في الصالة يجلس الأب غاضباً والقلق يقبض صدر زوجته، ينتظران عودة ابنهما متأخراً، بعد أن أوصله أحد شبان الحي الذي يتسكع معه ومع آخرين، تحيط بهم شكوك تعاطي المخدرات والسير الخاطئ، يدخل غرفته، يغلق على نفسه الباب، فجأة تقول الأم: "خلينا ندورله على عروسة عشان يعقل".
الكثير من قضايا القتل في المحاكم كانت تنتهي ويتحفظ عليها على أن القاتل مريض نفسي! كيف ومتى؟ بعد التحقيق يتبين أن الزوج يعاني من أمراض نفسية وعقلية، وقد قام بقتل زوجته/ابنه تحت تأثير مرضه.
الكثير من القصص قائمة على أن الزواج مصحة عقلية ونفسية، هل حقاً الآباء الجاهلون بدلاً من أن يربوا أولادهم وبناتهم يختارون تزويجهم، لأن الزواج أسهل من التربية والعلاج إن كان مريضاً نفسياً؟
صحيحٌ أن الزواج يربي الإنسان ويجعله ذا مسؤولية ووعي أكبر، لكن حين يقوم على طرفين لديهما الوعاء الجاهز لاستقبال مرحلة الزواج، شخصين بكامل الجاهزية والقرار، أدركا شخصية وعقل بعضهما البعض، وتأكدا أنهما يصلحان معاً لِأَنْ يبنيا بيتاً ويؤسسا عائلة وينجبا أطفالاً يصبحون مواطنين صالحين، ويكملان الحياة بعلاقة صحية.
لكن ليس هذا ما يحدث دائماً.
كم مرة تردد في مجالس الجارات "بكرة يتزوج ويخلف ويعقل"، "بكرة بيجيها عريس بخليها تعقل"؟ وتقول إحداهن لابنتها: "هو صح عقلاته طايشين بس انتي بشطارتك بتخليه يعقل".
لماذا هذه الفكرة في مجتمعنا، لماذا الزواج هو الحل السحري، لماذا صالة الأفراح أقرب إلينا من مركز علاج المخدارت أو الطبيب النفسي؟ ربما لأننا نرى الزواج أولى من أي شيء في حياة الفرد، ومن لم يتزوج لا بد أنه ليس إنساناً طبيعياً ولديه مشكلة خفية وإلخ وإلخ من "اللتّ والعجن" على ألسنة الناس، ولأنه أحياناً يكون مَهرباً وأحياناً يكون يد النجدة من جحيم عائلة سيئة، وحجز مقعد في القطار خوفاً من غول العنوسة، فهو قارب نجاة، حتى لو كان الربان مجنوناً ويتعاطى الحشيش ولديه وسواس قهري أو يعاني من العصبية التي تؤدي للضرب والقتل!
ومن جهةٍ أخرى، يجهل الأهل أن ابنهم أو ابنتهم يعانيان من أحد الأمراض، خاصة أننا فقراء معرفة في الصحة النفسية، ولا نعطيها الاهتمام، ونعتبر أمراضها نوعاً من الدلال والتمثيل وأشياء خلقية لا تتغير، فلا يهم أن أحدهم يعاني من الوسواس القهري، يكفينا أنه لا يتألم من أحد أعضاء جسده ولا ينزف دماً!
وأحياناً يعرف الأهل علة ابنهم ويكملون في البحث له عن شريكة، أو يقبلون عرض الزواج لابنتهم من أجل أن "آخرتها يتزوج ويعقل"، ثم كما يقول المثل الشعبي "بتروح السكرة وبتيجي الفكرة"، تنتهي الحفلات وتبدأ اليوميات والمشاكل الصغيرة التي تكبر إما لتصبح جريمة أو تصبح طفلاً مشوهاً نفسياً.
أيضاً فمن يقبل الارتباط والإكمال مع شريك شعر بأنه يعاني من مرض نفسي أو لديه سلوكيات خاطئة مثل تجارة الحشيش أو التعاطي أو السادية والضرب، وظن أنه حقاً سيتغير بعد الزواج فلقد جنى على نفسه وأطفاله عمراً من التعب وفقر الراحة والأمان. من ذا الذي يعيش مع مريض لديه مرض الشك، في أي لحظة يمكن أن يرفع سكيناً لينهي شكه على شريكه أو ابنته، من يأمن على نفسه وأطفاله من إنسان لديه عصبية مفرطة تجعله يضرب ويكسر كل شيء حوله؟
الضريبة التي ستُدفع بسبب زواج يهيأ لهم أنه مصحة علاجية ليست ضريبة فردية، هي ضريبة جماعية يدفعها الشريك والأطفال. أذكر جملة عالقة في رأسي على لسان الطفل زين في فيلم كفر ناحوم، الذي يتكلم عن طفل يرفع دعوى قضائية ضد والديه لإهمالهما له، يقول في نهاية الفيلم "بدي الكبار يسمعوا شو عم قول، أنا بدي الكبار يلي ما بيقدروا يربوا ما يجيبوا ولاد".
جملة تقول الكثير.
هذا المقال ليس لنبذ المرضى النفسيين، وليس نداءً لإعدامهم مجتمعياً وعدم الاقتراب منهم والزواج منهم، إنما هو إعادة صياغة لفكرة أن الزواج ليس مصحة عقلية، فالمريض عليه أن يذهب للطبيب وليس للمأذون، عليه أن يبدأ برحلة علاج لا أن ينجب الأطفال ويتركهم للعُقد النفسية، هو مقال موجّه للأهالي أولاً، وللذين يقبلون بعلاقة كهذه وهم يعلمون تفاصيلها.
التربية أولاً، والعلاج وطلب المساعدة وتصحيح السلوك وتقويم النفس، ثم الزواج والإنجاب، أنت تحتاج إلى طبيب وليس لعريس أو عروس.
في الصالة يجلس الأب غاضباً، والقلق يقبض صدر زوجته، ينتظران عودة ابنهما متأخراً بعد أن أوصله أحد شبان الحي الذي يتسكع معه ومع آخرين تحيط بهم شكوك تعاطي المخدرات والسير الخاطئ، يدخل غرفته يغلق على نفسه الباب، فجأة تقول الأم: "لازم نلاقي طريقة نرجع الولد على الطريق الصحيح، ونطلب مساعدة مختص، ليعي ويستقر، ويبدأ حياته من جديد… ثم يتزوج".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.