من منا لا يتمنى أن يكون أبا أو أما لأولئك الملائكة الذين يمشون على الأرض؟ ولكن، هل هذا بالأمر الهين البسيط؟ حتما لا.
إن تربية الأطفال ليست بالأمر السهل على الإطلاق، وتطبيق الوجه السليم الصحيح منها أكثر صعوبة وتعقيدًا، فأنت لن تكون "مربياً فاضلاً"، ولا "أباً مثالياً" لمجرد قراءتك لكتب التربية الصحيحة، أو من خلال سماعك لدروس من خبراء وأخصائي سيكولوجية الطفل -إن كانا مفيدين للمعرفة والاطلاع- فكل هذا وذاك ما هو إلا مُجرّد حديث، أو حبراً على ورق، إن لم يلق تطبيقا فعليًا وواقعيًا في حياتنا، وأما تطبيقها فيحتاج منا كثيرا من الصبر والمثابرة، فالكثير منا يملّ ويتوقف عن المحاولة بعد أيام قليلة في غياب أية نتيجة ملحوظة، ناسيًا أو متناسيًا بأنه أمر طبيعي وعادي، فثمار التربية الصحيحة لن تكون ناضجة إلَّا بعد مرور زمن طويل من التدريب والصبر والتكرار تلو التكرار.
إن حديثنا هذا عن تربية أبنائنا هو أمر جلل ومهم، فأولادنا هم "فلذات أكبادنا" و "أمانة أعناقنا" التي سيسألنا عنها الله يوم الحساب العظيم. لهذا وجب علينا أن نناقش الأمر ونفصله بكل وضوح وموضوعية، متطرقين إلى مدمرات العلاقة بيننا وبين أبنائنا بصوت مرتفع لا حياد فيه ولا خجل، مبتعدين كل الابتعاد عن النصائح المتحذلقة التي تقدم وعوداً زائفة، أو الأوامر والتعليمات المنحصرة في "أفعل ولا تفعل"، والتي كلما تراكمت واجتمعت حوّلت علاقة الوالدين بأبنائهم إلى حربٍ وجحيمٍ لا يُطاق، وزادت من المسافة بينهما من بضعة أشبار إلى آلاف الأميال.
النقد المستمر:
من منا ينكر دور النقد "البناء" الحقيقي في تقدم شخصية الإنسان ونجاحه؟ لكن كثيرا من النقد لا يأتي ثماره ناضجة وإن كان بناء؛ فالنقد لا يقف إلَّا على إظهار العيوب، ونقاط الضعف، والسقطات والهفوات- مهما تغير لونه وشكله وهيأته- وهذا ما تكرهه النفس البشرية المجبولة على حب المدح والثناء، وإخفاء العيوب وانكارها، وكره النقد "عامة" بناء كان أو غير بناء؛ فتلك نفس محملة بكثير من العقد والخبايا التي لا يعلمها إلا الله عز وجل، ونفس الطفل أو المراهق مجبولة على ذلك أيضا، فهو يرى في النقد عدم تقدير لمجهوده؛ وانتقاص من قدراته، وهنا يكمن فَنّ إهداء العيوب لأبنائنا، بالنصيحة لا بالنقد، والفرق بين النقد والنصح كبير جداً على غير ما يظن الكثير ممن اختلط عليهم الأمر، فالنقد غالباً ما يكون "هداما"، بينما تكون النصيحة دائما "بناءة وموضوعية"، لكن الأمر لا يقف عند حد النصيحة فقط لا غير! فالنصيحة أيضا تحتاج إلى براعة وذكاء في توصيلها، وغلاف جميل في اختيار كلماتها، بحيث يشعر الطفل أو المراهق بمقدار حبنا له، وسعينا الدؤوب لتحقيق مصلحته، بلفت نظره إلى "خطأ بسيط وقع فيه"وليس"هدم تام لمجمل أعماله وتصرفاته"، وأن نختار لذلك الزمان والمكان المناسبان له، فلا تقال على الملأ فتسبب الإحراج للطفل أمام الناس، ولا تكون جرعة قوية فيصاب بالحزن والخذلان، وهذا ما نُحبّذ أن يتبعه الآباء والأمهات في نقدهم لأبنائهم.
السخرية والتحقير:
لو كان يعلم الآباء كم في السخرية والتحقير من أثر سلبي مدمر على شخصية أطفالهم وأبنائهم لما اقتربوا منهما! مهما وصل الغضب في نفوسهم تجاه أبنائهم، فهما أسرع وأسهل وأهم وصفة سحرية سريعة تُمكننا من تخريج جيل من ذليلي النفس ومحبطي العزيمة، لأنها وبكل بساطة وسهولة، تميت وتقتل الإعتزاز بالنفس والطموح والتقدير الذاتي، الذي لا يكون الإنسان إنساناً سويا طبيعيا نافعا لنفسه ومجتمعه فيما بعد دونهم، وهي الطريقة المباشرة السريعة لتخريج متمردين رافضين مسيئين، لأنفسهم ومجتمعاتهم أيضاً.
تذكّر جيدا أيها الأب وأيتها الأم: بأن أطفالنا وأبنائنا ليسوا موضعا وهدفا لمزاحنا، وأن الفرق كبير وواسع بين الفكاهة والاستهزاء، فجميل أن يتمتع الآباء بقليل من الفكاهة والمزاح "وهو مرغوب ومطلوب لجذب الولد إلى والديه" وتقريب المسافات بينهما، لكن كثيره لا يفعل ذات تلك النتيجة، بل على العكس تماما.
قد تبدو السخرية والتحقير بادئ ذي بدء لا تأثير لها ولا جدوى، إذ أن الأطفال قليلا ما يستجيبوا لهذا النوع من الحديث – بناء على أقوال أطباء النفس- بل قد يقابلونه بالضحك والاستهزاء! لكن تلك الآثار الوخيمة لن تظهر وتتفاقم في نفسية الطفل إلا في فترة مراهقته، في الوقت الذي يبدأ المراهق بتشكيل صورة كاملة لشخصيته، مستحضراً لذلك كل الصور القديمة التي أرساها له أحد والديه أو كلاهما، فإما أن تكون "بنيّة جيّدة متماسكة كاملة"، أو أن تكون "هشة ضعيفة مهزلة منقوصة".
التسلط والتحكّم:
أترك لطفلك حرية الاختيار ولا تختار له.
إن فرض وإملاء التعليمات والأوامر على الأبناء بصورة مستمرة رتيبة يؤخر من بناء شخصيتهم القوية الجريئة، كما يؤخر في تحملهم مسؤولية تصرفاتهم واتخاذ قراراتهم السليمة. إن خوف الآباء على ابنائهم يدفع بهم إلى التحكّم فيهم خوفاً عليهم من الوقوع في الخطأ والزلل، ولهذا يميلون إلى فرض وإملاء الأوامر والتعليمات عليهم، وإرغامهم على تنفيذها وتطبيقها كما هي بلا مناقشة ولا جدال، لكن "افعل كذا" و "لا تفعل كذا"، ما هي إلا قيود تقيد إبداع الطفل وحريته، وتحوله إلى آلة جامدة يطيع ولا يفكر، يقلد ولا يبدع، يخاف ولا يغامر، لذلك يُفضّل تعليمه كيف يقرر وتعويده على تحمّل مسؤولية قراراته.
إن سأل كل منا – الآباء- نفسه سؤالًا منطقيا ألا وهو الهدف والغرض الذي نرتجيه من تربية أطفالنا؟ فحتما ستكون إجابات كلا منا متشابهة، متقاربة، لكن بقوالب مختلفة متغايرة، ألا وهو التنشئة الصحيحة السليمة لهم، ليكونوا قادرين على مواجهة هذه الدنيا عندما يخرجوا للعيش فيها بمفردهم بلا نصير ولا معين، متحملين تبعات تصرفاتهم وأعمالهم بكل مسؤولية، وحتى يتحقق هذا لا بد أن بتربيتهم – منذ طفولتهم – على تحمل المسؤولية، واتخاذ القرارات بحرية -لكل فئة عمرية وما تناسبه من تلك المسؤولية- وهذا لن يتحقق إلا بممارسته والتدرّب عليه، مع تقبل الخطأ منهم على اعتبار أنه شيء طبيعي جداً، ومتوقع أيضاً، فإن كان الخطأ لزيم الكبار! فكيف بنا نستهجنه ونستغربه على الصغار؟
المقارنة والتعميم:
يلجأ الأهل إلى المقارنة بين أطفالهم وغيرهم من قرائنهم كوسيلة عتاب وتأنيب، اعتقادا منهم بأنها وسيلة ناجزة لتحفيزهم على تطوير شخصيتهم وقدراتهم، إلَّا أن الحقيقة؛ أكثر ما يولّد البغض والكراهية والحسد في نفس الطفل هو مقارنته بغيره، لا سيما لذلك الآخر الذي قُرن به، إضافة إلى أنها حتما ستولد العناد في شخصيته كردّة فعل لتلك المقارنة، في محاولة منه إلى إثبات تميزه ووجوده بتمرّد وعناد شديدين، وهذا يظهر جليا في مرة مرحلة المراهقة عنها في الطفولة -الأطفال بحدّة أقل-.
تُعتبر المقارنة من أكثر الأخطاء الفادحة التي يلجأ إليها بعض الآباء إذ يترتب عنها إلى جانب ما سبق ذكره، تعويد الطفل على مقارنة نفسه بالآخرين وهو أمر غير صحيح ولا مقبول، لأن الإنسان بطبعه، إن قارن نفسه بغيره جلب المتاعب والمشاكل له، فإن كان غيره أفضل منه أو بمعنى آخر "متفوق عليه" مالت نفسه إلى حسد ذلك الآخر، أو انتقاص قيمة نفسه وإهانتها، أما إن كان الآخر أقل منه، فيجد في نفسه امتيازاً عليه، وتميل نفسه للغرور، والواقع أن الأمر لا يؤخذ هكذا بعمومه جزافا، حيث أن المقارنة على هذا النحو خاطئة مجحفة، فليس هناك الأفضل والأحسن بين الناس! ولا الأسوأ والأقل أيضا، فالضعيف في أمر قد يكون الأفضل في غيره، والأحسن في شأن ما حتما هو الأضعف في شأن آخر، ولهذا ينصح أطباء النفس والمختصين بسيكولوجية الطفل بأن يقارن الطفل بنفسه لا بغيره، بمعنى، أن تلفت نظره إلى أفضل أحواله وإنجازاته ومقارنتها بحالته وإنجازاته الحالية -إن كانت أسوأ وأقل درجة- بهذا يتنبّه الطفل للأمر ويحاول استرجاع ما فاته من تقدم وتميز، لأن عقله سيذكره مباشرة بذلك ويدفعه للأمام، لاقتناعه بأن بوسعه فعل ذلك مرة أخرى، فمن قام بذلك النجاح سابقا قادرا على تكراره وحصد نتائجه مرة أخرى.
أما عن التعميم وأثره السلبي في شخصية الطفل فأقول: "إذا كذب الطفل في موقف أو حدث ما، فأبحث أيها الأب وأيتها الأم عن السبب الذي دفع به إلى ذلك الكذب قبل أن تلصق به صفة "الكاذب" وتنعته بها وكأنها الوصف اللائق والمناسب له، فالطفل لا يعرف الكذب أبدا، ما لم يعتاد على سماعه ممن حوله! أو الخوف من العقاب. والمقصر في إنجاز واجباته، هو ليس بالضرورة "مهملا" أو "بليدا" إنما مقصر يحتاج إلى تشجيع وتحفيز ليصبح أفضل وأكثر اهتماما بشؤونه".
إذن فالخطأ الذي يُرتَكب نادراً لا يجب أن يتم إلصاقه بالشخص على أنها صفة حقيقة فيه تُحدّد شخصيته، فليس فينا من تخلو شخصيته من كل الصفات السيئة ولو بنسب ضئيلة، فنحن بشر لا ملائكة، أما العمل على تقليص هذه الصفات وإلغائها في نفس أطفالنا، فهذا أمر واجب وضروري يقع على عاتقنا كآباء وأمهات -وليس على الطفل نفسه- بالبحث والتنقيب عن أسبابه التي دفعت بالطفل إلى اللجوء لتلك الممارسات الخاطئة والسيئة، والأهم من هذا هو التحلي بالصبر حتى يتم حذفها تماما من سلوكياته، فالأمر يحتاج إلى بعض الوقت وليس بين الليلة وضحاها.
التوبيخ والتأنيب:
إن التوبيخ والتأنيب المتسمرين للطفل ما هما إلَّا دعوى لتحمل المسؤولية بعد فوات أوانها ووقتها، فما قيمة الدعوى لأمر ما بعد مضي زمانه وأوانه؟ لهذا من المستحب التقليل منه قدر المستطاع واستبداله بالتوعية المسبقة لكل ما فيه خطأ أو ضرر، قبل الوقوع فيه، أما وأن وقع في الإبن وقد حذر مسبقا منه! فلا بأس من توبيخه وتأنيبه بكلمات موزونة محسوبة، فلا نغال فيها فتفقد معانيها، ولا المستمرّ والمتكرر طوال الوقت والتذكير به كلما سنحت الفرصة لذلك.
الصُراخ والصوت العالي:
الصراخ والصوت العالي هما القاتل الأول والأخير للحوار، فالنقاش والصراخ ضدان لا يجتمعان أبدا، ونقيضان لا ينسجمان مطلقا، فإذا رغبت ببناء جسور التواصل والحوار مع أبنائك فعليك البعد كل البعد عن التحدث إليهم بصوت مرتفع، فالتواصل بين طرفين لا يستمرّ إن كان أحدهما صارخا في وجه الآخر، فكيف إن كان الحال أسوأ وأشد بلاء بأن كلاهما يفعل ذلك وليس أحدهما؟ ولهذا لا بد أن يقتنع الآباء بأن أصواتهم لن تدفع بأطفالهم إلى استيعاب ما يريدونه أسرع وأسهل! والهدوء لن يقلل من قيمة أفكارهم وجدواها!
إن اختلاف الأباء مع ابنائهم لا يعني بالضرورة أن يكون الأباء على حق دائما وأطفالهم على غيره، ولا يعني العكس بالضرورة أيضا، فقد يكون كلاهما على حق أو كلاهما على باطل، ولهذا لزام على الأباء الإصغاء لأبنائهم، وإعطائها الحق والوقت الكافيين للتعبير عن أفعالهم وأفكارهم، وتقبلها -وإن كانت لا تروق لهم- ما لم تكن حراما أو مما يغضب الله عز وجل، بدون اللجوء إلى الصراخ والصوت العالي المرتفع.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.