في صباح يوم عابر، كان الرجل ينادي سائقه أسمر البشرة ليخبره بأن يومه سيكون "مهبب زي وشه" لو لم يلحقوا بالميعاد المنتظر في إحدى المصالح، فهرول السائق إلى غرفته ليحضر مفتاح السيارة وعندما حاول صغيره أن يتحدث إليه قال له: "مش ناقصاك يا معفص أنت كمان" وخرج وتركه، وأثناء المسير نحو الوجهة قطعت فتاة منتقبة مسار السيارة لتعبر الطريق ففرمل السائق فجأة فعلقت زوجة الرجل من المقعد الخلفي قائلة: "هتشوف إزاي بالخيمة اللي ماشية بيها دي؟"، وفي الطريق طلبت ابنة الرجل أن تتولى هي القيادة قليلاً فارتكبت خطأ فادحاً فخرج السائق من سيارة الأجرة المتضررة قائلاً: "آدي آخرة سواقة الحريم"، حدث ذلك قبل أن ينزل من السيارة أخوها ليتشاجر مع السائق ثم يتركه بسبب "لبسه المهكع وريحته المعفنة"، على حد تعبيره.
عند الوصول إلى المكان أخبرت موظفة الاستقبال التي كانت تعبر الطريق قبل قليل للزوجة إن "البلاچ مش من هنا"، مُعلقةً على ردائها الذي لم يعجبها على حد قولها، ذلك قبل أن تدلهم على الطريق ليصعدوا على درج السلم وصولاً إلى المكتب المرجو الذي لسوء الحظ كان مدخله ضيقاً بعض الشيء ما استدعى الموظف أن يخبر الرجل: "ادخل بجانبك يا فندم علشان سعادتك ما شاء الله تخين وكرشك مدلدل".
هؤلاء جميعاً في مساء اليوم نفسه سوف تجدهم يتكلمون في أحاديثهم وصفحاتهم ومجالس سمرهم عن بشاعة العنصرية التي يعانون منها كل يوم. أمر يدعو للحزن والحسرة أو ربما يدعو للجنون من ازدواجية المعايير التي نتبعها جميعاً ونفصلها خصيصاً على مقاس أفكارنا ومعتقداتنا دون إدراك معنى الاختلاف.
قبل ساعات كان الحديث عن فستان فتاة جامعة طنطا، ومن سخرية القدر في نفس اليوم كان الحديث عن بوركيني فتاة الفندق. وستجد -يا للعجب- معارضين للموقف الأول كانوا مؤيدين للموقف الثاني والعكس صحيح. وحدهم فقط مَن يملكون فطرة سليمة كان لديهم مبدأ لم يتغير في الموقفين.
ولكن لا أخفيك سراً أن تلك المواقف المتتالية تعمل على تأكيد فكرة في داخلي لا أقدر على تجاهلها، وهي أن الأفكار الطيبة وأفكار المساواة وعدم العنصرية ونبذ التعصب والطبقية قد تكون أفكار الذين يشعرون دوماً بالاضطهاد، ويطلبون عدم التمييز بصدق شديد من منطلق الضعف، ولكن ربما بمجرد تمكن ذلك المستضعف سوف تتحول تلك الطباع الملائكية إلى أفكار طغيانية متعسفة لا تقبل وجود أطراف أخرى تنفيساً لا إرادياً عن قمع سنوات طويلة تعرضوا لها. كما نرى بعض الذين كانوا يعانون من الفقر أمس يمارسون طبقيتهم حين صاروا أغنياءً اليوم.
الحقيقة التي توصلت لها أن الفارق بين ظلمة اليوم وظلمة الغد بالنسبة للبعض، هي فقط فرصة أتت لطرف دون الآخر، أما مبدأ الظلم والطغيان فقد يكون في دمائهم، بطيبهم الحالي وشريرهم المستقبلي، كل ما في الأمر فرصة.
وإن كان هناك طيبون حقيقيون، فالآخرون لن يكونوا كذلك أبداً، ربما لا إرادياً، ولكن كي تتمكن من زمام الأمور، ستتحول إلى طاغية جديد دون أن تشعر، وإن حاولت الرجوع عن طغيانك، فهناك طغاة آخرون في قائمة الانتظار، مستعدين للحظة هجوم في لحظة صحوة من حقيقتك الإنسانية التي تلاشت في الطريق الذي كان أوله في الأصل سعياً وراء حقوق إنسانية، وتحقيقها كان ممحاة لحقوق آخرين، الإنسانية أيضاً.
وبين محاولات تحقيق الإنسانية هنا وهناك، ماتت الإنسانية الحقيقية، وأتمنى أن أكون مخطئاً، أتمنى أن تكون نظرتي سوداوية، أتمنى أن يأتي يوم ندرك فيه نحن البشر أن أرض الله جميعها لعبيد الله، وأن أمر عبيد الله فقط لله.
ولكن حتى يأتي ذلك اليوم، أو حتى يتحول مظاليم اليوم إلى ظلمة الغد سأظل دائماً في صفوف الدفاع عن حق الوجود، سأظل في صفوف الدفاع عن الضعفاء حسب الزمان والمكان والموقف، ليس إيماناً بفكرهم جميعاً ولكن معارَضةً لقسوة القهر التي يعاني منها كل صاحب فكر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.