مع احتفال تونس بعيد المرأة، تطرح فكرة دراسة واقع المرأة التونسية حالياً كضرورة لتقييم وضعيتها بأقصى ما يمكن من موضوعية وتجرُّد. هذه المحاولة التي من شأنها أن تبين ما في هذه التجربة من نقاط ضعف ومواطن قوة. ونظراً لما خلقته من جدل وما أثارته من آراء مختلفة يمكن إسقاط الانطباعات الخاطئة عنها، تعزيز الصائب منها وتسليط الضوء عن المغيب في جملة التشريعات التي تهم المرأة. هكذا تكتمل صورة تحاول قدر الإمكان الاقتراب من حقيقة فسيفسائية لواقع مركب في مجتمع يجمع بين خصوصيات الأصالة ومظاهر التقدم.
إن دراسة التجربة التونسية يمكن أن تعطي فكرة عن التحديات التي تواجهها النساء في مختلف بلدان العالم وخاصة البلدان العربية ذات الخصائص الفكرية الثقافية المشتركة.
السياق التاريخي
أصبحت الحركات النسوية عنصراً فاعلاً في المجتمعات الحالية. لم يكن بروز هذه الحركات في العالم العربي نتيجة استيراد حديث لنموذج غربي ومحاولة لتقليده بإسقاطه على المجتمعات العربية المسلمة المحافظة بهدف تمييعها، كما يزعم البعض. بل إن محاولات الارتقاء بوضعية المرأة تجد أصولها التاريخية منذ خمسينيات القرن الـ19 في أغلب الدول العربية؛ حيث إن حملة نابليون على مصر سنة 1798، واحتلال البلدان العربية من القوى الأجنبية، مكنا من الاحتكاك بالآخر المتطور واستيعاب نقاط القوة لديه.
الحراك الثقافي العربي
فقام حراك فكري ثقافي عربي ترجم نفسه على شكل حركات إصلاحية حاول في إطارها المستنيرون الارتقاء بوضعية المرأة. ومن أول الأصوات التي نادت بتعليم المرأة هو رفاعة رافع الطهطاوي المصري، الذي ظَلَّ- رغم كل إنجازاته- يدافع عن الكثير من القناعات الرجعية. ونمت الحركات الإصلاحية في سوريا، لبنان، العراق، السودان، وتونس، حيث وجد في كل بلد أعلام تنويرية أدت جهودها إلى نشوء أول جيل نسوي متعلم: بطرس البستاني وقاسم أمين وعبد الرحمن الكواكبي وجمال الدين الأفغاني.
لكن بوادر الحركة الإصلاحية التي أوجدت مقومات الاستثناء التونسي كانت تفعيل إلغاء الرّق، وبلورة أول دستور في هذه البلدان التي كانت تقع تحت سيادة نفس النظام السياسي. هذه الحركة الإصلاحية امتدت، تراكمت ونضجت لتتكثف ذهنية حقوقية تقدمية حاولت قدر الإمكان الارتقاء بالمجتمع التونسي من غياهب الظلمات وإنقاذه من براثن الجهل الجاثم على العقول والصدور.
ومن جملة ما دعت إليه النخبة المستنيرة تحسين وضعية المرأة بعد انتهاء مسوغات القوامة على المرأة بالمعنى الشرعي للتعبير. في هذا الإطار تتنزل محاولة المفكر الطاهر الحداد في تحرير، تعليم وتمتيع المرأة بحقوقها في جوهرته: "امرأتنا في الشارع والمجتمع (1)". كان الكتاب بمثابة الزلزال الذي هز عرش بنية فكرية متجذرة في الرجعية لشعب عربي مسلم محافظ، والحجر الذي حاول تهشيم زجاج عقلية ذكورية قروسطية اهترأت وولَّى عليها الدهر. ما يميز الحداد عن غيره هو الجرأة التي تناول بها كل المواضيع علناً مرة واحدة وفي إنتاج مادي ملموس في متناول كل من أراد الاطلاع عليه.
النضال النسوي التونسي
ومن الوجوه النسوية اللواتي ناضلن في سبيل تمكين المرأة، نذكر البشيرة بن مراد، المنحدرة من عائلة أرستقراطية والتي وضعت أولى أسس العمل السياسي النسائي. تمكنت بفضل تلقيها للتعليم الزيتوني وعلوم اللغة العربية من اكتساب زاد معرفي تسلحت به بدعم من والدها وزوجها للكتابة في المجلات والصحف. وكانت ضمن المجموعة المؤسسة لمجلة تونس الفتاة. في يناير/كانون الثاني 1959 تم تأسيس الاتحاد النسائي القومي التونسي الذي عمل على تفعيل مبدأ إشراك المرأة في بناء المجتمع. كان لهذا الاتحاد دور مهم في التوعية الميدانية للنساء بحقوقهن وواجبهن في مقاومة الاستعمار. مباشرة بعد تأسيس هذه الجمعية، التأم تجمع نسائي كبير بالعاصمة. هكذا لعبت النساء دوراً مؤثراً في الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار. يمكن أيضاً أن نذكر الدكتورة توحيدة بالشيخ التي كانت أول امرأة تونسية وعربية تشتغل في الطب. كما كانت لها مسيرة نضالية نسوية حيث نادت بحق النساء في الإجهاض وطالبت بتحديد النسل. وغير هاتين العظيمتين الكثيرات.
تبلورت أفكار الطاهر الحداد ودعوات تمكين المرأة في مجلة الأحوال الشخصية بعد ربع قرن من صدور الكتاب وصيغت في شكل تشريعات وقوانين أولية. فكان صدور هذه المجلة تتويجاً لجهود الحركة الإصلاحية وضماناً رسمياً للحقوق الأساسية للمرأة (13 أغسطس 1956). تتالت بعد ذلك التشريعات التي أقرت مجموعة أخرى من الحقوق المدنية والسياسية وصيغت استناداً إلى خلفية حقوقية تعتبر المرأة كائناً بشرياً ذا أهلية ومساوياً للرجل أمام القانون في الحقوق والواجبات. وتتالت التنقيحات على مجلة الأحوال الشخصية ليتم بعد ذلك إنشاء مؤسسات رسمية تعنى بالمرأة مثل وزارة شؤون المرأة والأسرة والطفولة والمسنين ومركز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة.
التشريعات وحدودها
كان إعلان الحبيب بورقيبة منع تعدد الزوجات الإعلان الجريء عن خطوة أكثر جرأة؛ حيث كان توقيعه على مجلة الأحوال الشخصية منعرج التحول التاريخي أو القفزة الهائلة نحو الأمام في ميدان الحقوق والحريات عامة والمسألة النسوية خاصة بشكل فعلي عيني وملموس. شملت القوانين المنصوص عليها أغلب الأبعاد المتعلقة بالمرأة: منع تعدد الزوجات، منع زواج القاصرات، الحق في طلب الطلاق؛ مما أوجد فرصة إدخال تغييرات جذرية في النمط المجتمعي وما يمكن أن يتبعه من تأثير على نواحٍ أخرى كالبُعد الاجتماعي، والثقافي والاقتصادي والسياسي.
ما يمكن أن نلاحظه هنا أن أول ما نالته المرأة التونسية من امتيازات أو أفضلية حقوقية مدنية نسبية على عدد من نظيراتها لم يكن أساساً وليد حركة نسوية تصارعت مع الرجعية الذكورية لتتجذّر في المجتمع وتغرس أولى بذرات التقدمية في العقول رغم ما ذكر من سياق تاريخي خصب لمحاولات الارتقاء بالمرأة. وكأن حدث توقيع مجلة الأحوال الشخصية كان مجرد فعل شكل لتنزيل الدعوات إلى ممارسات وتحويل النظرية إلى واقع. طبعاً لم يلاقِ تفعيل مجلة الأحوال الشخصية مقاومة صريحة من قبل شعب كان وقتها ما زال منتشياً بالتخلص من الاستعمار المباشر، خاصة وأن من فعل هذه الترسانة القانونية هو حبيب الأمة المقاوم البطل الذي يتقن أيضاً التفاوض.
بعد ذلك، وقعت الدولة التونسية على عدد من الاتفاقيات الدولية التي تتعلق بالقضاء على مختلف أشكال التمييز ضد المرأة. فكانت فعلاً الدولة المثال في تساوي الأجور بين النساء والرجال مقابل نفس الجهد المبذول طيلة فترة معينة على الأقل في الوظيفة العمومية.
هذا ما لم ينطبق في كثير من دول العالم إلى اليوم. كل هذه الاعتبارات خلقت الواقع الموضوعي الذي مكَّن المرأة من الولوج إلى الفضاء العام والاهتمام بالشأن العام؛ لتصبح النساء اليوم ركيزة عدة قطاعات حيوية للدولة والاقتصاد التونسيين من الفلاحة والصناعة والتعليم الابتدائي. أيضاً تمكن العنصر الأنثوي من اقتحام ميدان السياسة ليشغل بعض المناصب القيادية. لكن إقراراً بخطر العنف المسلط على المرأة، تواصلت مسيرة تعزيز هذه المكتسبات القانونية بهدف القضاء على واحدة من أخطر الظواهر الاجتماعية.
تنزيلاً لأحكام الفصل 46 من دستور 2014، أصدرت تونس قانوناً شاملاً للقضاء على العنف ضد المرأة وهو القانون الأساسي عدد 58. تبعاً لذلك أقرت ضرورة إرساء عدد من الآليات لضمان إنفاذ كل فصول القانون الذي يشمل 4 أبعاد: الوقاية/ الحماية/ التتبع ومعاقبة مرتكبي العنف/ التعهد والخدمات. وقد تم العمل على صياغة هذا القانون في إطار رؤية تشاركية تدفع جميع مكونات المجتمع إلى تحمل جزء من المسؤولية لإيقاف نزيف هذا الوباء.
لكن مجموع هذه الضمانات القانونية لم ينجح في تحسين وضعية المرأة إلا شكلياً. إن المصادقة على مجلة الأحوال الشخصية كان نتيجة قرار سياسي مسقط على شعب محافظ يؤمن بضرورة المقاومة من مرجعية دينية أساساً قبل أن تكون تحررية. هدف هذا المعرض ليس التعرض إلى التجربة البورقيبية بالنقد أو التثمين، لكن تاريخ تونس المعاصر في عقوده الأخيرة يرجح أن قرار الارتقاء بوضعية المرأة كان نتيجة توصيات أو حتى إملاءات خارجية في تباين مع السياسات القومية أساساً لبقية الدول العربية. يؤكد ذلك تاريخ افتقاد السيادة الوطنية وتبعيته على كل المستويات. هذه التبعية حاول دوماً القائمون عليها تغييبها وتغليفها بصورة نموذج مختلف يكاد يرتقي لمكانة القدوة. لكن العقلية التي بقيت تقود كل تفاصيل المعيشة اليومية وتتحكم في القرارات المصيرية للأفراد حافظت على طبيعتها الرجعية.
يؤكد على ذلك ارتفاع نسب العنف المسلط على المرأة. هنا تشير وزيرة شؤون المرأة إلى أن السبيل الوحيد للتقدم في مسار القضاء على هذا العنف هو التنسيق بين كل أطراف المجتمع وتوفير الآليات التي كان من المقرر بعثها (إذ لم يتم بعث المرصد الوطني لمناهضة العنف ضد المرأة إلى حدود جانفي 2020 أي بعد 3 سنوات من إقرار قانون 58.) كما يجب العمل على توفير آليات التواصل بين القطاعات المشمولة بهذا القانون وتمكين مراكز استقبال وإيواء النساء بالدعم المادي واللوجستي. لكن يبقى الاشتغال على البرامج التعليمية والتربوية والثقافية أهم نقطة لعلاج الإشكال من جذوره وترسيخ نوى نبذ العنف.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.