حضرموت
ما الذي يدفع الكاتبة والروائية والناشطة البيئية التي تعيش في تركيا "أتليا بينغام" أن تذهب إلى الجبال لتبني بيتا من الطين؟ ليس هذا فحسب، بل إنها نشرت موقعاً خاصاً عن هذا النمط من البناء سمته: The Mud Home، لتعرض عليه بالتفصيل، كيفية بناء بيت من هيكل خشبي وتراب وماء، وتغليفه بجدران كلسية تحفظه من الذوبان تحت الأمطار، وإنارته بنوافذ زجاجية.
ولماذا أقدمت شارلوت Charlotte التي تعمل في مجال الإعلانات، وشريكتها الطبيبة النفسية كيت Kate، على رهن كل ما لديهما بعد عمل 8 سنوات في إنكلترا، للبحث عن السعادة في كوخ من الطين على بحيرة شبهاه لتتفرغا لدعوة الناس من أنحاء العالم لزيارة بيتهما الصغير، للتدرب على فن البناء بالطين.
وبالفعل استضافتا كاتباً شهيراً من نيويورك، ومهندساً معمارياً من اليابان، ومستثمرين ومصرفيين، وأصبحت لهما شعبية واسعة لدى كل من يبحثون عن طرق بديلة لامتلاك منزلهم الخاص.
تقول شارلوت: "أشعر أننا نعيش الحلم بعيداً عن الضوضاء والتلوث وضغوط الحياة الحديثة، أصبح لدينا منزل من الطين".
ما فعلته الكاتبة أتليا، وكل من شارلوت وكيت هو مثال لتفادي أوقات عصيبة كالتي يمر بها كثير من سكان المدن العربية، التي تصل درجات الحرارة فيها صيفاً إلى 50 درجة مئوية، إذ يجد أحدهم نفسه محاصراً في شقة بالطابق العاشر، في مبنى وسط بغداد مثلاً، بلا كهرباء ولا ماء، وبغداد مجرد مثال واحد لعواصم ومدن وقرى عربية كثيرة في ليبيا واليمن وسوريا والصومال ومصر.
ومؤخراً انتشر الاتجاه للعودة إلى المعمار الطيني عالمياً، في ظل موجة حرارة وتصحر تضرب الأرض، بسبب التغير المناخي الناجم عن المباني العملاقة التي تعتمد على الاسمنت والحديد والزجاج والألياف البلاستيكية.
فبعد أن كانت بيوت الطين مأوى الفقراء من سكان المناطق الحارة، أصبحت الآن منتشرة في أنحاء العالم، حتى أن ولاية من أشد الولايات الأميركية حراً، مثل أريزونا، يُفضل كثير من أثريائها أن يكون بيتهم من الطين.
وحسب صحيفة "العرب" اللندنية، أطلقت "أكاديمية البناء بالطين" في بلدة الخبراء التراثية بمنطقة القصيم، مبادرة لإعادة ثقافة البناء بالطين باعتباره النمط المعماري المناسب للبيئة الصحراوية في السعودية.
وفي مصر أيضاً بدأت تنتشر ظاهرة البناء بالطين والخشب في العديد من المدن الصحراوية، التي تستعين بالخامات البيئية المتوافرة، وتجمع بين قلة التكلفة والجمال، في محاولة لاستعادة فن الأجداد المعماري، لاسيما بعد ارتفاع أسعار الحديد والأسمنت والطوب، لعل أبرزها بناء سلسلة وحدات سكنية لشباب الخريجين قرب مدينة موط بواحة الداخلة، على بعد نحو 900 كلم جنوب غربي القاهرة.
فالبناء الطيني إذاً، أو العمارة الخضراء، يعد حلاً لتجاوز التكاليف الباهظة للبناء الحديث، التي يعجز عن تحملها نحو 5 مليارات إنسان في العالم، وفقاً لدراسة نشرها موقع "أميركان ستاندارد" كشفت أن ثلثي سكان الأرض لا يستطيعون أن يبنوا لأنفسهم غرفة واحدة طبقاً لمتطلبات البناء العصري، ناهيك عن بيت كامل. كما أنه لا يكلف كثيراً، ويتم إنجازه بسرعة ودون صعوبات.
تقول أتليا بينغام إن بيتها الذي بنته بيدها فوق أحد الجبال، لم يستغرق عاما واحداً.
بيوت الطين في السعودية تعيد للحياة بساطتها
ساعدت بيوت الطين القدماء على التكيّف مع درجات الحرارة المرتفعة، فقبل أن يعرف العالم الكهرباء وأجهزة التبريد، كانت هذه البيوت مثالاً لتسخير الهندسة المعمارية لمواءمة الظروف المناخية عند العرب الأوائل، فقد حموا أنفسهم من الأجواء الصحرواية الساخنة، ببناء بيوت تُعمّر عدة سنوات، وتمتاز بالقوه والمتانة.
مثال على ذلك مدينة شبام الواقعة في محافظة حضرموت في شرق اليمن، التي يعود تاريخها إلى القرن السادس عشر، وسُميت "مانهاتن الصحراء" لمبانيها الطينية الشاهقة المنبثقة من الصخور.
أضافتها اليونسكو في يوليو/تموز 2015 إلى قائمة مواقع التراث العالمي المعرض للخطر، وتُعد أحد أقدم النماذج التي تمثل إبداعاً إنسانياً عربياً نابعاً من الفطرة، استطاع أن يُحول قبضة من طين الأرض إلى منازل تحمل بين جدرانها قيم الحياة البسيطة والجميلة.
نموذج لبناء طيني للمعماري العالمي حسن فتحي
فهذا النوع من المباني يعتمد في تصميمه على حجب أشعة الشمس الحارقة من الخارج، وتوفير فضاءات داخلية باردة وغنية بالظلال في الداخل، باستخدام مواد أولية بسيطه تتوافر في البيئة، هي عبارة عن خليط من تراب وتبن وماء، يضاف إليه بعض الحصى لتقويته، ثم يقطع إلى قوالب خشبية تترك لتجف ثم تستخدم في البناء، أما التسقيف فيكون عادة بجذوع النخيل أو الأشجار، ثم يُغطى كل هذا بالجير الأبيض.
الجدارن الطينية السميكة تعمل كعازل طبيعي للأجواء الخارجية، فتوفر للساكن الحماية من درجات الحرارة المرتفعة، وبغروب الشمس تُصبح السُقوف الخشبية الخفيفة، شُرفات تزيد من سرعة الهواء البارد، الذي يهبط إلى أدنى مستوياته ليلاً، ليملأ صحن البيت أو الفناء الداخلي، ويحوله إلى أهم مصادر التكييف الطبيعي، حيث يوزع الهواء إلى الحجرات ليلطف حرارتها، ويظل محتفظا بالهواء البارد بين جدرانه طوال فترة النهار كأنه خزان للترطيب، فيُعطي للبيت مناخاً طبيعياً لطيفاً.
هي بيوت عصرية جميلة إذاً، وصغيرة ورفيقة بالبيئة، ولم تعد بدائية أو فقيرة، فبيت "الهوبيت" الذي صورته لنا سلسلة روايات ملك الخواتم the lord of the rings الخيالية مثلاً، مصنوع من مواد طبيعية من غابة قريبة، واستغرق بناؤه أربعة أشهر فقط، ومثله كثير من البيوت الطينية والخشبية الصغيرة التي تنتشر في الغابات الأوروبية اليوم، يدخلها ضوء الشمس من كل زاوية، ولا تبخل على سكانها من ناحية التصميم والديكور والتجهيزات.
فهل سنشهد توجها عربيا واسعا لاستعادة المعمار الطيني وجمالياته ومكافحى الاحتباس الحراري في الوقت نفسه؟