منذ نعومة أظافرنا نشأنا بوعي عالٍ تجاه قضية فلسطين التي حازت مكانة هامة جداً في قلوبنا كأطفال صغار، حيث كنا نتابع الانتفاضة الفلسطينية، واستشهاد محمد الدرة، كما لا يغيب عن ذاكرتنا مشاهد القصف والاعتداء الوحشي الإسرائيلي على أهل فلسطين، كانت الأخبار شيئاً مقدساً ولا يمكن الانقطاع عن المتابعة والدعاء لحظة بلحظة، وتعريف كل من حولنا بما يحدث وحثهم على المتابعة، وكان يسمح بالوقفات السلمية المنددة بالعدوان على أهل فلسطين، وتجد الجميع يشارك صغاراً وكباراً، ونشاهد أطفال المدارس يتسابقون فيما بينهم من حيث الأعداد والتتابع للخروج في مسيرات تضامنية مع فلسطين، مرددين الشعارات التي ابتكروها أو سمعوها، ويحملون اللافتات والأعلام الورقية التي سهروا يصنعونها، يجوبون كل أنحاء القرية والقرى المجاورة بالريف، ولا يتركون شارعاً بالمدينة، فقد كان الوعي العربي الشعبي بقضية القدس وفلسطين كبيراً جداً حينها، فمنذ الصغر وفلسطين قضيتنا الأولى، نكبر فتكبر معنا القضية، ويتأصل غرسها في قلوبنا، وتمتد جذورها الأصيلة متخللة كل خلية بعقولنا، فلسطين كالشريان الأبهر لقلوبنا، كما لا حياة دونه لأجسادنا، فلا حياة لكل الأمة إن لم تكن فلسطين قضيتنا الأولى.
الإعلام ودور الدراما في تكوين الوعي
لم يكن تشكيل الوعي لدى أبناء جيلنا مقتصراً فقط على اهتمام الأسر بقضية فلسطين ومتابعة الأخبار ودعمهم بشتى الوسائل المتاحة، وإنما كان للإعلام والدراما الهادفة دورهما الفعال في تكوين الوعي لدينا، وغرس بذور الإيمان بتلك القضية في نفوسنا، فكان للرسوم الكاريكاتيرية والقصص المصورة أثرها البالغ في تعريفنا بأهمية فلسطين أو سرد قصص أبطال المقاومة، كما كانت للأعمال الدرامية دورها الحيوي ونجحت في إيصال الرسالة لشتى الأطياف الفكرية، فكانت "التغريبة الفلسطينية" من أنجح الأعمال الدرامية التي استطاعت تجسيد ما حدث للفلسطينيين عام 1948 من تغريب وتهجير من أراضيهم واستيلاء الاحتلال عليها، نجح هذا العمل في تجسيد مشاعرهم وتوضيح المعاناة التي مروا بها، ورسم ببراعة الحياة التي عاشوها وجسد كل ذلك بمهارة فنية فائقة جعلتنا نشعر وكأننا نحيا معهم تلك التغريبة.
إضافة لذلك فلا شك أن للرسوم المتحركة دورها الفعال أيضاً في إيصال أعقد المعلومات للطفل بأبسط الطرق والأشكال، وبالفعل تمت صناعة العديد من الأعمال الفنية للصغار منها التي تحكي قصة "شيخ المجاهدين أحمد ياسين" ودوره البارز في المقاومة الفلسطينية، وكيف أنشأ حركة مقاومة رغم أنه كان قعيداً بلا حركة بسبب إعاقته التي لم تمنعه من المقاومة والجهاد حتى آخر نفس. تلك الرسوم المتحركة الهادفة وغيرها الكثير التي تعلم الصغار معنى المقاومة والدفاع عن الأرض وترسخ الفهم السليم لدى الأبناء وتشكل وعيهم ببراعة فنية فائقة، كانت لها أعظم الأثر في تكوين وعينا وإيماننا بقضيتنا الأولى "فلسطين".
الإذاعة المدرسية
لا أدري هل عايش أبناء هذا الجيل الصغار إذاعة مدرسية كما عايشتها أم لا، وغالب الظن هو "لا"، ولكنني لا أنسى أبداً طفولتي التي تشكلت ملامحها عبر إسهامات هامة عديدة منها الإذاعة المدرسية والتي كان لها صيت واسع بين أبناء جيلي، فقد كانت تلقى اهتماماً بالغاً من الجميع بدءاً من المدير حتى أصغر طالب في المدرسة، وكان يتم الإعداد لها بحرص وعناية، وكانت أهم القضايا التي تناقشها الإذاعة المدرسية بشكل شبه يومي هي قضية فلسطين، خاصة فقرة الإنشاد التي كانت تطرب مسامعنا بالكلمات الجميلة عن القدس وفلسطين، وكان يتم عمل تنافس بين طالبات الصفوف المختلفة حول الأداء الأفضل للنشيد الفلسطيني، وكان المدرسون لا يملّون السماع وربما بعد انتهاء الإذاعة والدخول للفصول يطلب المدرس من الفتاة التي ألقت النشيد في الإذاعة أن تعيده على مسامعه وكل الطلاب بالصف مراراً وتكراراً، وكانت أبرز الأناشيد حينها "فلسطين عربية"، وأغنية أصالة الشهيرة حينها "أولى القبلتين"، وغيرهما الكثير، فلكم ساهمت تلك الإذاعة والأناشيد في بث روح العزيمة والمقاومة في نفوس الطلاب، وازداد حرصهم تجاه فلسطين، وشغفهم للتعرف عليها ومتابعة أخبارها عن قرب، ولذلك حينما كانت تنظم المسيرات التضامنية للأحداث الفلسطينية كنا نجد تلك الأعداد الطلابية الغفيرة تعكس بوضوح الأثر الذي خلفته الإذاعة المدرسية والحفاوة البالغة التي كان يقدمها المدرسون الذين كانوا بحق خير قدوة لذاك النشء.
الأنشطة الفنية
الفن إذا أحسنت استخدامه، استطعت إيصال ما أردت خلاله، وهذا ما يجعل له سحراً ورونقاً خاصاً، وبالفعل كانت للأعمال الفنية الفلسطينية والأناشيد والمسرحيات التمثيلية التي يتم تقديمها خلال الأنشطة الفنية المنعقدة بالمراكز الثقافية أو الاحتفالات الدينية والمناسبات المختلفة بالمدارس والمعاهد وغيرها من المؤسسات المختلفة، كانت تلك الأعمال -خاصة القصائد الشعرية- التي تجسد القدس وفلسطين وتعكس صور الجمال في أطفال الحجارة ومقاومة المحتلين، دائماً وأبداً ما تلقى احتفاءً وتقديراً بالغاً من جميع الحاضرين، وتترك أعظم الأثر في نفوس الصغار ممتلئة عقولهم بالكثير من التساؤلات حول تلك الدولة الفاضلة التي تجسد دور البطولة فى كل المناسبات والميادين، هكذا شهدت طفولتي وطفولة أبناء جيلي، ولكن التساؤل يفرض نفسه من جديد: "هل يعلم أطفالنا صغار هذا الجيل الجديد قدر المعلومات التي عرفناها في طفولتنا؟! هل لديهم نفس الوعي الذي كان لدينا بعمرهم؟!".
أطفالنا اليوم ومدى وعيهم بالقضية
لا شك أننا جميعاً نرقب أطفالنا اليوم ومدى اختلاف اهتماماتهم واستحواذ التكنولوجيا على عقولهم، ومع جائحة كورونا اليوم وانهيار المستوى التعليمي للأطفال خاصة في المراحل التأسيسية، إضافة لانتشار الكثير من التطبيقات الإلكترونية واستحواذها على عقول الصغار، وأضِف إلى تلك القائمة مجموعة المشاهير الذين صاروا القدوة المتبعة في كل شيء، وغير خفيّ على أحد مدى "تفاهة" المحتوى المقدم لهؤلاء الصغار حتى يتشكل الوعي لديهم باللا شيء، وبالتالي حين تحدثهم حول قضية هامة كفلسطين وهوية حرة عربية وغيرها لن تستطيع جذب انتباههم كما تفعل بهم قوة "السوشيال ميديا" و"الإنفلونسرز" بالتيك توك وغيره، لتجد التفاهة سيدة الموقف. وهنا يفرض سؤال جديد نفسه علينا: "أين دور الأهل من كل ذلك؟ وما دورهم في تكوين الوعي لدى صغارهم؟!".
دور الأسرة في غرس القضية الفلسطينية بعقول صغارهم
الأسرة هي اللبنة الأولى لبناء المجتمع، وعليها تقوم الحضارات وتزدهر أو تنحسر، وبالتالي فإن نجاح أي قضية إنما يبدأ من الأسرة، وبقيامها بدورها المطلوب في تكوين الوعي لدى هذا النشء الصغير منذ طفولته الأولى، فينمو وتنمو معه تلك القضية فلا يتخلى أو يحيد عنها، ويمحص الأفكار -المسمومة- الدخيلة عليه يوماً بما لديه من أساس متين وتربية قويمة، وحتى نربي جيلاً قوياً واعياً بمقدساته وقضاياه وخاصة فلسطين، فإليكم بعض المقترحات التربوية لتخبرهم فيها عن فلسطين:
1- التربية بالقدوة: تعتبر هذه النقطة حلاً سحرياً للكثير من المشكلات التربوية، فالأهل يعتقدون أن الصراخ وترديد الأوامر أو المعلومات أكثر من مرة هو ما سيجعل الطفل ينفذ ما يُملى عليه، ولكن الحقيقة أن الطفل يتعلم بالقدوة أكثر مما يتعلمه بغيرها من الطرق بنسبة تصل إلى 70%، لذلك فلابد أن تؤمن الأسرة بقضية فلسطين وتقدر أهميتها، تتابع أخبارهم، تدعو لهم، تساعدهم بكل ما أتيح لهم، فيولي طفلي اهتماماً لما تهتم به أسرته.
2- التربية بالقصة: القصة من أهم الوسائل التربوية لتعليم الاطفال ولها أثر بالغ في نفوسهم، وتساعدهم دائماً على تذكر الأحداث التي تسردها عكس ما تروي لهم بطرق روتينية مملة، وهنا أوصي باستخدام أسلوب شيق، وتنويع النغمات الصوتية في الأداء حتى يركز الطفل بكامل انتباهه وكل حواسه، ولابد من الإعداد الجيد للمحتوى الذي ستقصه، واختيار لغة وتعبيرات تلائم عمرهم.
3- التربية بالدعاء: خصص جزءاً يومياً من دعاء الأسرة لفلسطين والقدس وأهلها، وبالتكرار سيترسخ في ذهن وروح طفلك أهمية وقداسة فلسطين، واجعله إمامكم في الدعاء ذات مرة مع التكرار بالتباعد على فترات، وشاهد بنفسك أثر هذا الأسلوب التربوي الرائع.
4- التربية باللعب: لديك طفل فلابد أن اللعب من أولى أولوياته، فقم باستغلال ذلك وصمم ألعاباً ذات أهداف تخدم الرسالة التي تود إيصالها له، كتلوين صورة للمسجد القبلي أو قبة الصخرة، أو صمم مسابقة حول معالم الأقصى واختبر معلوماته ولكن يجب أن تكون قد أطلعته عليها مسبقاً، فيسهل الإجابة عنه ويستمتع باللعب والتنافس، ويمكن استخدام معلومات تناسب عمره وتقديم جوائز محببة لنفسه تشجيعاً له على محاولاته حتى لو لم يجب بشكل صحيح، ويمكن أن تكون الجائزة أكثر قيمة إذا كان مستواها أعلى وأجاب بشكل جيد وهكذا، كما يمكن استخدام أسماء معالم القدس في ألعاب أخرى كالجري، مثلاً: من يجرِ "من باب العمود إلى باب المغاربة" ثلاث مرات ويصل أولاً يكن هو الفائز، وهكذا أمثلة لألعاب لا تنتهي، المهم الإعداد الجيد مسبقاً وتحديد المعلومات التي تهدف لإيصالها، وربطها بجوائز تناسب عمر الطفل وموضوع اللعبة.
5- التربية بالفن: يميل الصغار دائماً إلى الاستماع للأغاني وترديدها، ولا يخفى علينا حال أطفال اليوم وحفظهم للعديد من المهرجانات الشعبية وكلماتها البذيئة، وهنا ننصح باستغلال ميول الطفل بشكل هادف ونستمع معا لأغانٍ عن فلسطين والقدس تناسب عمره، ويمكن توضيح الكلمات له حتى يفهم ما يسمع ويردد، كما يمكن إقامة مسابقات بين الأطفال أو احتفال بيوم الأسرة وتخصيص فقرة ليغني الطفل ما حفظه هذا الأسبوع وتشجيعه بهدية جميلة، ويمكن أن ندرب الأطفال على عرض مسرحي بسيط يقدمونه أمام الأسرة، وبذلك ننمي حواسّ الطفل وتكون محاولة لاكتشاف أو تنمية مواهبهم الفنية وتشجيعهم عليها وأيضاً توجيههم لفن هادف.
6- التربية بالتكنولوجيا: لا بد أن تواكب الأسرة مستحدثات العصر، فلا تمنعها البتة، ولا تتركها دون مراقبة، وإنما توجه وتقوم وتراقب وتشجع، ومن هنا يمكنك توجيه طفلك لاستخدام "التيك توك" و"اليوتيوب" و"سناب شات" وغيرها من التطبيقات التي يفضلها بمشاهدة وعرض الأعمال المرتبطة بفلسطين، خصص وقتاً لمتابعته عن قرب ولكن باهتمام وحب، ويمكنك مساعدته في اختيار المحتوى أو التدرب عليه أو تحرير الفيديو الذي سيعرضه، وتغرس بطفلك دوماً أننا نستخدم كل شيء بهدف ولهدف، ونواكب العصر أيضاً لكن ونحن نحافظ على هويتنا ووعينا.
7- الترببة بالعطاء: يمكنك أن تغرس قيمة العطاء لدى طفلك بِحَثِّه على اقتسام جزء من مصروفه لإخوانه بفلسطين، وقلنا هنا اقتسام وليس تبرعاً لأنه يشعر منها وكأنه تفضل عليهم، والأحق أنه واجبنا تجاههم، فيجب توضيح ذلك للطفل، وتحفيز شعور المؤاخاة مع أطفال فلسطين، وأننا كما نسعد كثيراً بهدايا أصدقائنا لنا هنا فنود أيضا ًأن نسعد أطفال فلسطين ونشعرهم بأنهم ليسوا وحدهم، وأيضاً هو مجال مناسب لتعلمه فضل الإنفاق فى سبيل الله، وأن الله يضاعف لمن يشاء إلى سبعمئة ضعف، وبذلك تغرس تلك القيم بشكل قوي ومتين.
وأخيراً، كانت تلك أبرز المقترحات التربوية التي تعد بمثابة مفاتيح للولوج لعالم الصغار، وغرس حب القضية الفلسطينية في قلوبهم، ونقشها في عقولهم دون استخدام روتين ممل أو نصائح وأوامر منفرة، فعلينا أن نكون حريصين على استخدام الأسلوب والوسيلة الملائمة لنصل إلى الهدف بسلاسة ويُسر، ولا هدف أحرى بالسعى لتشكيل وعي أبنائنا حوله من قضية فلسطين وعروبة القدس، فمن لم تكن فلسطين قضيته الأولى، فلا قضية له.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.