تبدو فكرة الذهاب إلى الطبيب النفسي داخل مجتمعاتنا العربية مُخيفة لدى الكثير منا، ربما جاءت هذه الفكرة نتيجة الصورة النمطية التي زُرعت في عقولنا من خلال صورة الطبيب النفسي في السينما أو الدراما، والتي دائماً ما تشير إلى أن الطبيب النفسي ربما يكون مستغلاً لحالة المريض الجالس أمامه، أو أنه مجرد مريض آخر في ثوب طبيب، هناك أفكار كثيرة حول هيئة العيادة النفسية كيف تبدو، وهل هي تشبه ما نشاهده على شاشات التلفاز؟
لكن يبقى دائماً السؤال الحائر: لماذا تخشى الأغلبية الذهاب إلى الطبيب النفسي؟
لا أجد إجابة واضحة وشاملة لهذا التساؤل، لكن هناك إجابة مقنعة بالنسبة لي، هي أننا نخشى الوقوف أمام أنفسنا، نخشى تعري أرواحنا، إننا ندرك حجم الضعف داخلنا ومساحة الاحتياج التي نريدها، ونظراً لصعوبة تحقيق هذا الاحتياج نقف عاجزين أمام إحساس الكشف عن الجزء المستور من مشاعرنا، حتى نتفادى رؤية مدى هشاشة هذه المشاعر المتآكلة.
يقول الطبيب النفسي كارل يونج: "سيفعل الناس أي شيء، مهما كان سخيفاً، لتجنب مواجهة ضمائرهم".
يقول أحد الروائيين: "ليس ثمة ما يرغب فيه المرء أكثر من تحرّره من بلاء، لكن ليس ثمة ما يخشاه أكثر من سلبه سنده". وأظن أن هاتين المقولتين دليل قاطع على خوف البشر من مواجهة أنفسهم.
أؤمن أن لكل منا غرفة مظلمة داخل روحه، تلك التي يخبّئ فيها كل الأشياء التي افتقدها، أو التي يريد الحفاظ بها على الأحلام التي لم تكتمل، وفيها النُّدوب التي نخفيها عن أعين من هم حولنا، المشاعر المُنكسرة التي تَسبَّب فيها الآخرون، الدموع التي نأَبَى أن نُخرجها أمام من رحلوا عنا، الهواجس وتخيلات الوحوش التي تسكن تحت السرير، تلك الغُرفة التي نخشى على أنفسنا أن ندخلها حتى لا نتساقط أمام هذا العالم.
هذه الغُرفة التي أردت أن أعرف ما تحتويه بداخلها، ليأتي قرار الذهاب إلى العيادة النفسية، كان الأمر أشبه بإحساس المغامرة، كمَن قرَّر الغوص داخل أعماق روحه، وليس لقاء مريض بطبيب، على سبيل المثال كأنك ذاهب إلى طيب الأسنان، تشجّعت وقمت بحجز موعدي، استعددت جيداً، وخلقت مئات السيناريوهات في رأسي، وما الذي عليّ قولُه.
شعرت الطبيبة بتوتري فحاولت تهدئتي، إلى أن جاء سؤالها الأول لماذا أنت هنا؟ لتأتي كلمات بعيدة عن تلك السيناريوهات التي كنت خلقتها لذاتي، وكنت أنوي البوح بها.
لديّ شعور دائم بأنّني في المُنتصف.
أعيش النسخة الأسوأ مني، نشاز اللّحن.
والصورة الأكثر قبحاً.
الخط الأعوج داخل الخطوط المُستقيمة.
النّقطة الأكثر سواداً في صفحةٍ ناصعة البياض.
الدموع المُنهمرة لحظة الفرح، الذات الشّاذة وسَط ذلك الجمعِ.
الشخص السيئ في رواية أحدهم.
مصاباً بالتفكير المُبالغ فيهِ، ألوم نفسي على أشياء كثيرة لم أفعلها، ولا أعاقبها على أفعالي الحقيقية وأتناساها، مُتمادياً في حماقتي، مُنغمساً طوال الوقت في التفاصيل، أفكر في العربات التي تنقلب في الطريق، والطفل الذي لم يحصل على لعبتهِ، والأب الذي لم يستطع أن يشتريها له، في العجوز الذي يشرب قهوته ويحدق في الفراغ، وأشياء كثيرة لا دخل لي فيها.
مرض التفكير الذي لا علاج لهُ ولا شفاء منهُ، والذي دفع كلّ من حولي أن يتّهمني بالكآبة، أحياناً أفكر ماذا لو كُنت مُصاباً بمرض آخر؟ ربما كُنت سأجد سبباً كافياً لحزني، أو للبكاء في أيّ لحظة دون أن يسألني أحدهم: لماذا تبكي؟
ربما كُنت سأكتسب عطف الآخرين، لكنّي مريض بالتفكير وليس لي دخل في هذا، صدقني لا أحب هذا الدور مطلقاً، ولو أراد الله أن أكون في غير هذا القالب وخارج هذا الدور لَفعل، إنها حكمة الله في خلقه.
قالت لي الطبيبة وهي تُمسك بورقتها تكتب لي جرعات العلاج، التي ربما يمكنها أن تعيد لي توازني في هذه الحياة: "عقلك غابة من الشّك، تتخذه كصديق صغير يسكن معك في أوهامك، تريد أن تعرف الكثير عما يدور حولك، ولا تعرف شيئاً عنكَ".
لا أخفيكم سراً أن الأمر كان صعباً ومُرهِقاً، ستضطر وأنت جالس أمام الطبيب إلى استرجاع ذكرياتك التي لطالما ظننت أنك تخلّصت منها، لتجدها مدفونة في مكان عميق داخل روحك، وتجد نفسك ولأول مرة تقول بصوت عالٍ: "أنا أعاني وأريد أن أستريح"، غير أن الأعراض الجانبية للدواء كادت تصيب عقلي بالجنون.
في نهاية الأمر.. العلاج النفسي طويل سيأخذ من وقتك ومن مالك، في مجتمعنا الذي يرى أن الذهاب إلى العيادة النفسية أمر ثانوي ومجرد رحلة ترفيهية، أتذكر جملة قرأتها يوماً على لسان أحد مرضى الاكتئاب يقول: أتمنى لو أني كنت أصبت بالسرطان بدلاً من الاكتئاب، إن كان السرطان يأكل خلايا الجسد فالاكتئاب يأكل روحي ويعتصر أنفاسي.
لذا علينا أن نتعامل مع العلاج النفسي على أنه أمر ضروري، حتى لو كان الطريق في بدايته صعباً، حتى لو اضطررت أن تخفي هذا الأمر على المقربين من حولك تجنباً لنظراتهم الفاضحة بأوجاعك.
لم يعد العالم الذي نعيشه الآن يشبه العالم الذي كنا نتخيله ونحن صغار، لذلك من الواجب علينا أن نحصّن أرواحنا جيداً حتى لا تصبح أنفسنا مباحة تحت وطأة هذا العالم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.