في حين انشغل صانعو السياسات بفجوة اللقاحات بين مختلف البلدان الغنية والفقيرة، يجب علينا الاهتمام بالفجوة المعرفية، وبالتالي الفجوة في تلقي اللقاح بداخل البلد ذاته، خصوصاً البلاد النامية مثل مصر، حيث جزء من المجتمع يتابع الإعلام العام فقط، والجزء الآخر يستطيع الوصول إلى محتوى توعوي من جميع أنحاء العالم بنقرة من أصابعه.
جلست خلف شاشة الكمبيوتر أشرح لطلاب الإعلام ما هو إعلان الخدمة العامة، وكيف يجب دراسة وفهم الجمهور المستهدف للتحدث إليهم بلغة تتناسب مع ثقافتهم وأسلوب حياتهم، وكان الدرس بسيطاً: اعرف جمهورك، تعرّف على مخاوفهم واحتياجاتهم، ثم صغ المحتوى ليتماشى معهم. وبينما كنا نصارع مشاكل الإنترنت والزوم، كانت الدولة المصرية تكثف مجهودات التطعيم ضد فيروس كورونا المستجد، التي بدأت في مارس/آذار الماضي، ولكن على ما يبدو، فالقائمون على حملة التوعية للقاح كورونا تغيبوا عن درس إعلان الخدمة العامة، أو ربما لم تتعاون اتصالات الإنترنت والزوم هذا اليوم.
بينما جلست أنا والطلبة نناقش كيفية التواصل مع طبقات المجتمع المختلفة باهتماماتها وثقافتها العديدة، أطلقت وزارة الصحة والإسكان إعلاناً للتوعية بلقاح كورونا، لتحث الشعب على التسجيل لتلقي اللقاح، تصوّرنا أن الإعلان سيغطي كل نواحي القلق والتساؤلات التي تدور في رأس الجميع، وإننا كجمهور سنواجه سيلاً من المحتوى التوعوي عن أهمية اللقاح وكيفية التسجيل، ولكن للأسف لم يكن هذا الواقع على الإطلاق.
تلقّى حوالي 5.4 مليون مواطن على الأقل جرعة واحدة من اللقاح (نحو 5.4% من الشعب)، ولكن يبقى سؤال ملحّ: أي شريحة من المجتمع تم تلقيحها؟ في ظل غياب محتوى توعوي يرد على جميع التساؤلات ويخاطب جميع الفئات، مازالت الكثير من شرائح المجتمع متخوفة من اللقاح وتداعياته، أو غير قادرة على التسجيل لتلقيه، في حين حصلت فئة أخرى أكثر ثقافة واتصالاً بالعالم ومحتواه المختلف على نصيب الأسد من اللقاح المتوفر حتى الآن.
ظهر الممثل المحبوب خالد الصاوي في الإعلان الذي يعرض منذ شهر مايو (أيار) وهو يتجول في المدينة، قائلاً للباعة ورائدي المقهى إنه حصل على اللقاح، وإننا يجب علينا جميعاً أخذ اللقاح لتقليل الانتشار والأعراض، ثم شرح الفئات ذات الأولوية، وأن أي مواطن فوق سن الـ18 يمكنه التسجيل عبر الإنترنت أو الخط الساخن.
ثم أخذ الإعلان يشرح كيف أن اللقاح سيسمح بعودة اللمة على عزائم الطعام، في مشهد يتناول فيه الفنان الغداء في فيلا فاخرة مع الأسرة، ثم يتحدث مع الفنان أحمد فهمي الذي يهاب الإبر فيطمئنه الصاوي، ويحاول إقناعه بأن اللقاح سيمكّنه من السفر إلى الخارج واستكمال أعماله الفنية المتوقفة، وتخيلت أن هذا إعلان ضمن سلسلة إعلانات سوف تطرح لمخاطبة الفئات المتعددة والإجابة عن الأسئلة والمخاوف المختلفة، ولكن لم يكن هذا الواقع، فقد كان ذلك الإعلان والوحيد المذاع من قبل الوزارة.
حوالي 30% من سكان مصر يعيشون تحت خط الفقر، أي أن 33 مليون مصري يتقاضون أقل من 3.2 دولار يومياً، ومثلهم مثل معظم سكان الدول النامية، فالسفر للخارج -أو حتى الداخل- ومآدب الطعام الفارهة ليست من أولويات المواطن المصري المتوسط.
لم يتناول الإعلان أياً من مخاوف معظم المواطنين حول العالم، وبالتحديد الأعراض الجانبية قصيرة وطويلة المدى للقاح، وإذا ما كان اللقاح مجانياً للجميع، وكيفية التسجيل، والأهم أهمية التطعيم بالتفصيل والتبسيط.
الكثير من المواطنين، وخاصة كبار السن، لا يمكنهم التسجيل لأخد اللقاح عبر الموقع الإلكتروني، فـ27% من الشعب أميّون، وحوالي 43% ليست لديهم خدمة إنترنت، الموقع الإلكتروني للتسجيل لا يظهر حتى في أوائل صفحات البحث على جوجل، هناك أيضاً خيار التسجيل عبر الخط الساخن، وهنا نرجع للمفترض الساذج الذي لم يتحقق، وهو أننا سنواجه سيلاً من حملات التوعية التي ستُرسخ رقم الخط الساخن بالأذهان على سبيل المثال.
لكن أحد موظفي مركز اللقاح كان يشكو من أنه لم يتم تحديد موعد له لتلقي اللقاح، رغم أنه سجل كطاقم طبي قبل أسابيع عدة، ولكنني اكتشفت بعد الحديث معه أنه لم يكمل خطوات التسجيل بعدما اعتقد أن رسالة تأكيد الرقم الهاتفي هي رقم التسجيل، وتحدثت مع ستة أشخاص على الأقل، للأسف مروا بنفس التجربة، وكانوا من كبار السن أو متوسطي الأعمار، الذين لم يُكملوا تعليمهم، حيث انتظروا أشهراً لتحديد موعد تطعيم لن يأتي أبداً.
وهناك أيضاً مخاوف اقتصادية لم يتطرّق إليها الإعلان، فحدث ارتباك في بداية الأمر حول عدم مجانية اللقاح، حيث نشرت وسائل الإعلام أخباراً عن أن اللقاح سيكلف الفرد 400 جنيه مصري، في فبراير/شباط الماضي، ما أدى إلى إذعان البعض للتسجيل في البداية، ضمنهم سيدة في الخمسين من عمرها، قامت بالتسجيل فوراً، حين صححتُ لها المعلومة، وقال لي سائق تاكسي إنه لن يتلقى اللقاح لظنّه أنه سيمرض ويضطر للغياب عن عمله، وبالتالي انقطاع رزقه عدة أيام.
وتشحب هذه المشاكل اللوجيستيكية بالمقارنة بالمخاوف العالمية التي من قبل "أعرف شخصاً ما يعرف شخصاً آخر تلقى اللقاح، ثم مرض مرضاً ما بعد فترة ما".
وبينما يحث الإعلان على تلقي اللقاح للعودة إلى السفر، ناقَشَت برامج التوك شو كميات اللقاح المتوقع استقبالها، وكيف أن الدولة ستقوم بتصنيع اللقاح محلياً، بل ولجأت بعض البرامج لاستضافة أطباء صدر غير مختصين باللقاحات أو علم الفيروسات، للتحدث عن مخاطر اللقاح في فقرات تحت عناوين من نوعية "آراء متضاربة حول وفاة 6 أشخاص بسبب لقاح كورونا وعلى المواطن أخذ القرار".
على الصعيد الآخر، غير الرسمي، من المنصات الإعلامية، انشغل مبسّطو العلوم على وسائل التواصل الاجتماعي بتوعية الجمهور بطرق شيقة ومبسطة. انشغل المدونون مثل "إسبيتالية" و "الدكتور" وغيرهم بتحضير فيديوهات قصيرة ومسلية، تجيب عن مخاوف المتابعين، وتصحح المفاهيم الخاطئة الشائعة، وحتى الرد بالدلائل والتحقيق على الفيديوهات المتداولة على منصات التواصل. كما قاموا بشرح الفروقات بين اللقاحات المتوفرة في مصر، وتدوين تجربتهم في تلقي اللقاح خطوة بخطوة على مدار أيام، ما لاقى رواجاً وطمأنَ الكثيرين، وقامت أيضاً بعض المواقع الإلكترونية بتطوير فيديو مفصل يشرح كيفية التسجيل لتلقي اللقاح.
ذلك الارتباك وغياب التوعية والمعلومة على المنصات العامة، وتبايُن المعلومات المطروحة وطرق طرحها بين الإعلام المحلي والمنصات الإلكترونية والإعلام العالمي، أدى إلى فجوة معلوماتية وتوعوية بين فئات الشعب المتابعة فقط للقنوات المحلية، والفئات التي تتمتع بمحتوى عالمي بجميع اللغات وبالمنصات الإلكترونية بنقرة من أصابعها.
وبسبب هذه الفجوة نجد تبايناً قوياً في الإقبال على مراكز التطعيم حول البلد؛ فتجد أنه في حين امتلأت المراكز المتواجدة في المناطق ذات الدخل المرتفع مثل مصر الجديدة، في شهري أبريل (نيسان) ومايو (أيار)، خلت مراكز أخرى في أحياء ذات دخل أدنى.
تحدثتُ إلى 15 مواطناً على الأقل ممن قاموا بنقل تسجيلهم من أحيائهم الراقية إلى مناطق أخرى أقل دخلاً للتعجيل بمواعيد تلقي اللقاح، وبالفعل حُددت مواعيد لهم في خلال أيام معدودات بعد انتظارهم أسابيع طويلة لتلقي اللقاح في مراكزهم الأصلية. وقال لي موظف بمركز طبي في مدينة بدر إن معظم الذين يأتون لتلقي اللقاح ليسوا من أهل المنطقة. يشير ذلك لإقبال الطبقات الأكثر تعليماً ودخلاً، أو الفئات العمرية الأصغر المتمكنة من تصفح الإنترنت، على تلقي اللقاح، في غياب من الطبقات الأقل تعليماً أو الأكبر سناً أو أقل تمكناً من التكنولوجيا. وهناك أيضاً الفئات الأكثر حظاً الذين تلقوا اللقاح دون انتظار دورهم الطبيعي، لتوفير مؤسساتهم أو نواديهم الرياضية اللقاح للأعضاء.
ويترك ذلك شريحة المجتمع الأكثر عرضة للإصابة ودخول المستشفى، وبالتحديد كبار السن، وخاصة من الشرائح الأقل دخلاً، في خطر. ومازال الإعلان يتحدث عن السفر إلى الخارج! فمن المؤكد أن سائق التاكسي الذي يخشى أن يأخذ لقاحاً -يمكنه إنقاذ حياته- حتى لا يتغيب عن العمل بضعة أيام، سيقوم بانتهاز الفرصة في الحال إذا علم أن ذلك اللقاح سيمكّنه من العودة لقضاء صيفه على الريفيرا الفرنسية!.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.