منذ أسبوع كانت أمسيتنا راقية ذاخرة، بلقاء غني مع عضوات نادي الكتاب، واستضافة كاتب رواية [شرفة العار] للمبدع الأستاذ إبراهيم نصرالله.
تلك الرواية التي تغوص وتجول بأعماق نسيج المجتمع بأسلوب سلس من السهل الممتنع، وبحبكة مليئة بعنصر الإثارة والتشويق.. رغم قساوة المحتوى والمضمون.
أطل علينا كاتبنا من شرفته الواقعية.. المرتفعة، كعلو الشرف ليسرد علينا قصصاً وحكايات من واقع مؤلم لمجتمع بائس، وليتنقل بين شخوص جهنمية مدروسة، تبعد كل البعد عن الإنسانية.. شخوص بنفوس سوداء قاتمة كقلوب أصحابها تتزاحم على أرصفة العنجهية والتباهي بالرجولة الزائفة التي تقلب المفاهيم، وتحول الضحية إلى مجرم، والمجرم إلى جلاد على مذبح الشرف ومقصلة المجتمع.
في فستان أبيض كزهر اللوز والياسمين، بدأت بطلة الرواية خطواتها البريئة في حقول عتمة لمجتمع ظالم، يحمل أفراده المفاهيم الجبانة والأفكار المتخلفة البالية.
في تفسير قضايا الشرف والقتل من أجل الشرف..وكأن مجتمعنا بريء من أمراضنا النفسية، وكأن أخلاقنا حميدة وشرفنا مصون، فلا سرقة ولا خيانة، ولا كذب ولا نصب، ولا فَسَاد ولا احتيال.
(ما لقيت فرحان في الدنيا… غير الفرحان بنجاحه) على أنغام أغنية عبدالحليم حافظ، كانت فرحة العائلة بنجاح ابنتهم التي انتهت إلى مأساة بعد تخرجها وإلى قتل بطلة الرواية بيد أخيها، بعد أن اغتصبت مكرهة من سائق أبيها الذي انتقم من شقيقها الذي ابتز الجاني، بعد أن امتنع عن دفع دين له، فاستعاد هذا الدين من أخيها بسلب عذرية أخته بالقوة.
في هذه الرواية صرخة من الكاتب تجعل القارئ يعتصر من الألم، وتخلق به مجموعة من أحاسيس الغضب والثورة على الظلم لمجتمع متخلف يموت فيه الضمير بلا إحياء أو وازع لهذا الضمير… إن صمتنا وسكوتنا عن تلك الجرائم يجعلنا مشاركين بالجريمة والفاحشة.
تلك الجرائم التي تكون فيها الأنثى مظلومة، وهي الطرف الأضعف، ورغم ذلك هي من تدان، وهي من يتكالب عليها الجميع، وهي من تقتل رغم أنها قد تكون لا ذنب لها.
كما رأينا في حالة منار المشرفة الاجتماعية بطلة الرواية، وكما رأينا في حالة تغريد التلميذة البريئة التي أجهض جنينها بقتلها وبيد أخيها، بعد أن هددته بافتضاح أمره، الذي اكتشف أنه والد طفلها ومرتكب زنا المحارم، الذين من اللائق أن يكونوا السند والعزوة.
تلك الشرفات الملوثة بالدم تعبر عن تناقضات في الحياة الاجتماعية المملوءة بمئات من الظلال لمجموعات من العواطف والأحاسيس والمشاعر، من الفرح والحزن، والخوف والترقب، والأمل والجنون، والسخط والانتقام، التي تطل على الشارع من خلال تلك الشرفات التي تعكس مرايا التخلف، وتمارس فيها المئات من الجرائم من مجتمع أغلب فئاته مدانة، فالكل يتحمل جزءاً من المسؤولية، فهي جريمة مجتمعية بضغط قاتل من مجتمع ظالم، بغض النظر عن مرتكبيها الذين ينزل بهم أخف العقوبات، فقط لأنهم ذكور، مع العلم أيضاً أن هناك إناثاً قد يزنين بقصد، ولكن نتركهن للقضاء وليس لأقربائهن، لتنفيذ العقاب عليهن.
ما العبرة والمطلوب من تلك الروايات، والقضايا للاستفادة من تلك الدروس.
1 – نشر الوعي بين فئات المجتمع وأطيافه الفقيرة المعدمة بإمكانياتها، وحتى الغنية، الفقيرة بفهمها، تلك الأطياف، لا بد أن تنطق ولا تصمت، ولا بد أن تدافع عن حقوقها، وعن شرفها بالعدل والقضاء النزيه، الذي يسري القانون العادل، وليس بالثأر والقتل والانتقام، بل بتحضر ورقي وأعلى من تلك المناهج القذرة والمضامين السرية التي تعاقب فيها المرأة الشرقية وتحولها إلى سلعة تباع وتشترى في عالم من الوحوش الكاسرة الجبانة، والتي تتعامل معها كشريعة الغاب في ممارسة الجنس.
2 – المطلوب أيضاً مواجهة قضايا النساء المعنفات والمقموعات والمضطهدات والعمل على تثقيفهن ومساعدتهن على العيش الكريم بفتح ورش العمل لهن؛ لكسب الرزق.
في هذا العمل الإبداعي للكاتب نصرالله يأخذنا في أجواء أليمة تفطر القلب وتدميه؛ لما وصل حالنا، حتى إن تلك الضحايا وكأن المصائب لا تكفيهم، بل تلاحقهن حتى في السجون من الاعتداء عليهن من نساء سحاقيات اعتدن ممارسة العنف، وعنجهية لمن أضعف منهن حتى لو خرجن يخرجن بقلوب محطمة!
والقتل والتنكيل بماء النار لتشويههن ينتظرهن حتى بعد انتهاء مدة الحبس في سجونهن، فيقتلن على أبواب السجن، أو يجبرن على الزواج ممن فعل فاحشتهن؛ لكي يظل شبح ألم واعتداء المجرم يلاحق الضحية حتى بعد أن أصبح زوجاً!
أنصح قراءنا بقراءة تلك الرواية، الجميلة في سرد أحداثها، والحزينة لما آلت نهايتها.
في عالمنا المتخلخل الركيك صور لنا الكاتب بإدراكه العميق وحسه الوطني المرهف وشاعريته الرقيقة، صور لنا هذا الخلط بين رايات السواد الأشد وطأة، والأكثر إيلاماً، رايات الحداد على شهداء الوطن والواجب، ومن استشهد في سبيل الحرية والكرامة، وخلطها مع رايات التخلف والغباء رايات استعادة الشرف، وتثبيتها على شرفات وبيوت من همهم استعادة شرفهم الاجتماعي.
مع العلم أن جرائم الشرف في الأردن تشهد ارتفاعاً كل العام عن سابقه، فأكثر من 26 جريمة قتل نفذت بحق سيدات معظمها تتعلق بجرائم الشرف، في العام الفائت والجناة يَكُون الزوج والأخ ما نسبته 76 بالمائة، وهذه الجرائم، مع السطوة الذكورية، باتت ترتكب وسط مبررات مجتمعية ودعم قانوني برأي حقوقيين وجمعيات تعنى بحقوق المرأة في الأردن.
لذا لا بد من المطالبة بتشديد العقوبة وعدم إيقاع عقوبات مخففة، فكأن تلك العقوبات، نوع من التحفيز على ارتكاب الجريمة وَهُو غير كاف، فلا بد من بذل الجهود الوقائية التي تمنع الجريمة قبل حدوثها.
المادة 98 من قانون العقوبات أتت على عكس ما يتمنى البعض، في وقت تعد فيه جريمة الشرف كأي جريمة أخرى، خاصة أنها تمنح مرتكب الجريمة عذراً مخففاً، إن أقدم عليها "بثورة غضب"، فضلاً عن المادة الـ99 من القانون ذاته التي تفيد بتخفيض العقوبة إلى النصف حال إسقاط الحق الشخصي.
ولم تكن هذه المعادلة منصفة برأي حقوقيين ومواطنين على حد سواء.
أخيراً أشكر كاتبنا المبدع في إنارة القضايا الحساسة من خلال الكتابة الجادة الهادفة الراقية، التي تشكو منها مجتمعاتنا العربية بكثرة، كقضايا الفساد والرشوة، وكقضايا الشرف، وخاصة تلك الموجودة بكثرة في الأردن وفلسطين ودول المغرب العربي، والعمل على التفكر لإيجاد حلول لها ولغيرها من قضايا الجهل والتخلف التي ترتكب في شرفات تلك المجتمعات لنسمو في أخلاقنا، وهذا هو الشرف بعينه.. وليس بجرائم كالقتل التي ترتكب لعار الشرف التي هي بلا شرف.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.