يعزّ عليَّ أن تُنهش أنثى عن سذاجة، ويُضحك عليها بعاطفة ليست في محلها، فها أنا ذا أهبُكَ ما ليس لكَ، وسأعيش عمري فقيرةً، هذه ليست تضحيةً بالمناسبة أكثر مما هي حماقة وغباوة.. مهما أعميت وأغشيت بصيرتكِ، إياكِ ورفعَ هذا الشعار، إياكِ.. فالقلوب متقلِّبة، وقد يأتي التغيُّر منكِ، وقد تندبين بعدها حماقات الطيش، فلا أحد منا يود أن يستيقظ يوماً ويجد نفسه غارقاً في كابوس لا خلاص منه.
الحبُّ لا يُقيم طويلاً في موضع يُسيِّره جبان، فالحب سريع الترحال إذا ما وجد بيئةً يتم فيها التواري كلّ مرة، ويغلُب فيها التخفِّي، ويكثُر فيها اللامعقول، فالحب عزيزُ نفسٍ، ولا يرضى أن يتم إلا في أماكنَ ترفعُهُ ولا تدنسُهُ، تفخر به ولا تطمرُه.
إن أكثر ما يُخيفني في أحيان كثيرةٍ هو "الجوعُ العاطفيُّ"، فلا أسوأَ مِن أنْ يرتطمَ المرء بجدارٍ غير ثابت، وأُسس تتهاوَى، ويسألُ نفسَه حينَها: كيف اعتقدتُ أنَّ هذا كان حُباً؟ فبعد أن تنطفِئ شُعلة هذا الجوع، ويشبعُ الإنسانُ منه يندمُ على اجتياز مضمارِ طريقٍ غاصَ فيه عن طريقِ الخطأ، ولذلك فإن أخذَ المسافةِ عن الموضوع يقي من الوقوع في شِباك الأوهام، ويحفظُ من تشييد هلاكٍ قادمٍ لا محالةَ.
إن سفينة نوحٍ لمَّا أبحرت حملت زوجين من كلِّ نوعٍ؛ إذ لا حياة لأنثى بعيداً عن ذكرٍ، ولا بقاءَ لذكرٍ بعيداً عن أنثى، فهكذا فُطِرنا منذ بدءِ الخلقِ، لكن لماذا يضيع ويتوه النصفُ عن نصفه، ويتعلق بمَن ليس له، وهو في الأصل لم يُخلق من أجله؟
في الحقيقة، لا ألومُ قلباً إنْ أُعجِب، ولا قلبَ مُحبٍ، فهي القلوب في الختام، وسلطانُها أقوى حتى علينا، لكن من الضروري الموازنةُ بين الواقع وما نَشعرُ به، فهل شعوري هذا سيُعمّرُ طويلاً، أم أنَّ من الأفضل نفيه الآن قبل أن ينفيني؟ وماذا عن الشخص الذي استوطَنَ المضغةَ، هل يليق بي أم أننا مهما استحسنا بعضنَا لا نليق ببعضِنا؟
وفي الغالب، بقلب محب نتهرَّب ما لم يُرضينا الجواب، ونَركَنُ لأحلامنا الزهرية، ونُنجب في خيالنا الأولادَ، والعمر البهيّ الذي يجمعنا، لدرجة أن الأنثى قد تُحيط بكلِّ التفاصيل، وتصبرُ على كلِّ المشقاتِ، وتستعذِبُ كلَّ الثغرات.. فقط لأنها اختارت الرجلَ، الرجل الذي لا تُصدِّق عيوبَه مهما رأت الكثيرَ منها، وتُكذِّبُ الجميعَ ولا تُصدِّق إلّاه، فيحطُّ في نفسها كَوَقْعِ السحرِ في وجه الناظر؛ إذ يظلُّ المسحورُ في عالمٍ لا يراه غيرُه.
قبل ما يقارب سنتين، صادفتُ ولداً في عمرِ الثانيةَ عشرةَ يبكي، اقتربتُ منه لأرى ما الذي افتعلَ هذه الحُرقةَ وكلَّ هذا الشهيقِ في قلبِ هذا الصغير، جلستُ بقربِه، ورَبَّتُّ على كتفه وقلتُ ضاحكةً: "ما بالُ الرجالِ باتتْ تبكي؟"، لكنَّه لم يستحسن المزحةَ ربما، فعلمتُ أنَّ ما به أكبرُ من أن تُضحكه طُرفة متآكلة، غيَّرتُ السؤالَ بعدما رفع عينيه نحوي بانكسار، فقلتُ له: "ماذا بكَ؟ هل أستطيع مساعدتك في شيء؟"، لكنه لم يردَّ مرةً أخرى، فحاولتُ من جديد: "أتريد أن تحدثني في الأمر، لا عليك، فلستُ إلا عابرة وسأمضي، لن يَضُرَّكَ بوحُكَ، ومع هذا فكُلّي آذان مصغية".. فبقِيَ على بكائه وحُرقته، وبقيتُ بقربه، إلى أن اعترف أخيراً.
كان الولدُ قد اكتشف بعدَ عمرٍ أنه لقيط، وحسب معجم المعاني فاللقيط هو الوليد الذي يوجد ملقًى على الطريق لا يُعرَف أبواه، فبعد سنوات من الحياة التي كان يعيش فيها بهُويةٍ، فتح عينيه على واقعٍ لا يَرحمُ، ولا هُويةَ له فيه، لقد كان الفتى جميلاً للغاية، لدرجة تساءلتُ معها: "كيف أمكن أمه تركه هكذا؟ ألا يحنُّ قلبُها حقاً؟ ألم تلتفت نحوَه مرةً؟ أَغَلَبَ خوفُها حُبَّها لوليدها؟".
فبعد أن كان الولدُ يلعبُ مع أصدقائه، بدل أن يرمي أحدُهم الكرة في الشباك التي كان يحرص على أن تبقى نظيفةً طيلة المباراة، ألقى بكرة كسرت قلبَه بعد سوء فهمٍ قصير، قال فيه: "اذهب وابحث عن أهلك الحقيقيين، الكلُّ يعرفُ، أنت الوحيدُ المنخدعُ هنا"، فركض إلى والديه؛ لأنه وجد ما يدعم بعضَ الشكوك المتكدِّسة لديه.
في اللحظة التي واجه فيها والديه بكلِّ مواضعِ الخللِ التي كان يستشعرُها، اعترفتْ له أُمه ببكاء أنه وُجد أمام مسجد، ويقال إن أُمه وثِقت بشخصٍ ما فخذَلَها، ما جعلها تترك كل شيء وتذهب لتبدأ حياةً جديدة، ولا معلومات لديهما عنها، لكنه طفلهما الذي يحبانه، وهما اللذان سَهِرا عليه وقت بكائه، ولم يعتبراه قط غريباً عنهما منذ اليوم الأول الذي أحضراه فيه من دار الأيتام.
وقد كسرتني الطريقة التي يروي بها، والذبحة التي يرقص منها، والبكاء الذي لا يُطفئ لهيب قلبه، وتخيلت نفسي بدله فدارت بي الدنيا.
ألا تعرفُ من أُمك؟ ومن أبوك؟ ويدور كل ثانية بذهنك ذلك العتاب المنهك لوالدين غير مسؤولين لم يجيدا سوى التجمع في لحظة رغبة، ولم يعرفا سوى الفرقة بعدها.. تتساءل كلما رأيت وجهك في المرآة: من أنا؟ فيحملُك تمني لو أنك لم توجد على ظهر الأرض، ليصرخ بك صوت لا تعرف مصدره: أنت المنبوذ منذ الصغر، أنت لا تنتمي إلى هذا المجتمع، فلا تكذبْ على نفسِك. لكن الحقيقة أنك ضحيةٌ بالفعل، ولم تقترف مِن الذنب شيئاً.
صديقتي العزيزة..
تزداد حالات التخلي عن الأطفال بطريقة مخيفة، هذه تلقي بابنها في وادٍ، وهذه تضعه أمام مسجد، وأخرى ترميه في النفايات.. وأنا وأنتِ قد لا نسلمُ من الحكم على طفل بريء بنفسِ المصير، إذا ما اتخذنا نفسَ الطريق والأسباب، فاقتفاء الأثر يؤدي إلى نفس المحطة.
إن المَنْحَ في غير موضعه لا يُضاعِف الحبَّ بل يُقزّمه، ويمحيه، ويميته ويميت قبله، ويرخّصك. إن تقدير النفس مهم للغاية، فإذا رضيتُ لنفسي الذلَّ والهوانَ فهل سأضمن الأفضل وما أستحقه يوماً ما؟
إن العاطفة خدّاعة، والمخادعُ محتالٌ ما إن يبلغ غايتَه حتى يرميكِ بعيداً ويتوارى، فلا تجعلي لقلبكِ السلطةَ الحاكمةَ، إن أقسام النفس حسب فرويد تتركب من الأنا والأنا الأعلى والهُو، والأنا الأعلى هي الرقابة، والصوت الذي يقول لكِ هذا حرام وهذا غير أخلاقي وهذا جيد، والهُو هو الجانب الشهواني الذي نشتركُ فيه مع الحيوانات، إذ إن الهُو قد يأمركِ بأفعال لا تليق، والأنا هو السلطة التي تُوازِن بين الهُو والأنا الأعلى وفقاً للظروف وما يُوجد، فلا تُهملي الاثنين وتنتصري لواحد فقط، هناك بعض الطلبات التي يمكن تأجيلها، لكن لا يجب قطعاً أن نغفل عن الصحيح من الخاطئ.
صديقتي العزيزة..
أنتِ غاليةٌ، فلا تفتحي على نفسكِ باباً لستِ تستطيعين كبحَ عواقِبه، فلا فرامل لهذا الطريق، فحتى الليالي الطويلة سيفتِك بكِ فيها الضميرُ، والندمُ، ولا أسوأ من الندم، ولا أسوأ من أن يوقد المرء حريقاً لينتصر لمشاعر زائفة، فالذي يحبكِ يحبكِ في العلن، ويفتخرُ بكِ، ولن يرضى لكِ بما قد يُدنسكِ، ويخاف حتى النصيب، أما صاحبنا الذي يطلب منكِ ما لا يريده لأخته، فقد ضمنكِ زوجةً حتى صار يطالبك بحقوقه.
إن المواقف وحدَها من تُثبت صدقَ المشاعر، وإن كان الحب هو قضم تفاحة في بستان ليس في ملكيتك فإني أغسلُ يدي عن حب كهذا، والخطأ الشائع الآخر الذي يجب أن يُلقى له بالٌ هو أن الخِطبة نفسَها ليست إلا وعداً بالزواج، ويقعُ عليها ما يقع على ما دونها، فكم من خِطبة لم تتم، وكم من خطيب فرّ!
إن مشكلتنا، وخصوصاً الفتيات المراهقات هي البحث عن أذن تستمع، وشخص يفهم، لأننا مثقلون بشكوى (في معظمها تكون شكوى تافهة) ونحتاج إلى كلمة تطبطب علينا، وقلب يقول: ها أنا ذا معكِ، لستِ وحدَكِ. إلى أن نثق ونقع في الفخ ونُغتال ويركض صاحبُنا إلى البحث عن فريسة/ضحية أخرى يستمعُ إليها، يطبطب عليها، يطلب رؤيتها، صورها… إلخ.
الحكايةُ في معظمها واحدة، فانتقوا في الهوى، فإنَّ الحب بغير اختيار مُدنس، فلا تزجوا الحب إلى غياهب الظلمِ والظلمة، فلَطالما كان الملاذَ الآمن والروحَ الطاهرةَ. وكل ما يقام من جرائم باسمِهِ فليس هو الإحالة الصحيحة عليها.
صديقتي العزيزة..
بحفظِ امرأةٍ تُحفظ أسرة، فعلّموا أولادكم أن من استغل أنثى ستدور عقارب الزمن عليه، وعلّموا بناتكم أن ثقتكم بهن كبيرة، ولا يوجد شيء يستحق أن تكسر من أجله، وكونوا متنفساً لهن، ولا تخنقوهن ليبحثن عن بديل لكم.
وعلموهم -بناتٍ وأولاداً- المسؤولية.
وفكِّروا في أطفالكم، حتماً لن تَرضوا أن تُنجبوا طفلاً وُلد بندبة نقص وشعور بالذنب مذ أول صرخة صرخها -قاصداً من ألم- في هذا العالم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.