بدءاً من اليوم الأول الذي جلست فيه سلمى البركاتي (31 عاماً) خلف مقود سيارتها، بعدما رفعت السعودية الحظرَ على قيادة السعوديات، تجمَّع رجالٌ في قريتها القريبة من مكة حولها، وأطلقوا سيلاً من الإهانات.
تحوَّلت الإهانة بعد وقتٍ قصير إلى تهديدات، ثُمَّ بعد أقل من 10 أيام من السماح للنساء بالقيادة أيقظ أحد الجيران سلمى في منتصف الليل، ليخبرها أنَّ سيارتها تحترق.
في مقطع فيديو شاركته على حسابها في تويتر قالت سلمى: "رجال الحي حرقوا السيارة لأنَّهم جميعاً ضد قيادة النساء، ليسوا موافقين على ذلك". كان صوتها يرتعد، بينما تلتهم ألسنة النيران سيارتها.
وقالت مُناشِدةً الملك سلمان وابنه ولي العهد محمد بن سلمان: "احمياني منهم، أعيدَا لي حقوقي".
ركام سيارة سلمى شاهد على الاعتراض
ورغم أشهر من حملة مكثفة للتشجيع على القيادة من الحكومة، قدَّمت بقايا سيارة سلمى المحترقة أوضح مثال على أنَّ وجود المرأة في مقعد القيادة لا يحظى بتأييد الجميع. ويشير التذمر حول قرار الحظر أيضاً إلى المقاومة التي يواجهها سلمان وولده، بينما يحاولان قلب أعراف اجتماعية دامت لعقود، وإدخال تغيير إلى المجتمع السعودي الذي ظلَّ معظم العالم ينظر إليه باعتباره مجتمعاً ثابتاً.
أصدرت الحكومة أمراً في سبتمبر/أيلول الماضي، ينصُّ على أنَّها ستسمح للنساء بقيادة السيارات، لاغيةً بهذا سياسةً سارية منذ 1957، أصبحت رمزاً قوياً على اضطهاد النساء في المملكة.
والحملات والإعلانات على مدى شهور لم تكن كافية
كان حرص الرياض على تحقيق انتصار في مجال العلاقات العامة في هذا الأمر واضحاً، من التجهيزات التي أحاطت بالإعلان، مثل قراءة الإعلان على الهواء مباشرةً، مصحوباً بفعالية إعلامية ضخمة في واشنطن. وأفادت التقارير أنَّها استخدمت شركة Cambridge Analytica، الشركة البريطانية المشهورة بالتلاعب بالشبكات الاجتماعية، لتخفيف آثار الضربة على المتشددين في البلاد.
وانضمَّت سريعاً شركات السيارات المتحمسة للحصول على العملاء الجدد بمجموعة ضخمة من الإعلانات. أظهر بعض تلك الإعلانات مجموعة نساء يرتدين عباءات ويسرن في الصحراء، تتطاير ملابسهن في نسيم الغسق بينما ينظرن بعيداً، ويحثَّهن آخرون بعبارات مثل "تجرَّئي" أو "الطريق لكِ".
يقول البعض: إن القيادة تؤذي مبايض النساء
لكن التغيير الذي دخل حيز التنفيذ، في 24 يونيو/حزيران، يأتي مناقضاً لسنوات من المبرِّرات الثقافية والدينية التي اختلقها رجال الدين في البلاد؛ إذ صرَّحوا أنَّ السماح للنساء بالقيادة سيؤدي إلى الاختلاط، وأصرَّ أحد رجال الدين أنَّ القيادة يمكن أن تتلف مبايض النساء، بينما برَّر آخر الحظر على أساس أنَّ النساء يملكن نصف عقل، وأنَّ هذا النصف كان يُستخدَم بالفعل في التسوق، على حد زعمه.
لا تزال هذه المواقف موجودة رغم تجريد الحكومة السلطات الدينية من معظم سلطاتها هذا العام 2018، وهي الخطوة التي تضمَّنت اعتقال ما يقرب من 30 رجل دين بارزاً.
وتوصل استطلاع رأي أجرته شركة YouGov قبل رفع الحظر، إلى أنَّ ربع السعوديين تقريباً يعارضون رفعه. وأظهر مقطع فيديو نُشِر على موقع تويتر رجلاً يُقسِم أنَّه سيحرق أي امرأة وسيارتها إذا تعطَّلت السيارة. بينما غرَّد آخرون تحت وسم #لن_تقودي واقترحوا عمل حارة في الطريق للنساء فقط، حتى يمكنهن الاصطدام ببعضهن البعض.
واعتقال الدولة للناشطات لا يعكس سياسات التغيير
ورغم رفع قرار الحظر، فإنَّ المملكة أبعد ما تكون عن هجر التقاليد، وتُبقي الحكومة على رقابة صارمة على الحياة في المملكة. وتواصل الرياض ما تسميه منظمة العفو الدولية "حملة قمع صارمة"، ضمَّت ناشطات حاربن طوال عقود لأجل الحق في قيادة النساء.
وأفادت منظمة العفو الدولية، يوم الأربعاء 1 أغسطس/آب، باعتقال الناشطتين الحقوقيّتين سمر بدوي ونسيمة السادة. وقالت لين معلوف، مديرة قسم البحوث بالمكتب الإقليمي للمنظمة في الشرق الأوسط في بيان: "مثَّلت هاتان المرأتان الشجاعتان آخر ما تبقّى من مجتمع حقوق الإنسان في البلاد، والآن احتُجِزتا أيضاً". ولا تزال أسباب اعتقالهما غير واضحة.
وتابعت: "قضت القيادة السعودية الجديدة تحت قيادة ولي العهد محمد بن سلمان على أي مجال لوجود المدافعين عن حقوق الإنسان في البلاد".
وقالت مها عقيل، الصحافية المقيمة في جدة لصحيفة Los Angeles Times: لم تكن هناك إلا حوادث قليلة فيما يتعلَّق بمقاومة قيادة النساء للسيارات، مثل حرق سيارة سلمى.
وتابعت في مقابلة عبر الهاتف، يوم الثلاثاء 31 يوليو/تموز، وهي تضحك من الفكرة: "يُحدِّق معظم الرجال الذين يرون امرأةً تقود، لكن لا بأس".
الخوف يمنع السعوديات من الحصول على الرخصة
بدوره قال كريم زين، الذي يعمل في وكالة M&C Saatchi بمكتب أبوظبي، إنَّ نساء كثيرات مترددات في الإقدام على الخطوة، رغم أنَّهن لا يحتجن الإذن من ولي أمر ذكر ليستخرجن رخصة القيادة، وهو استثناء نادر ضمن نظام الولاية الصارم الذي تفرضه الدولة، والذي يمنح الرجال سلطة على معظم جوانب حياة النساء.
وأضاف في مقابلة هاتفية: "أظهر بحثنا أنَّ النساء كنَّ سعيدات ومتحمسات للقرار، لكن كان هناك خوف، وكان خوفهن متمثلاً في الرجال". وتابع: "لا يتعلق الأمر بالثقة، ولا يتعلق بالقدرات، إنَّه الخوف من الرجال الذين سيطروا على المجتمع لوقت طويل".
يوافقه في الرأي وليد كنعان، المدير الإبداعي في وكالة TBWA/RAAD، وهي وكالة إعلانية تعمل مع شركة Nissan في السعودية.
قال كنعان: "أدركنا أنَّ مقاومة هذا الأمر تتنامى في السعودية داخل المجتمع، ويتعرَّض عدد كبير من النساء للترهيب بهذه المقاومة… كنّ خائفات أن يُخيِّبن آمال الأب، أو الأخ، أو الرجل المسؤول في المنزل لو حصلن على الرخصة".
حتى تشجيع شركات السيارات لم يكن كافياً
أنتجت كلتا الوكالتين إعلانات تركز على رد فعل الرجال السعوديين على القرار. يُصوِّر مقطع الفيديو الذي أنتجته وكالة M&C Saatchi لصالح فرع شركة Shell في الشرق الأوسط مجموعة من الرجال يتحدثون أمام الكاميرا، ويُظهرون تقبُّلَهم لقيادة النساء في عائلاتهم، بينما صوَّرت Nissan مجموعة من النساء أثناء درس القيادة مع أحد أقربائهن القريبين من الذكور، كان يتولى مسؤولية تدريبهن. وأثار كلا المقطعين مناقشات حادة على الشبكات الاجتماعية.
120 ألف رخصة صدرت، لكن عدد السائقات أقل بكثير
قالت السلطات السعودية في يونيو/حزيران، إنَّ أكثر من 120 ألف امرأة تقدمن للحصول على رخصة قيادة، لكن المعلقين تحدثوا عن وجود عدد قليل من النساء يقُدن السيارات على الطرق. لكنَّ مها قالت إنَّ هذه الملاحظة قد تكون مضللة، لأنَّ طرق السعودية أقل نشاطاً في الصيف.
وقالت: "بعودة الناس للمدارس والعمل بعد الإجازة، سنرى حشوداً أكثر، وحينها سنرى حوادث أكثر، لكن إلى الآن أرى أنَّ الأمور إيجابية"، مضيفةً أنَّ الكثير من النساء ما زلن في مرحلة شراء السيارة وتلقِّي الدروس.
لكن جدة والرياض تختلفان كلياً عن سائر المدن
لكن ما هو مقبول في مدن مثل جده والرياض يصعب قبوله في أماكن مثل قرية الصمد، التي تعيش فيها سلمى، وهو مكان يخلو تماماً من الصورة النمطية للرجل السعودي الثري، الرجل الذي يسكن القصور، ويتنقَّل مرحاً من أحد منتجعات الريفييرا الفرنسية إلى آخر.
ووفقاً لصحيفة عكاظ السعودية اليومية، تعمل سلمى أمينة صندوق في متجر، مقابل أجر شهري 1066 دولاراً، تنفق نصفه كل شهر على سيارات الأجرة. وقد دفعت تقريباً 700 دولار لدروس القيادة، ودخلت "جمعية" مع نساء أخريات لشراء سيارة مستعملة.
وحرق السيارات لن يثني سلمى عن القيادة
سلمى اكتشفت لاحقاً أنَّ الجار الذي أخبرها أنَّ سيارتها تحترق هو في الواقع مَن دبَّر الأمر برمته مع رجلين آخرين.
ضغطت عائلاتهم على سلمى لتعفو عنهم، حتى إنهم عرضوا أن يجمعوا مالهم ويشتروا لها سيارة جديدة، لكنَّها رفضت. (لكنَّها مع ذلك قالت إنَّها قبلت سيارة منحها لها فهد الروقي، نائب رئيس المجلس البلدي في مكة المكرمة).
وقالت سلمى في مقابلة مع جريدة عكاظ: "طلبتُ من الشرطة حمايتي من رد فعل العائلات. إذ كانوا عازمين على الانتقام لأنّي أدخلتُ أبناءهم الحجز. لن أتنازل عن حقوقي أبداً".
وتابعت: "هذه الحادثة لن توقفني، لن أتراجع عن قراري في القيادة".