النقد كما عرفه علماء اللغة هو تمييز الرديء من الجيد فيما يُعرض من نص، كما عُرف أيضاً بأنه تمييز الدراهم لِإخراج الزائف منها، ويظهر من ذلك أنه يشير إلى معنى يطمح إليه كل أحد، معنى إيجابي خالص، فلماذا أصبحت هذه الكلمة سيئة السمعة في أوساطنا، أم أن التطبيق الفعلي لها يختلف عن معناها هذا في كثير من الأحيان مما يصعب على النفوس تقبله؟
يكون دائماً الدافع من وراء ممارسة هذا السلوك عاملاً مهماً في توجيه النقد والوصول به إلى نتائج إيجابية، فإذا لم يتحقق الدافع الجيد تكون المشكلة في التوجه منذ البداية، كما توجد مشكلة في المعنى ذاته أن نمارس النقد على نحو خاطئ دون امتلاك أدوات تجعلنا نصل به إلى فائدة.
النقد مرتبط بالوصول إلى الحق، لا ينفك أحدهما عن الآخر، حيث هذا الهدف النهائي له، وبالتالي إذا كان دافعنا في نقدنا لأنفسنا أو الآخرين هو الوصول إلى الحق فمن المفترض أن يجري ذلك على نحو سليم، إلا أنه تكمن مشكلته في كون هذا الهدف يستلزم تحققه في كلا الطرفين المنتقِد والمنتقَد، فَمجرد حدوث الخلل عند أحدهما يعني أنه لن يتم على نحو صحيح إما في توجيههِ أو في استقباله.
حيث لو قام أحدهم بنقد رأي ما أو شخص ما لا يبتغي بذلك أن يتلمس الحق، فمن الطبيعي أن النقد قد خرج عن معناه وعن قصده، وبالتالي يخرج مشوهاً ولا ينتج عنه سوى مزيد من التعقيد وليس الحل.
كذلك من يتلقى النقد، إذا لم يكن مستعداً لالتماس الحق أو الوقوف عليه، فلن يجدي معه نفعاً؛ إذ ليس لديه استعدادٌ أن يتراجع عن رأيه ويسلم بصحة غيره ولو كان الحق، بل يصل به ذلك إلى عدم نقد نفسه، وفي قول الله للمشركين: "قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا"، كانت النتيجة عدم استجابة المشركين أن يتفكروا لأن هذا نقدٌ لأنفسهم قد يأخذهم إلى حيث لا يريدون، وهو الحق.
في الحديث عن النقد كذلك هناك مسألة أخرى ترتبط بالسلوك ذاته وليس الدافع من ورائه، حيث الحاجة إلى النقد دائمة وملحة لدى كل شخص حتى يتمكن من تفنيد الآراء والمواقف والوصول إلى قناعات شخصية، كما هو لازم في القضايا العامة والتفاعلات بين الناس، وعليه يجب امتلاك الأدوات التي نستطيع بها النقد أو التمييز، وعدم امتلاكها يكون هو الآخر سبباً في حدوثه على نحو غير صحيح.
الوعي بشأن الموضوع الذي يتم نقده والإحاطة بجوانبه تجعل النقد موضوعياً، وعلى العكس فالحديث بغير إدراك كافٍ لأن يجعل الأمر فيه من العبث أكثر مما فيه من الفائدة، وتُفضي إلى عدم تقبله.
لكن المشكلة التي تكمن هنا أيضاً، أننا أصبحنا في زهد عن توعية أنفسنا ولم نزهد في تطلعنا الدائم نحو النقد، فأصبح الرأي الذي ينطلق بصورة مزاجية أكثر من غيره الذي ينطلق مصحوباً بالبينة والمنطق، فهل أمامنا سبيل سوى توعية أنفسنا؟ إذ لا يمكن أن نتوقف عن النقد.
لا شك أن الحديث عن الوعي، وإن اتسعت دائرته، يخص كل إنسان بحسب منطقته الذي يبدي رأيه فيها وبشأن مواقفه التي يتبناها، حتى يكون قادراً على الوقوف فيها على أرضية غير رخوة ويستطيع النقاش من خلالها، أما الأصعب هو كيفية تشكيل هذا الوعي فلا هو أمرٌ يتم شراؤه ولا أمر يأتي عن طريق المصادفة، وإنما نتاج علم وبناء يتم للشخص من خلال التراكم والصبر، وعدم تشكيل ذلك يجعل نقدنا في غير محله مما يصعب على الآخرين التعامل معه.
لأنه دائماً ما يكون الوقوف على أرضية مشتركة من المنطق أو العلم أو الوعي يسهل أمر الانتقاد ويجعله في دائرة الإمكان حتى مع خصمك أو المخالف لك على أبعد مستوى، بينما انتفاء وجود هذه الأرضية تجعل الانتقاد أو التفاهم صعباً حتى من المقربين إليك، لأن العقل يجبر الآخرين على الاستماع إليك، وكما يقولون: "العقل فن واحدٌ والجنون فنون".
وعلى هذا النحو يبقى النقد بين فساد الدوافع التي تدفع إليه من جانب، وممارسته على نحو غير صحيح من جانب آخر، سبيلاً إلى الفرقة وإلى الخلاف ولا يزيد صاحب رأيٍ إلا تمسكاً به.
تبقى حاجتنا إلى النقد مستمرة فلا ينفك عن التفكير الذي هو عمل العقل الدائم، وحاجتنا إلى التعلم كذلك، وحاجتنا إلى الأخلاق، حتى يتم نقاشنا في جو هادئ، وإن لم يَنتج عنه ثمرة تجدي فلا أقل من ألا يُفضي إلى خلاف.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.