تُشكل منظومة حقوق الإنسان الكونية إحدى الدعامات الأساسية للنهوض بالإنسان وبناء العمران، وتتفاوت درجة استفادة الدول من تلك المنظومة حسب درجة انفتاح مجتمعاتها، رغم ما تطرحه بعض أفكارها من جدال داخل المنتظم الدولي، وكذا العالم الإسلامي، بسبب جدلية الكوني والخصوصي، وبسبب الدين ودرجة فهمه واستيعابه.
لقد استفاد المغرب من منظومة حقوق الإنسان بشكل كبير؛ نظراً لانخراطه في معظم المواثيق العالمية والاتفاقيات الدولية، وهو ما ساهم في ملاءمة المغرب الكثير من قوانينه مع الاتفاقيات العالمية، وصياغة دستور 2011 الذي يعده البعض من الدساتير المكرسة للحقوق والحريات، بغض النظر عن الممارسات التطبيقية والتناقضات الذاتية التي يحملها.
وبعيداً عن القضايا الخلافية في بعض الاتفاقيات الدولية التي يرى فيها المجتمع استهدافاً لخصوصيته الحضارية ومنظومته القيمية، فوت المغرب فرصة جديدة للترقي في سلم منظومة حقوق الإنسان، كما فوت عليه فرصة تقليل عدد انتقادات المنتظم الأممي الموجهة للمغرب فيما يخص مجال حماية حقوق الإنسان، يتعلق الأمر هناك بقانون "شروط الشغل والتشغيل المتعلقة بالعمال المنزليين".
ويبدو أن إقدام المغرب على سن نصوص تسد الثغرات القانونية، وتنسجم مع الاتفاقيات الدولية مع التراجع في بعض مقتضياتها لم تسجل فقط في مشروع قانون "شروط الشغل والتشغيل المتعلقة بالعمال المنزليين"، بل سجلت في عدة قوانين، نورد بعضاً منها على الشكل التالي:
أولاً: مدونة الأسرة
سن المغرب بعد مخاض عسير مدونة الأسرة، محدداً السن القانونية للزواج في 18 سنة، وهو ما رأى فيه البعض تكريساً لمقتضى متقدم، إلا أنه تراجع في نفس القانون عن ذلك المقتضى بتخويل القاضي السلطة التقديرية لتزويج قاصرين دون 18 سنة، فجاءت توصية المجلس الوطني لحقوق الإنسان تطالب بضمان التنفيذ الصارم للمقتضيات المرتبطة بالحد الأدنى لسن الزواج (18 سنة).
وجاءت توصية اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة تدعو المغرب إلى "تعديل مشروع القانون لتحديد الثامنة عشرة سناً دُنيا للزواج، وإلغاء المادة 20 من قانون الأسرة التي تجيز للقاضي إعطاء الإذن بالزواج قبل السن القانونية المحددة، وهي سن 18 عاماً، والحرص على أن يعقد الزواج برضا الطرفين رضا لا إكراه فيه".
ثانياً: قانون الجنسية
اعترف قانون الجنسية بعد تعديله في عام 2007، للمرأة بحق نقل جنسيتها المغربية بشكل تلقائي إلى أبنائها بأثر رجعي، إلى جانب منح الرجل حق نقل الجنسية المغربية إلى زوجته الأجنبية، وهو ما رأى فيه البعض طفرة نوعية في سياق رفع التحفظات عن اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، فإن المغرب استثنى المرأة من حق نقل جنسيتها لزوجها الأجنبي على قدم المساواة مع الرجل.
فجاءت توصية المجلس الوطني لحقوق الإنسان تطالب بتعديل قانون الجنسية وفقاً لأحكام الفصل 19 من الدستور والمادة 9 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، من أجل منح المرأة حق اكتساب زوجها الأجنبي للجنسية المغربية على قدم المساواة مع الرجل، وفقاً لنفس الشروط المنصوص عليها في المقتضيات المرتبطة باكتساب المرأة الأجنبية المتزوجة من مغربي للجنسية المغربية.
ثالثاً: مشروع قانون "شروط الشغل والتشغيل المتعلقة بالعمال المنزليين"
جاء مشروع قانون "شروط الشغل والتشغيل المتعلقة بالعمال المنزليين"؛ لسد ثغرة قانونية في هذا المجال، وهو ما عده البعض خطوة متقدمة، إلا أن إصرار الحكومة على جعل السن الأدنى للاستخدام في العمل المنزلي 18 سنة والاقتصار على سن 16 سنة شكل خرقاً لعدة تعهدات دولية، وهو ما دفع المجلس الوطني لحقوق الإنسان إلى إصدار توصية تنص على تحديد الحد الأدنى للاستخدام في العمل المنزلي في 18 سنة.
وجاءت توصية من المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة، تدعو المغرب إلى اعتماد مشروع القانون الذي يحدد شروط عمل العمال المنزليين وتشغيلهم، مع الحرص على أن يحدد هذا القانون سن 18 عاماً سناً دُنيا، ويضمن تمتع العمال المنزليين بشروط عمل عادلة وملائمة أسوة بغيرهم من العمال، وبإنشاء آلية تفتيش لرصد ظروف عملهم.
رابعاً: اتفاقية "سيداو"
رفع المغرب تحفظاته على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وصادق على بروتوكولها الاختياري، ما جعل البعض يضع المغرب في وضع متقدم مقارنة مع باقي الدول العربية، لكنه حافظ على بيانه التفسيري بشأن الفقرة 4 من المادة 15 من الاتفاقية (منح نفس الحقوق للرجل والمرأة فيما يتعلق بالقانون المتصل بحركة الأشخاص وحرية اختيار محل سكناهم وإقامتهم).
ولهذا أوصى المجلس الوطني لحقوق الإنسان بضرورة "سحب الإعلان المتعلق بالفقرة 4 من المادة 15 من الاتفاقية، باعتبار أن الدستور يمنح لجميع المواطنين الحق في حرية اختيار مكان إقامتهم والتنقل داخل التراب الوطني.
إن الخلاصة المترتبة على كل ما سبق ذكره أو إغفاله تؤكد أن المغرب في غنى عن كثير من الانتقادات التي تأتي من المنتظم الدولي والمؤسسات الوطنية، إذ لا مبرر لسن مقتضيات قانونية متقدمة والتراجع عنها بمنطق الاستثناء والتقدير، ورغم أن هناك من يرجع هذا الارتجاف الحقوقي -إن صح التعبير- إلى سير المغرب بسرعتين؛ الأولى حقوقية مسرعة، والثانية ثقافية كابحة، وأياً كان السبب لا يجب تضييع الفرص.
وعليه يجب استثمار التراكم في مجال حقوق الإنسان حتى يتسنى للمغرب التفرغ إلى قضايا تشكل موضوع ابتزاز دولي، يتعلق الأمر بقضية الصحراء، ورفع تجريم الشذوذ الجنسي، وإلغاء تجريم العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج، ورفع الحظر عن الإجهاض والإعدام والإفطار العلني في رمضان وغيرها من القضايا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.