مهما بلغتِ المساواة من درجات في أفضل المجتمعات (الاسكندنافية مثلا) يبقى التّوازن بين الجنسين مهزوزًا ومُجحفًا للمرأة، حتى أنّنا تعوّدنا على ذلك. ومهما كان إيماننا بقيم العدالة والإنصاف والحريّات، نمرُّ مرور الكرام على نساءٍ يعشن وضعياتٍ بالغة الحيف. سواء بعيون مُغمضة أو مفتوحة، فإنّنا لا نرى، أو نُرغِم أنفسَنا على ألّا نفعل. إنّه قانون الحياة؛ الضّعفاء يعانون، والأقوياء يسودون، كيفما كانوا، ولا بد من ضعفاء يُشعرون الأقوياء بقوتهم، وجبروتهم. قد يكون الضُّعفاء من دين، أو عرق، أو جنس، أو مستوى اجتماعي آخر غالبًا.
ولكن الحيف الذي لحق ويلحق المرأة، منذ أن وُجدت إلى جانب آدم على الأرض، يتجاوزُ هذا التّقسيم الرُّوتيني للقوة؛ إنّه حيفٌ متأصّل، يختلف بدرجاتٍ بين مجتمع وآخر، وأصعبه ما تمارسه النّساء بينهن. قد نقول: إنّ الإرث الثقيل يجعل الإساءة شيئًا بديهيًا للمرأة، ومن شدّة ما تتعرّض له، يُصبح نمط حياة تُرغم الأخريات على قبوله، إذ لا يمكن أن ينفردن بالظّلم، ولا بد أن يمرّرنه، ويمارسنه بينهن، فهناك من أقنعهن أنّ المرأة الأخرى عدو لا محال. لذا منظر امرأة تدافع عن قيم المجتمع المُسيء لها، أو تحاول أن تمنع نساء أخريات من الخروج عن الطّوع أو الوصاية، أو الأدوار المحدّدة من المجتمع، ليس غريبًا أو فريدًا. قد يكون ذلك اقتناعًا شديدًا بهذه القيم، أو فقط عدم قبول نجاح الأخريات، في ما فشلت فيه هؤلاء النساء، أي الخروج عما يقرّره آخرون قبل ولادتهن، عما ستكون عليه حياتهن.
كلّ يوم، تواجهنا حالات نساءٍ قُمعن بقسوة، لأنّهن حاولن "التمرّد" على التقاليد، وخصوصا بشكل شبه حصري في مجتمعاتنا العربية. من الفتاة الفلسطينية، إسراء، التي كان ذنبها القليل من الحرية التي لم تخرج عن عمل حر، وخروج خفيف مع الصديقات، إلى هاجر، الصحافية المغربية التي تفرّج العالم على تفاصيلها الحميمية، وعرف تفاصيل ما حدث ويحدث بجسدها، وأُجبرت على الخضوع لفحص طبي، للتأكّد مما إذا كانت قد خضعت للإجهاض الممنوع قانونًا، وهي التّهمة التي لم يثبتها الفحص، وحُكم عليها بالسّجن مع ذلك. أيّ سخرية هذه؟ ولُجَين السّعودية التي سُجنت لأنّها قادت سيارة، ثم سُجنت ثانية لأنّها خلعت غطاء رأسها في بلدها، بدلًا من أن تخلعه في الخارج، وهو أمرٌ جار به في مجتمعها. وما زالت في السّجن، هنّ ثلاثُ نساء بالغات الشّجاعة والجمال والأنَفة، وجدن أنفسهن أمام الموت والسّجن، لأنّهن أردن أن يكن صادقاتٍ في حياتهن، ويمارسن القليل مما يمارسه المُجتمع كله من أشياء الحياة البسيطة. قليل من الحرية فقط، وليست الحرية كلها، فذلك بعيد للغاية.
عندما نتأمل هذه النّماذج وأخريات بالملايين، كنّ ضحايا لكونهن نساء: زواج قاصرات، جرائم "شرف"، اغتصاب، عنف يصل إلى القتل، تحرّش دائم داخل بيئة الدراسة والعمل وفي كل مكان، ابتزاز، منع من العمل أو الدراسة، تمييز في الأجور، استغلال للحاجة المالية.. وغير ذلك من الجرائم التي تُرتكب كل يوم ضد المرأة، ومع ذلك لو انشغلت إحداهن بهذا، ستُتّهم بالتطرّف والمبالغة.
هؤلاء النساء لسن كائنات غريبة، بل هن أخوات وأمهات وزوجات وبنات وجارات وصديقات وحبيبات الجميع، نساءً ورجالًا، فكيف نغضُّ الطرف؟ قبل شهور، أعلن عن مبادرة جمعيات تُعنى بالمرأة، في 27 بلداً آسيوياً وأفريقياً، إلى إضرابٍ عام للنّساء اليوم (الثامن من مارس/ آذار 2020)، تحت شعار: "إذا توقّفت النّساء توقف العالم". وتقول الدّاعيات: كل امرأة تحتجُّ، تساعد في توازن العالم، ومع انضمام كلّ النساء في موجة واحدة، سيحدث التغيير في ذهن المجتمع، وينتبه إلى الإساءة البالغة التي تتحمّلها النساء.
ولكن ألا يعرف الجميع أنه إذا توقفت النّساء، توقّف العالم؟ يمكن للإضراب أن يشكّل علامة فارقة، وتاريخا مرجعيا يجعل المؤسسات والحكومات تتخذ إجراءات أكبر لحماية المرأة. هي خطوة قوية من أجل إعادة الاعتبار للمرأة، وحمايتها من العنف والتمييز بكلّ الأنواع والأشكال.
تُلقي النساء عادة باللّائمة على المجتمع، لكن ألسن هن جزءًا منه؟ في تقرير لمجموعة البنك الدولي، لعام 2019 يصنّف بلاد العالم في ما يتعلّق بوضع المرأة، حازت السعودية على معدل 25.63 نقطة على 100، لتكون بذلك الدولة "الأسوأ" للنّساء الراغبات في العمل، على الصّعيد العالمي. وفي التفاصيل، ثمّة معياران من المعايير الثمانية المطروحة، حصلت فيهما المرأة على "صفر" نقطة، وهما "القدرة على السفر/ التحرّك"، و"الحصول على راتب". وتتقاضى المرأة السعودية، على الرغم من قلة عدد العاملات، أجراً أقلّ بنحو 56% من الرجل السعودي، كما تشير صحيفة Saudi Gazette السعودية الناطقة بالإنكليزية.
وحلّت كل من دولتي الإمارات والسودان في المرتبة الثانية من حيث أسوأ الدول العربية للمرأة في قطاع الأعمال. وتستند نتيجة التقرير إلى القوانين والتّشريعات الموجودة، حيث أعطى علامة "0/100" لكلتا الدّولتين في معيار "البدء بوظيفة"، فيما أعطى أيضاً العلامة نفسها للإمارات، من حيث وضعها في مجال العمل، بعد إنجاب طفل. ولا يمكن للمرأة الإماراتية أن تتقدّم، على سبيل المثال، بطلب جواز سفر مثل الرّجل، كما تشير المادة 37 من قانون الجنسية وجوازات السّفر. وعلى الرغم من أن الوضع العام يسمح للمرأة الإماراتية بخوض تجربة إدارة الأعمال بعلامة 75/100 بحسب التقرير، ويسمح لها بالحصول على راتب تقاعد بعلامة 75/100 كذلك، فإنّ المؤشّر السابق يبقى علامة سلبية على وضعيتها. فيما احتلّ المغرب صدارة الدول العربية برصيد 73.13 نقطة، بحسب تقرير أصدرته "مجموعة البنك الدولي". وبحسب الوثيقة، تمتلك المرأة المغربية الحرية المطلقة بالتحرّك، والطريق معبّد أمامها للبدء بوظيفة جديدة، والمجال مفتوح أمامها لإدارة الأعمال.
وبذلك يكون المغرب البلد العربي الوحيد الذي حاز على ثلاث علامات كاملة (100/100) لثلاثة معايير من أصل ثمانية. وتبقى العلامة الموضوعة للمغرب على مسألتَي تنظيم الممتلكات والزّواج العلامة الوحيدة دون المعدّل، ما يتطلّب مجهودات أكبر لطيّ المسافات التي تفصلها عن التمتّع بحقوقها.
هكذا تواجه المرأة العربية إرثاً ثقيلاً من العقلية الأبوية، فهل يمكن اعتبار ما تعيشه تطوراً كبيراً بالنظر إلى هذا الإرث، لأنّ التغيير لا يتحقّق دفعة واحدة؟ هذه الرؤية لا تمثل إلا شجرة تحاول تغطية غابة الانتهاكات، بالقول إنّ المرأة أصبحت قاضية ووزيرة ومسؤولة، في عدد من الدول العربية. هذا صحيحٌ، لكنّه واقع لا يغير الوضعية السيّئة للغاية لنساء بالملايين، لأنّهن لم يكنّ محظوظات بالتعليم وفرص التقدّم في الحياة والعمل. إنّهن نساء أضرب العالم عن منحهن وضعاً يليق بالإنسان، بِغضّ النّظر عن جنسه. ومع كلّ الألم الذي يحملنه، يعانقن الأمل كما يجدرُ بمن يصنعُ الحياة، ويمنحها كما لا يفعلها أيُّ مخلوق آخر.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.