كانت جانكو إيزوكا في الـ16 من عمرها عندما أخذوها عنوةً إلى عيادةٍ في شمال شرقي اليابان وأُخضِعَت لجراحةٍ غامضةٍ، اكتشفت فيما بعد أنها ستحرِمها من إنجاب الأطفال.
"أعطوني مُخدِّراً، ولا أتذكَّر شيئاً بعد ذلك، وعندما استيقظت كنت على فراشٍ ورأيت حوضاً. أردت بعض الماء، لكنهم أخبروني بأنه غير مسموحٍ لي بالشرب"، تحكي إيزوكا.
في ذلك الوقت، كانت جانكو تعمل خادمةً مقيمةً في أحد المنازل. وسمعت من والدَيها عَرَضاً، أنها أصبحت واحدةً من نحو 16.500 شخص خضعوا لعملياتٍ جعلتهم مصابين بالعقم طبقاً للقانون الياباني، الذي كان مطبَّقاً بين عامي 1948 و1996 بهدف تحسين النسل.
وقد واجهت اليابان مطالباتٍ عديدةً من هيئات منظمة الأمم المتحدة بالتعامل مع الفصول المُظلِمة في تاريخها. جاء آخر تلك الإنذارات من هيئة الأمم المتحدة بالتخلُّص من التمييز ضد المرأة، والذي وُجِّه للحكومة في مارس/آذار 2016، لمساعدة الضحايا للحصول على إنصافٍ قانوني وتعويض وخدماتٍ لإعادة التأهيل.
تصف داليا لينارت، رئيسة الهيئة، التعقيم القسري بأنه خرقٌ لحقوق المرأة الإنسانية، "يصل في بعض الحالات إلى مستوى التعذيب".
وفيما تدفع الحكومة بحجة أن تلك الإجراءات قد نُفِّذَت في ظلِّ قانونٍ دعمه البرلمان المحلي، بدت مؤخراً علاماتٌ مُتردِّدةٌ على حراكٍ مُحتَمَل.
جراحة لوقف الإنجاب بالقوة
خضعت إيزوكا لجراحةٍ يجري خلالها ربطُ أنابيب رحمها في عام 1963؛ للاشتباه في أن لديها إعاقةً ذهنيةً. بعدها بـ55 سنةً، يرتجف صوتها وهي تصف أثر ذلك عليها:
"ألمٌ مستمرٌ في المعدة، وعبءٌ نفسيٌ ثقيلٌ. لقد ذهبت إلى طوكيو لأرى إمكانية إجراء جراحةٍ عكسيةٍ، لكنهم أخبروني بأن ذلك غير ممكنٍ. لقد سرقوا حياتي!".
ضحيةٌ أخرى للتعقيم القسري هي يومي ساتو، التي كانت تبلغ من العمر 15 عاماً حين أُجرِيَت لها العملية في عام 1972. وتقول زوجة شقيقها، ميشيكو، لصحيفة الغارديان البريطانية: "عندما كانت في سن الـ22 والـ23، كان هناك حديثٌ عن زواجها، لكنها حين كانت تقول إنها لا يمكنها الإنجاب كان خاطِبوها يرفضون إتمام الزواج".
أول دعوى قضائية ضد القانون
لم تقبل ساتو -وهو اسم غير حقيقي لحماية الخصوصية- بالصمت على ما جرى لها، فرفعت دعوى قضائية ضد الحكومة اليابانية في يناير/كانون الثاني 2018، تطالب فيها بتعويضٍ من الحكومة اليابانية قدره 11 مليون ين ياباني عن آثار العملية، مُتعلِّلةً بأن قانون تحسين النسل خرق دستور ما بعد الحرب بالبلاد؛ لأنه انتهك حق الناس في البحث عن السعادة.
وتُعد تلك الدعوى هي الأولى من نوعها في اليابان، ويأمل الضحايا الآخرون أن تُمهِّد الطريق لاعتذارٍ عامٍ من الحكومة وربما تعويض أيضاً.
بحسب السجلات الرسمية، تم تعقيم سانتو؛ بسبب تشخيص إصابتها بمرض "ضعف العقل" الوراثي. غير أن عائلتها تنكر ادعاءات الأطباء بوجود نمطٍ وراثيٍ، مدّعين أنها عانت تلفاً دماغيّاً؛ بسبب حقنها بجرعةِ مُخدِّرٍ زائدةٍ، تعرَّضت لها في أثناء إجراء جراحةٍ تجميليةٍ وهي صغيرةٌ لعلاج إصابتها بشق الشفة.
في جلسة الاستماع الأولى التي تمت بمحكمة مقاطعة سينداي، وعُقدت في الـ28 من مارس/آذار 2018، طالب مُمَثِّل الحكومة بإلغاء الدعوى، بحجة أن الإجراء كان قانونياً في ذلك الوقت، وقد ظلَّ معمولاً به قرابة 5 عقودٍ، ولم يتم إلغاؤه حتى عام 1996.
منع ميلاد "أطفال أقل شأناً"
بينما كات اليابان تتعامل مع استسلامها في الحرب العالمية الثانية، تحدَّث بعض السياسيين عن الحاجة لـ"تحسين نوعية نسل الأمة اليابانية".
ووفقاً لما ورد في السطر الأول من القانون، فإن "الهدف من هذا القانون هو منع ميلاد أطفالٍ أقل شأناً من منظورٍ جينيّ/وراثي، ولحماية حياة وصحة الأم كذلك".
واستهدف القانون أولئك المصابين باعتلالاتٍ عقليةٍ وراثيةٍ أو "إعاقاتٍ ذهنيةٍ وراثيةٍ". ثم ساعد تعديلٌ لاحقٌ في ضم أولئك المُصابين بإعاقاتٍ غير وراثيةٍ كذلك.
بموجب القانون، تم تعقيم نحو 25 ألف شخص بين عامي 1948 و1996، من بينهم 16500 شخص لم يوافقوا على إجراء العملية، إلا أنهم تعرضوا لتعقيم إجباري.
كانت أصغر ضحيةٍ معروفةٍ لهذا القانون التمييزي تبلغ من العمر 9 أو 10 سنواتٍ، فيما كانت 70% من الضحايا نساء أو فتيات.
وبحسب ياسوكاتا إيشيكاوا البروفيسور في جامعة طوكيو، فإن الأطباء النفسيين هم الذين كانوا يُشخّصون المرضى الذين يعتقدون أنهم بحاجة للتعقيم. كما حظي مُقدِّمو الرعاية في دُور رعاية ذوي الإعاقات الذهنية بسلطة تقديم المرضى للتعقيم. أما خارج مثل هذه المنشآت، فقد كانت تلك مهمة مسؤولي الرعاية المحليين المعروفين باسم "مينسي-إين"، وهم جماعة تطوعية لخدمة الفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع الياباني.
استفزاز حكومي وانتقاد دولي
وفي عام 1972، استفزت الحكومة المعارضين، من خلال اقتراحها إجراء تعديل على قانون الحماية الجينية يسمح للأمهات الحوامل بأجنةٍ ذات إعاقاتٍ، بإجراء عمليات إجهاضٍ.
وفي رد على هذا الاستفزاز القانوني، احتج المدافعون عن حقوق المعاقين، وخصوصاً المصابين بالشلل الدماغي، وضغطوا -كما يقول يوكو ماتسوبارا أستاذ أخلاقيات علم الأحياء في جامعة ريتسوميكان- لمنع تمرير ذلك القانون في المجلس التشريعي. وشبَّهوا قانون الحماية الجينية بالتعقيم النازي، الذي تمّ سنّه بألمانيا في عام 1933، بعنوان قانون الصحة الوراثية، وقد شوَّه ذلك بشدةٍ صورة تحسين النسل لدى العامة، كما يقول الباحث الأكاديمي الياباني.
وفي عام 1984، فتحت فضيحةُ تعرُّض مريضَين في مستشفى نفسي خاص بولاية توتشيغي في شمال طوكيو للضرب حتى الموت، الباب أمام الانتقادات الدولية لممارسات اليابان في هذا الصدد. وفي أواخر عقد الثمانينيات، انخفض عدد ضحايا قانون التعقيم لأقل من 5 سنوياً.
تحركٌ بطيءٌ
وبحسب وكالة أنباء كوديو نيوز اليابانية، تخطط حكومة طوكيو لاتخاذ إجراءات تمهِّد الطريق نحو تعويضاتٍ مُحتَمَلة في المستقبل أو اعتذار رسمي للضحايا.
كان رئيس الوزراء في ذلك الوقت، جونيتشيرو كويزومي، قد اعتذر عام 2001 عن عقودٍ من سوء معاملة مرضى الجُذام، الذين تعرَّضوا للنفي في جزرٍ بعيدةٍ وللتعقيم القسري.
كانت جانكو واحدة من الضحايا الذين تحدثوا مؤخراً أمام أكثر من 50 شخصاً عن تجربتهم، في قاعة محاضراتٍ بجامعة توهوكو جاكوين في مدينة سينداي. وقد استغرقت سنواتٍ عديدةً لتحشد الشجاعة اللازمة لتتحدث بحريةٍ عن تعقيمها القسري، لكنها أدركت أخيراً أهمية أن تحكي…
"أريد أن يعرف الجميع حقيقة ما حدث. ما أريده حقاً هو أن تعتذر الحكومة وتُعوِّض كل من عانى".