أوقفوا الاحتراف في لعبة كرة القدم.. لا نريد لاعبين خارج حدود بلادهم.. بل أذهب لما هو أبعد من ذلك عندما أقول إننا لا نريد لاعبين خارج حدود إقليمهم أو مدينتهم.
تبدو الفكرة غريبة جدًّا، ولكن تعالوا نترك أفكارنا ومعتقداتنا ومسلماتنا المسبقة جانباً لنرى ما هو أبعد من ذلك وننظر للأمور من زاوية جديدة.. بل عدة زوايا جديدة.. ولنعد أولاً إلى البداية..
كيف نشأت كرة القدم؟
عندما بدأ الإنجليز في ممارسة لعبة كرة كانت تلعب بصورة مغايرة لما هي عليه الآن. فكانت عبارة عن منافسة بين قريتين أو بلدتين معهما ما يشبه الكرة، ويحاول سكان كلتا القريتين الوصول بهذه الكرة إلى مكان معين بالقرية المنافسة (كساحة الكنيسة مثلاً) وكان يشارك في المنافسة جميع سكان القرية تقريباً وسط تشجيع منقطع النظير.
بعد ذلك بدأت اللعبة تتطور تدريجيًّا لتتحول إلى ما يعرف برياضة الرجبي، ومنها إلى لعبة كرة القدم في صورتها الحالية، كرغبة في تجنب العنف الزائد الموجود برياضة الرجبي.
وهنا نأخذ عدة ملاحظات:
أولاً: أن هدف ممارسة أى لعبة هو الترفيه. إذ تؤكد الدراسات النفسية والسلوكية أن اللعب ظاهرة منتشرة بوضوح في عالم الكائنات الحية، وبخاصة في عالم الإنسان. كما أن اللعب لا يقتصر على مرحلة الطفولة فقط، ولكنه يلازم جميع الفئات وفي جميع الأعمار، رجالاً ونساءً.. أطفالاً وشيوخاً.. الوقور منهم والمرح.
كما ترى مدرسة التحليل عند فرويد أن اللعب هو تعبير رمزي عن مشاعر إحباط أو متاعب لا شعورية قد تصاحب الإنسان.
ثانياً: ملاحظة اشتراك معظم أو كل سكان القريتين المتنافستين في اللعب، هذا يساعد على زيادة الروابط الاجتماعية بين سكان القرية الواحدة ونشر روح التعاون والتضامن بينهم. كما تساعد على اكتشاف المواهب والمهارات الفردية والجماعية مما ينعكس إيجاباً على الحياة المهنية والاقتصادية.
ثالثاً: لم يكن هناك احتراف.. أى لم يكن هناك استعانة بأفراد من قرى أخرى لمساعدة قرية ما على ربح المنافسة.
كرة القدم كلعبة تجمع بين الممارسة بما تحويه من قيم التنافس والتعاون والتضامن والمهارات الفردية والجماعية، وبين ما تحققه من إثارة وتشويق في العرض. فهدف اللاعب هو الفوز وهدف المشاهد هو المتعة والتشويق والترفيه.
كلمة السر: المال
أما في عصر العولمة وتحكم رأس المال، فهناك عنصر ثالث ظهر على الساحة وبقوة.. ألا وهو مالك الفريق الذى أصبح هدفه هو المال. فمالك الفريق حول اللعبة من ترفيه ومتعة إلى استثمار مادي بحت، فأصبح يستعين بلاعبين من مناطق ودول أخرى بغية تحقيق البطولات والحصول على المكاسب المادية.
ومع الوقت تحول الهدف من شراء اللاعبين إلى هدف تسويقي، حيث يمكن استغلال شهرة اللاعب ونجوميته ومهاراته استغلالاً إعلاميًّا وإعلانيًّا. وتحول هدف اللاعب نفسه من الفوز والمتعة إلى المال والربح المادى.
وهذه النقطة بالذات هي الهدف من الاحتراف. فليس الهدف ما يقال عن تطوير اللعبة ورفع مستوى المنتخبات الوطنية، ولكن الهدف الحقيقي هو المال والمال وحده. تريدون الدليل؟
لمن ينتمي لاعب كرة القدم؟!
لاعب كرة القدم ينتمي إلى عدة جهات: دينه، ووطنه، وثقافته، والمجتمع الرياضي، وناديه، ومنتخب بلاده. بالطبع هذه مسلمات منطقية لدى كل فرد. والمفترض أن هناك ترتيباً منطقيًّا لهذه الانتماءات من ناحية الأولوية. فاللاعب إذا تعارض معه انتماءان في نفس الوقت فهو يقدم أحدهما على الآخر طبقاً لمبدئه الشخصي. المشكلة تظهر هنا عندما يكون هذا المبدأ غير أخلاقي أو غير منطقي.
المال من خلال مالك أو رئيس النادي أصبح يمثل قوة إغراء أساسية في عالم الكرة -والمعروف طبعاً عن المال أنه يفسد النفوس- هذا أثر بالسلب على انتماءات اللاعبين وحوّل مبدأهم الأساسي إلى المال. فاللاعب الآن يختار الفريق الذي سيلعب له طبقاً لقيمة العرض المالي المقدم والإغراءات المادية المصاحبة له. وأصبح المال هو المحرك الأساسي لعملية الاحتراف وليس مدى استفادة اللاعب كرويًّا من الفريق المنقول إليه.
ولنضرب هنا أمثلة:
لاعب شمال أفريقيا المنتقل إلى أحد الدوريات الخليجية، لا يستفيد من هذا الانتقال كرويًّا ولا يضيف لخبرته الكروية شيئاً يذكر. فمع احترامي الشديد لدوريات الخليج إلا أنها لا تحوي تلك المنافسة أو النواحي الفنية ذات المستوى العالي مقارنة بدول شمال أفريقيا رغم العدد الكبير من اللاعبين المحترفين. فاللاعب المصري المحترف بالإمارات أو اللاعب التونسي المحترف بقطر لا يُعتبر احترافه هذا إلا فرصة للحصول على مبلغ محترم من المال يفيده في حياته الاقتصادية والمهنية.
مثال آخر يظهر بوضوح فيما يعرف بظاهرة التجنيس. حيث يتم إعطاء لاعب ما جنسية الدولة التي يلعب في أحد أنديتها لأحد سببين، الأول يظهر بوضوح في الدول الأوروبية، فيتم إعطاء اللاعبين وخصوصاً لاعبي دول أميركا الجنوبية الجنسية، وذلك لتقليل عدد اللاعبين الأجانب في الفريق، حيث تشترط بعض الدول الأوروبية على أنديتها مشاركة عدد معين من اللاعبين من خارج دول الاتحاد الأوروبي.
والثاني يظهر في بعض دول الخليج ودول أوروبا، كذلك حيث يتم تجنيس لاعب أجنبي ما حتى يتمكن من تمثيل منتخب هذه الدولة، نظراً لنقص اللاعبين ذوي المهارات العالية فيها.
هنا تحولت الجنسية والتي تعتبر أهم انعكاس للانتماء إلى أداة تجارية لإدرار المزيد من الأموال على اللاعب والفريق، ولجلب بطولات وإنجازات غير حقيقية للمنتخبات، لأن هذا الإنجاز تم بأقدام لاعبين ليسوا جزءاً حقيقيًّا من الدولة ولا ينتمون إلى أرضها وثقافتها فعليًّا.
وهنا نتساءل، بعد أن ينهي اللاعب المجنس مسيرته الكروية. هل سيعود إلى بلده الأصلية ذات الانتماء الفطري فيعمل بها ويستثمر فيها ويطورها، أم سيفضل بلده الجديد والذي غالباً ما تكون الحياة فيه أكثر رفاهية والدخل أعلى بكثير فيدمر فطرته ويستبدلها بالمادة البحتة فينشأ جيل فاقد للهوية؟!
لغة المال..
في المجال الاقتصادي، يعرف معظم الناس أن أحد مقاييس تقدم وتتطور الدول يكمن في كفاءة عملية التصدير. فكلما استطاعت دولة ما تصدير منتجاتها بكميات أكبر، كلما دل ذلك على مدى كبر حجم إنتاجها الذى يسد احتياجات الدولة الداخلية ويسمح بوجود فائض للتصدير. كذلك فهناك في الاقتصاد تلك القاعدة الشهيرة والبسيطة، أن الدول المتقدمة تقوم بتصدير منتجاتها في صورة مصنعة، بينما الدول النامية تصدر منتجاتها في هيئتها الخام. وبالطبع هذه هي الحالة الوحيدة التي يكون فيها التصدير -ولو بكميات كبيرة- عبئاً على الاقتصاد وليس دافعاً له، حيث إن قيمة المواد الخام أقل بكثير من قيمة المواد المصنعة.
وطالما أن كرة القدم تحولت إلى سلعة تباع وتُشترى، فإن ما ذكرناه سابقاً ينطبق عليها أيضاً. فجميع الدول الأقل تقدماً كرويًّا -من ناحية الدوري المحلي- تقوم بعمليات تصدير كبيرة للاعبيها في صورة خام، أي بمجرد ظهور الموهبة على اللاعب وفي سن صغيرة. بالتالي يكون المقابل المادي من هذه العملية قليلاً جدًّا. بعدها يقوم النادي الأوروبي الذى اشترى هذا اللاعب بصقل مواهبه وإتمام عملية نضجه كرويًّا حتى يحرز له الألقاب، وبالتالي الأموال من جهة وكذلك يحرز له عشرات الملايين من الدولارات عند بيعه لنادٍ أوروبي آخر من جهة أخرى.
أي أن أوروبا تقوم باستيراد المواد الخام وتصنيعها وإعادة بيعها بقيمة مضاعفة عشرات المرات مما أنفقته في عملية الاستيراد.
لهذا نرى الدوريين البرازيلي والأرجنتيني أقل كثيراً من مستوى الدوريات الأوروبية الأخرى، رغم أن أكبر عدد من المحترفين في العالم ينتميان للبرازيل والأرجنتين. كذلك جميع دول جنوب الصحراء بالقارة الأفريقية تحتوي على أكاديميات كروية لأندية أوروبية هدفها الرئيسي البحث عن المواهب الكروية الناشئة وتصديرها لأوروبا.
حسناً، نحن نعلم أن السبب الرئيسي وراء ذلك يرجع إلى الفقر. فاللاعب فقير، ومجرد إمكانية انتقاله للعب في أحد الفرق الأوروبية يعني بالنسبة له حلم الثراء والراحة المادية. والفريق المحلي الذي يلعب له هذا اللاعب فقير أيضاً، ومئات الألوف من الدولارات التي يتلقاها في مقابل التنازل عن لاعبه تعتبر ثروة كبيرة تعينه على تغطية نفقاته.
العيب هنا يأتي على الحكومات وليس على الأندية أو اللاعبين، فعندما ننظر إلى حقوق البث التلفزيوني للدوريات الأوروبية تصعقنا قيمة المبالغ المدفوعة وتشعرنا في نفس الوقت بالإحباط الشديد. فالدوري الإنجليزي مثلاً بلغت قيمة حقوق بيع البث التلفزيوني المدفوعة حوالى ثلاثة مليارات و538 مليون يورو لمدة ثلاثة أعوام فقط. أي مليار و179 مليون يورو سنويًّا يتم توزيعها على فرق الدوري العشرين. والدوري الإيطالي بلغت حوالى 911 مليون يورو سنويًّا. حتى أن الدوري التركي بلغت قيمة حقوق بثه حوالى 260 مليون يورو سنويًّا. تخيل معي كمية الأموال الداخلة إلى خزينة هذه الأندية، خصوصاً إذا ما أضفنا لها قيمة حقوق الرعاية ومبيعات قمصان اللاعبين.
هذه الأرقام تدل على أن الوسيلة الأفضل للدول النامية هي تنمية دورياتها المحلية وعدم التفريط في لاعبيها مبكراً لجذب المحطات الفضائية والشركات الإقليمية والعالمية لضخ أموالها في هذه الدوريات، مما يمكِّن الأندية من الحصول على مبالغ أكبر بكثير مما كانت تجنيه سابقاً. مما ينعكس بالإيجاب على اقتصاد هذه الدول.
على حكومات الدول النامية التي تسعى جديًّا إلى الارتقاء اقتصاديًّا أن تضع نصب أعينها أن كرة القدم من الممكن أن تكون إحدى الركائز التي لا ينبغي إهمالها للنمو الاقتصادي. وأن كل ما تحتاج إليه هو خبير اقتصادي محنك وخطة واضحة المعالم على أسس علمية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.