تتباين الأسباب التي تدفع بعض العائلات السورية للنزوح إلى صعيد مصر، إلا أن ارتفاع تكلفة المعيشة وصخب الحياة في العاصمة القاهرة يدفع الكثيرين للتوجه إلى الجنوب الذي ينعم بالهدوء، ويتميز بعدم التشديد على إقامات السوريين.
ويلاقي الباحث صعوبةً كبيرةً في العثور على السوريين في الصعيد أو التحدث إليهم، إذ يبرعون في الانخراط وسط المجتمع الصعيدي، رافضين الظهور أو لفت الانتباه، ومفضلين العيش بعيداً عن الإثارة خوفاً من عدم تجديد إقاماتهم أو تعرضهم لمضايقات من قوى الأمن.
تفتقد بيوت الهاربين من الصراع الدامي في دمشق وما حولها للأثاث المنزلي، بل إن الكثير منهم يرتدي طبقات متعددة من الملابس الصيفية لاتقاء شر البرد، ناهيك عن مشاهد مؤلمة تعكس حالهم المؤسف.
ولعل أهم ما يميز تلك العائلات السورية عزة النفس، وعدم التطفل لطلب المساعدة من الآخرين بحسب ما رصد مراسل "عربي بوست" في المنطقة.
تشديدات أمنية ومعاملة صعبة
أحمد برغل شابٌ سوري ينحدر من بلدة كفر نبل التابعة لمحافظة إدلب الشمالية، قدم إلى مصر منذ 3 سنوات، وهو يمثل فئةً كبيرةً ممن استطاعوا توفير بعض المال لإنشاء عملهم الخاص في البلاد الجديدة التي لجأوا إليها.
وعن استقراره في الصعيد دوناً عن باقي أقاليم مصر، قال برغل لـ "عربي بوست" إن ذلك يرجع إلى عمله كمصمم فساتين زفاف وسهرة، فزار غالبية المدن المصرية من الشمال للجنوب، "لكني وجدت في الصعيد مزايا عدة لا تتوافر في العاصمة، أهمها عدم وجود تشديد أمني على إقامات السورين مثل القاهرة، والتي بدأت بعد أحداث رابعة نتيجة اتهام بعض السوريين في المشاركة بالاعتصام".
كما أشار إلى المعاملة السيئة من بعض سكان العاصمة للاجئين، "على عكس أهالي صعيد مصر الذين احتضنوا العائلات السورية كأنهم أصحاب البلد".
برغل اختار إحدى محافظات الصعيد التي تتميز بحركة تجارية سريعة، ما ساعده في انتشار عمله بصورة أسرع، إلى جانب انخفاض أسعار إيجارات المحال التجارية في الصعيد مقارنةً بالعاصمة.
يذكر برغل بأسى كيف ترك عائلته المكونة من والده ووالدته وزوجته وأبنائه الذين مازالوا عالقين بسوريا ليؤسس لهم حياة أفضل، لكنه فوجئ لاحقاً بشرط تأمين أكثر من 10 آلاف دولار لإصدار إقامات لهم.
نصائح بوضع أفضل في الصعيد
أما أم محجوب، فتعتبر عينةً من عائلاتٍ فقدت كل ما تملكه في سوريا، فتحكي عن لحاقها بابنتها في مصر بعد تهدّم منزلها إثر سقوط صاروخ عليه.
استقرت في البداية بشقة في حي "6 أكتوبر" مع زوجها المسن المريض وابنتها الصغرى، التي لم تتجاوز حينها الـ 15، إلى جانب 3 من أبنائها الذكور وزوجاتهم وأطفالهم، ليبلغ عددهم جميعاً 21 شخصاً.
تقول أم محجوب إنه بعد مرور 6 أشهر من الإقامة في القاهرة، اقترح عليهم أحد من كانوا يقدمون لهم المساعدات النزوح إلى الصعيد، حيث تقل إيجارات العقارات فيمكن استئجار منزل لكل عائلة مع وعود بالاستمرار بتقديم المساعدات اللازمة، ما دفعهم للذهاب إلى الصعيد الذي استقبلهم بحفاوة في بادئ الأمر، لكن تفاجؤوا أيضاً بارتفاع أسعار إيجارات العقارات وانقطاع المساعدات.
تذكر أم محجوب كيف باءت محاولاتها للبحث عن مقدم النصيحة ووعوده بالمساعدة بالفشل، ومع قلة الموارد المادية وانعدام سبل الرجوع إلى العاصمة قررت العائلة الاستقرار في الصعيد والتعايش مع الأوضاع الراهنة.
يعمل الابن الأكبر محجوب كسائق أجرة بعدما كان متخصصاً في المخبوزات والعجائن والفطائر، فيما يعمل ابنها الأوسط مالك في مطحنة للبن والقهوة بعدما كان نجاراً متخصصاً بالمطابخ الأميركية. يعيل الاثنان جميع أفراد العائلة بمواجهة تحديات ارتفاع إيجار المسكن والحاجة إلى الأدوية والغذاء والملبس للأطفال.
العادات والتقاليد
من جانبه، يحكي أحمد خليل الذي يعول أسرةً مكونةً من زوجةٍ و4 أطفال، عن ظروف خروجه مع عائلته من دير الزور المشتعلة، تاركاً وراءه عمله في صناعة بطاريات السيارات ومنزله والذكريات.
يوضح خليل بأسى كيف استهدفهم بعض جنود الجيش النظامي، ما أدى إلى وفاة عمته رمياً بالرصاص.
وبعد وصولهم إلى مصر لم يستطيعوا الانسجام والانخراط مع أهل القاهرة، فانتقلوا إلى الصعيد حيث تتشابه عاداتهم وتقاليدهم، موضحاً أن من الأسباب الأخرى انخفاض مستوى المعيشة نسبياً عن القاهرة، فمن وجهة نظره تضم القاهرة السوريين الأثرياء.
وخلال حديثه مع "عربي بوست"، أتاح خليل لنا الفرصة للحوار مع والده الحاج خليل جمعة وبقية العائلة.
ففي منزل الحاج خليل، تجد جميع أفراد العائلة مجتمعين ليس فقط الأبناء والأحفاد، بل أخوته وأولاد أخوته وأحفادهم. يقطنون جميعاً في نفس الشارع، لكن يجتمعون كل مساء عند كبير العائلة الحاج خليل في منزله البسيط، والذي يفتقد للأثاث المنزلي كسائر منازل اللاجئين.
يذكر الحاج خليل لـ "هافنغتون بوست عربي" الأسباب التي دفعته للقدوم مع عائلته البالغ عددها 23 فرداً إلى مصر، "والتي فتحت بيوتها للاجئين بخلاف بعض الدول الأخرى التي أنشات مخيمات. عادات وتقاليد الصعيد شكلت الدافع الأساسي لنزوحنا، فنحن نشعر أن المجتمع الصعيدي تماماً كالمجتمع الديري في عاداته وتقاليده لناحية التعامل مع السيدات والجيران، ناهيك عن كرم الضيافة واحترام الكبير وغيرها من عادات تميز بها الصعيد".
يقول خليل الذي كان يملك مصنعاً لتصنيع بطاريات السيارات بدير الزور، إن وضعهم المادي أثناء حكم الرئيس السابق محمد مرسي كان "جيداً نتيجة تلقينا المساعدات، أما الآن فالشعور بالأمان هو الأهم، وهو ما وفره نظام عبد الفتاح السيسي".
ويختم اللاجئ السوري بالقول إن الوضع المعيشي لأبناء بلده تحت خط الوسط، ما اضطره لإخراج أبنائه من المدرسة لعدم قدرته على تحمل مصاريف التعليم وعلاجه من أمراض القلب والسكري في آن معاً.