في يوم مشمس وصحو من أيام العطلة، تستيقظ الأم لأداء بعض المهام المنزلية، يلحق بها ابنها الذي يشغّل التلفاز لمدة ساعة كاملة ثم تنتهي برامجه المفضلة، يخبرها الطفل بضجر: أنا ملّان، ولا أجد ما أفعل!
تسيطر على الأم مشاعر الإحساس بالذنب تجاه طفلها، مع إحباط مستمر؛ لأنها مهما وفّرت له من ألعاب فهو يزهدها ودائماً يشعر بالملل في وقت ما، تبدأ الأم باقتراح أشياء يفعلها الطفل، لكنه لا يقبل أياً من اقتراحاتها، ثم يتذكر جهازه اللوحي (التابلت)؛ فيهرع إليه ليشغل وقته.
في مكان آخر، يستيقظ طفل آخر على نداء والده: "هيا ستتأخر على النادي"، يوم الطفل ممتلئ ما بين الألعاب الرياضية، وحصص الفنون، وحلقات التحفيظ، والدورات العلمية وغيرها، الطفل لا يجد فرصة ليشعر بالملل، في آخر اليوم يذهب الطفل إلى سريره تعِباً، وينام نوماً عميقاً أقرب للغيبوبة، بينما يبتسم والده في فخر؛ لأنه الآن يقوم ببناء محكم من كل الجوانب.
في الحقيقة، كلا الطفلين ينقصه شيء مهم جداً، وهو الشعور بالملل!
فما هي فوائد الملل؟
1- يزيد القدرة على الإبداع:
تقول الدراسات إن الأفراد الذين لديهم وقت أقل من الأنشطة المنظَّمة لديهم وقت أكبر لزيادة قدراتهم الإبداعية، ومهارات حل المشكلات، ومهارات التحفيز الشخصي.
وفي دراسة أجريت في ثمانينيات القرن الماضي بدولة كندا لمقارنة معدلات الإبداع بين الأطفال، حيث كان التلفاز مازال اختراعاً حديثاً- تمت مقارنة 3 مدن كندية؛ إحداها تحتوي على 4 قنوات محلية، والثانية تحوي قناة محلية واحدة، والثالثة لم يدخلها البث التلفازي بعد، ووُجد أن أطفال المدينة الثالثة يتمتعون بمهارات تفكير أفضل وقدرات خيالية أعلى من أطفال المدينتين الأخريين.
إن إغلب المبدعين (على سبيل المثال، الكتاب الروائيون) قضوا الكثير من أوقاتهم يتأملون النافذة أو يقومون بأعمال منزلية رتيبة، وحاربوا الملل بالكتابة، فكانت الكتابة متنفَّساً لملء الوقت ليس إلا، حيث تشير الدراسات إلى أن العقل يكون في أوج طاقته الإبداعية وقدرته على إيجاد حلول للمشكلات في أثناء القيام بالأعمال الرتيبة (جلي الصحون على سبيل المثال).
2- ينمي الشخصية ويصلح النفسية
تشير إحدى مقالات جمعية علم النفس الأميركية إلى أن الناس عندما يشعرون بالملل فإنهم يبدأون بمراجعة ماضيهم للاستفادة منه، ويتفكرون في معاني الأشياء ويضعون خططاً أفضل لمستقبلهم، وهذه من الفوائد العظيمة للملل.
إن الأنشطة المنظَّمة -كحصص الرياضة والفنون والأنشطة المكتبية وغيرها- توفر لأولادنا بيئة تعليمية خصبة، ولكنها حين تزيد على حدها لا تعطي الأطفال فرصة البقاء مع أفكارهم الخاصة، ليكتشفوا ذواتهم ومواهبهم المدفونة بعيداً عن المؤثرات الخارجية.
لذلك، فإن من المهم جداً وجود أوقات لعب حر بعيداً عن الأنشطة المجدولة، ومن المهم أيضاً ترك الأطفال لمواجهة أوقاتهم المملة بدلاً من أن يكبروا وهم يبحثون دائماً عن التحفيز الخارجي، إن هذه الأوقات هي فرص ثمينة ومميزة للتعلُّم فلا تضيِّعها بتقديم الحلول الجاهزة، فقط أعطِهم المساحة والوقت والقدرة على صنع بعض الفوضى لملء أوقاتهم.
3- يصنع للأطفال بيئة مسلية!
إننا حين نبرمج أطفالنا دائماً بالأنشطة، كمشاهدة فيديو في أثناء القيادة، ومشاركتهم اللعب إذا لم يكن هناك أطفال آخرون، وشراء الكثير من الألعاب خاصة الكهربية (التي تُصدر الكثير من الأصوات والأضواء)، فهل فكرنا في الفرص التي نضيِّعها عليهم بوجود بيئة هادئة؟
إذا قارنا أطفال القرى بأطفال المدن، نجد أن كثيراً من أطفال القرى لديهم الكثير من الفراغ والبيئة الخصبة من الأدوات البسيطة، وآباء وأمهات مشغولون بأعمالهم وأنشطة منظمة أقل للأطفال، فيخترع الأطفال وسائل التسلية كتنظيم الحجارة لصناعة البيوت وصناعة مغامرات طريفة بالأدوات المتاحة، أما الكثير من أطفال المدن فيجتمعون معاً لمشاهدة التلفاز أو ألعاب الفيديو.
عندما يكبر الأطفال فلن تستطيع ملء أوقاتهم كالسابق، اترك الأطفال يتعلمون كيف يحفزون أنفسهم وكيف يواجهون الحياة الواقعية بمفردهم.
4- مفيد للآباء أيضاً:
إن وجود وقت خاص للآباء لا يشتركون فيه مع أبنائهم في نشاط ما هو أمر صحي، يضمن لهم استمرارية القدرة على العطاء في أوقات لاحقة، فالآباء المضغوطون دائماً بمتطلبات أولادهم هم آباء قلقون وغير سعداء وتنتقل مشاعرهم لأطفالهم وتؤثر عليهم بالسلب؛ لذا من المهم ترك مساحة للطفل يشعر فيها بالملل ويأخذ فيها الأبوان هدنة ليستطيعا مواصلة العطاء له بشكل صحيح.
كيف نستفيد من الملل؟
إننا نخاف الملل، ونشفق على أبنائنا من المشاعر السلبية التي قد تصيبهم إذا وقعوا فيه، ولكننا إذا أخذنا في الاعتبار النقاط التالية، فإن الملل سيكون تجربة ثرية تضيف الكثير للطفل ولا تهدر وقته.
1- مهارات شخصية مهمة:
يحتاج الأطفال، قبل خوض تجارب الملل، لمهاراتٍ وصفاتٍ داخلية مثل الثقة بالنفس، والفضول تجاه الأشياء، والاستقلالية: أي القدرة على العمل من تلقاء أنفسهم، والحق في أن يكون لهم رأي فيما يفعلون، والدافع الذاتي لجعل الرغبة الاستكشافية تنبع من داخلهم، وتطوير قوى الإبداع والتركيز والملاحظة، والمثابرة لمواجهة التحديات المختلفة والتي تساعدهم على عدم التوقف والإحباط إذا لم تنجح من المرة الأولى؛ بل المحاولة مرة أخرى.
إن هذه الصفات تساعد الأبوين على تنشئتها في الأطفال بالتربية الصحيحة للأبناء وبكونهم قدوة لهم فيها، عن طريق مطالعة أساليب التربية الإيجابية وممارستها والتأكد من أن علاقتك مع طفلك تتجه في المسار الصحيح دائماً.
ومن المفيد أيضاً، الحديث مع الأطفال عن طبيعة الحياة المتقلبة وألا يعيشوا في عالم مثالي من الأوهام، فلا بأس من أن تخبرهم عن إلغاء رحلة ما وأننا يجب أن نبحث عن بدائل لتسلية أنفسنا بدلاً من الشعور بالملل، عوضاً عن أن تقدم لهم الاعتذارات والتعويضات وكأنك تزرع بداخلهم أن سعادتهم فقط هي محور الحياة.
2- بيئة ثرية ولكن بسيطة!
يحتاج الأطفال بيئة ثرية من الأدوات، وكلما كانت أبسط كان هذا أفضل، شجِّعهم على تدوين أفكارهم على الورق بدلاً من الجهاز اللوحي، شجِّعهم على إعادة تدوير المخلفات بدلاً من شراء نماذج جاهزة للأعمال الفنية، أعطهم ورقاً أبيض بدلاً من كراسات التلوين الجاهزة، وإن استطعت أن تصنع معهم ألواناً منزلية عوضاً عن شراء الألوان الجاهزة فسيكون ذلك أفضل.
إن توفير منظار مكبِّر، وقطع خشبية مختلفة الأحجام ومجردة من التفاصيل، وصندوق من بكر الصوف وما إلى ذلك من الأدوات- هو هدية لهم أفضل من كثير من دمى تتحرك وتمشي وتغني بمصاحبة سيمفونية موسيقية. هذه الأدوات المجردة هي التي ستكون مادة ثرية لشغل أوقاتهم بشكل إبداعي.
3- تحديات مختلفة:
قم بجدولة الملل، اجعل في روتين أطفالك وقتاً من دون خطط واضحة، تتوقف فيه الأجهزة الإلكترونية (يمكن استثناء الكمبيوتر إذا تم استخدامه في التعلّم لا المشاهدة السلبية)، واترك طفلك ليملأ وقته، قد يكتشف طفلك هواية جديدة لم يكن يعلم حبه لها من قبلُ، فمثلاً: إذا تركته للتعلم من الكمبيوتر فربما يبهرك بصناعة فيديو عن شيء ما أو عمل تصميم رائع عليه.
لو فرَّغت رأس طفلك من الأفكار، فأعطه تحديات لتجاوزها لتشجيعه على المبادرة والتفكير، كمثال: أعطه شيئاً لا يعرف استخدامه وقل له: اجعل له استخداماً مفيداً، أو أعطه خامات فنية واطلب منه تزيين البيت لحفلة ما، إذا لم يستجب الطفل فربما عليك تكليفه بعض الأعمال الروتينية، كتنظيف شيء في المنزل، فحينها سيجبره عقله على ابتكار أشياء جديدة يفكر فيها للهروب من الملل.
4- كراسة الملل:
إذا كنت ممن لم يترك للطفل سابقاً فرصة تجربة الملل فعليك إدخال هذه المهارة بالتدريج، قد تكون البداية بجعل طفلك يدوّن بعض الأعمال المحببة له والتي يمكن أداؤها في أثناء شعوره بالملل، ستكون مرجعاً هاماً له إذا فشلت محاولاته في إيجاد شيء جديد لعمله، يمكن أن تشمل الكراسة أفكاراً للتواصل مع الأهل أو الأصدقاء، هوايات ورياضات يحبها الطفل، تمثيل شخصيات خيالية، صناعة طبخة بسيطة، قراءة بعض الكتب، وغيرها من الأنشطة.
ليس كل الملل مفيداً
إننا عندما تحدثنا عن الاستفادة من الملل، فقد قرنّاه بشروط مختلفة، كوجود بيئة ثرية وآباء داعمين يساعدون على إنشاء شخصية مستقلة؛ لذلك علينا التفرقة بين ذلك النوع من الملل والملل المضر!
إن الملل المضر هو الذي يشعر به الطفل في بيئة فقيرة بالأدوات المسموح له باستغلالها لتسلية وقته، فالآباء الذين ينهرون أبناءهم دائماً عن تحريك أي شيء من مكانه حتى لا يعم البيت الفوضى يحرمون الأبناء من فرص عظيمة للتعلم.
كذلك، قد يكون ملل الطفل ناشئاً عن رغبته في التواصل مع والديه، فهذا احتياج يجب عليهم تلبيته؛ لضمان صحة نفسية أفضل لأبنائهم.
أيضاً على الآباء احترام اختياراتهم وإبداعاتهم في أوقات مللهم (مهما بدت لهم سخيفة، فإنهم ليسوا من يشعرون بالملل؛ بل أبناؤهم)، ولا بأس بعدها من تشجيعهم على الأفضل، فإن السخرية أو التقليل منهم قد ينتجان أطفالاً محبَطين لا يسعون لتغيير واقعهم ولا القضاء على مللهم.
ختاماً، قد لا يشكرك طفلك إذا أتيحت له أوقات من الملل، لكنه سيتعلم الكثير خلال هذه الأوقات، فلا تحرمه منها. لا تحمِ طفلك من الملل؛ بل وفِّر له ظروف رعاية تنتج شخصاً مستقلاً ممتلئاً بالأفكار التي يواجه بها المواقف المختلفة، ولا تجعل منه بحاجة دائماً إلى "عكاز" التسالي ليمكنه مواصلة الحياة.